نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى {يا أيها الناس إن وعد الله حق}

          ░8▒ (بابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [فاطر:5]) أي: بالبعثِ والجزاء ({حَقٌّ}) ثابتٌ كائنٌ لا محالة ({فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}) أي: فلا تخدعنَّكم الدُّنيا، ولا يذهلنَّكم التَّمتُّع والتَّلذذ بزهرتها ومنافعها عن العمل للآخرة، وطلب ما عند الله من الثَّواب.
          ({وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]) وهو الشَّيطان؛ لأنَّ ذلك ديدنه فإنَّه يمنيكم الأماني الكاذبة ويقول: إنَّ الله غنيٌّ عن عبادتك وعن تعذيبك، وقد نهى الله ╡ عن الاغترار به، وبيَّن لنا عداوته؛ لئلَّا يلتفت إلى تسويلهِ وتزيينه لنا الشَّهوات المُرْدية، ويقال: هو أن يغترَّ بالله فيعمل المعصية، ويتمنَّى المغفرة.
          ({إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]) ظاهر العداوة، وقد فعل بأبيكم ما فعلَ وأنتم تعاملونه معاملةَ من لا علم له بأحواله ({فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً}) في عقائدكُم وأفعالِكم، ولا يوجدُ منكم (1) إلَّا ما يدلُّ على معاداته ومغاضبته في سرِّكم وجهركم، ثمَّ لخصَّ سرَّ أمره وخطأ من اتَّبعه بأنَّ غرضه الَّذي يؤمُّه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك بقوله:
          ({إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]) فهذا هو العدوُّ المبين، فنسألُ الله القويَّ العزيز أن يجعلنا أعداءَ الشَّيطان، وأن يرزقنَا اتِّباع كتابه والاقتفاء برسوله إنَّه على ما يشاء قديرٌ، وهكذا سبقت الآيتان المذكورتان بتمامهما في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذرٍّ هكذا: <{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} الآية إلى قوله: {السَّعِيرِ}>.
          (جَمْعُهُ: سُعُرٌ) أي: السَّعير، فعيل بمعنى: مفعول، من السَّعْر _بفتح أوله وسكون عينه_، وهو التهابُ النَّار، وجمعه: سُعُر _بضمتين_ (وَ قَالَ مُجَاهِدٌ) هو: ابن جبرٍ (الْغَرُورُ) بفتح الغين: (الشَّيْطَانُ) ولم يثبت أثر مجاهد إلَّا في رواية الكُشميهني وحدَه، ووصله الفريابيُّ في «تفسيره» عن وَرْقاء، عن ابنِ أبي نَجيحٍ، عن مجاهد وهو تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] وهو على وزن فَعُول بمعنى: فاعلٍ.
          قال الرَّاغب: غررت فلاناً: أصبت غرَّته ونلتُ منه ما أريده، والغِرة _بالكسر_ غفلةٌ في يقظةٍ، والغِرار: غفلةٌ مع غفوةٍ، وأصل ذلك من الغرِّ / وهو الأثر الظَّاهر من الشَّيء، ومنه غرَّة الفرس، وغرار السَّيف: حدُّه، وغرُّ الثَّوب: أثر كَسْره، وقيل: اطوه على غرِّه، وغره كذا غروراً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6].
          فالغرور كلُّ ما يُغر الإنسان من مالٍ وشهوةٍ وشيطانٍ، وقد فسِّر بالشَّيطان إذ هو أخبث الغارين، وقُرء بضم الغين وهو مصدرٌ، وعن بعضهم الغُرُور _بالضم_: الأباطيل.


[1] في هامش الأصل: أي: أنزلوه من أنفسكم منزلة الأعداء وتجنبوا طاعته.