نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الصبر عن محارم الله

          ░20▒ (بابُ: الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّه) أي: محرَّماته، والمحارم [جمع] مَحرمَة _بفتح الميمين وجاء بضم الراء أيضاً_. قال الجوهريُّ: الحرمة: ما لا يحلُّ انتهاكه، وكذا المحرَمة _بفتح الراء وضمها_، والصَّبر: حبس النَّفس عن المكروه، وعقل اللِّسان عن الشَّكوى والمكابدة في تحمُّله، وانتظار الفرج، وتارةً يستعملُ بكلمة «عن»، يقال: صبر عن الزِّنا، وتارةً بكلمة «على» كما في الطَّاعات، يقال: صبر على الصَّلاة ونحوها.
          وقال ذو النُّون: الصَّبر: التَّباعد عن المخالفات، والسُّكون عند تجرُّع الغصص والبليات وإظهار الغِنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
          وقال ابنُ عطاء: الصَّبر الوقوف مع البلاء بحسنِ الأدب.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: يدخل في الصَّبر عن محارم الله: المواظبةُ على الطَّاعات، وعلى الكفِّ عن المحرَّمات، وذلك ينشأ عن علم العبد بقبحها، فالله حرَّمها صيانةً لعبده عن الرَّذائل، فيَحملُ ذلك العاقل على تركها، ولو لم يَرِد على فعلها وعيدٌ، ومنها الحياء منه، والخوف منه أن تُوقِع وعيده فيتركها لسوء عاقبتها، فإنَّ العبد منه بمرأى ومسمعٍ ويبعثه ذلك على الكفِّ عمَّا نهى عنه، ومنها محبَّة الله فإنَّ المحبَّ يُصبِّر نفسه على مراد من يُحب، وأحسن ما وصف به الصَّبر أنَّه حبس النَّفس عن المكروه، وعقل اللِّسان عن الشَّكوى والمكابدة / في تحمُّله، وانتظار الفرج كما مرَّ آنفاً، وقد أثنى الله تعالى على الصَّابرين في عدَّة آيات. وتقدَّم في أوائل «كتاب الإيمان» حديث: ((الصَّبر نصف الإيمان)) معلَّقاً [خ¦2/1-10].
          وقال الرَّاغب: الصَّبر: الإمساك، يقال: صبرتُ الشَّيء: حبستُه وأمسكت عنه، فالصَّبر عند مصيبةٍ يسمى: صبراً، وإن كان في لقاء عدوٍّ يسمى: شجاعةً، وإن كان عن كلامٍ يسمى: كتماناً، وإن كان عن تعاطي ما نُهِيَ عنه سمِّي: عفَّة، وهو المقصود هنا.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على قوله: «الصَّبر عن محارم الله»، كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي نسخةٍ: <╡> وليس في رواية غيره: «وقوله» وإنَّما وقع ({إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} [الزمر:10]) أي: على تجرُّع الغصص، واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير ({أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}) والمراد «بغير حساب»: المبالغة في التَّكثير بالنِّسبة إلينا. وقال ابن عبَّاسٍ ☻ : لا يهتدي إليه حساب الحساب، ولا يعرف، وهو حالٌ من الأجر؛ أي: موفوراً، وذكر في القرآن في خمسة وتسعين موضعاً.
          ومناسبة هذه الآية للتَّرجمة أنَّها صُدِّرت بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر:10] ومن اتَّقى ربَّه كفَّ عن المحرَّمات وفعل الواجبات.
          (وَقَالَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ) كذا في رواية الأكثر، وفي رواية الكُشميهنيِّ: بحذف الباء في «بالصَّبر»، فيكون منصوباً على نزع الخافض.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: والأصل: في الصَّبر، والباء بمعنى: «في»، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّه لا يحتاج إلى هذا، والباء على حالها للإلصاق؛ أي: وجدناه ملتصقاً بالصَّبر، ويجوز أن تكون للاستعانة، وهذا الأثرُ قد وصلهُ أحمد في كتاب «الزهد» بسندٍ صحيحٍ عن مجاهد قال: قال عمر ☺: وجدنا خير عيشنا الصَّبر. وأخرجه أبو نُعيم في «الحلية» من طريق أحمد كذلك. وأخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب «الزهد» من وجهٍ آخر عن مجاهد به. وأخرجه الحاكم من رواية مجاهد عن سعيد بن المسيب عن عمرٍ ☺.
          ثمَّ الصَّبر إن عُدِّي بـ«عن» كان في المعاصي، وإن عدي بـ«على» كان في الطَّاعات، وهو في الآية والحديث، وفي أثرٍ شاملٍ للأمرين.