نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول النبي: «بعثت أنا والساعة كهاتين»

          ░39▒ (بابُ: قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ) أي: كما بين هاتين الإصبعين السَّبابة والوسطى، قال أبو البقاء العكبري في «إعراب / المسند»: «السَّاعة» بالنَّصب والواو فيه بمعنى مع، قال: ولو قُرئ بالرفع لفسد المعنى؛ لأنَّه لا يُقال: بُعِثَت السَّاعةُ، ولا هو في موضع المرفوع لأنَّها لم تُوجد بعد.
          وأجاز غيره الوجهين، بل جزمَ القاضي عياض بأنَّ الرَّفع أحسن، وهو عطفٌ على الضَّمير المرفوع، وَوُجِّه بأنَّها نُزِّلت منزلة الموجود مبالغةً في تحقُّق مجيئها، قال: ويجوز النَّصب، وذكر نحو توجيه أبي البقاء وزاد: أو على ضمير يدلُّ عليه الحال، نحو فانتظروا كما قُدِّر في نحو: جاء البردُ والطَّيالسة أي: فاستعدُّوا.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: والجواب عن الذي اعتلَّ به أبو البقاء أولاً أن يضمنَ بعثت معنى الجمع؛ أي: جمع إرسال الرَّسول، ومجيء السَّاعة نحو هاتين، وعن الثَّاني بالتَّنزيل كما ذكر، قال: ويرجِّح النَّصب ما وقع في تفسير سورة والنَّازعات من هذا الصَّحيح من طريق فُضيل بن سليمان عن أبي حازم بلفظ: ((بعثت والسَّاعة)) فإنَّه ظاهرٌ في أن الواو للمعية.
          ({وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ} [النحل:77]) أي: وما أمر قيام السَّاعة في سرعته وسهولتهِ ({إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ}) أي: إلَّا كرجع الطَّرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها (الآية) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية الأكثرين: ({أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}) أي: أو أمرها أقرب منهُ بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة بل في الآن الذي تبتدئُ فيه، فإنَّه تعالى يحيي الخلائق دفعةً، وما يوجد في دفعةٍ كان في آنٍ. و{أو} للتَّخيير بمعنى: بل، قاله البيضاويُّ كالزُّمخشري.
          وتعقَّبه أبو حيَّان: بأنَّ الإضراب على قسمين، وكلاهما لا يصحُّ هنا. أمَّا أحدهما بأن يكون إبطالاً للإسناد السَّابق، وأنَّه ليس هو المراد، وهذا يستحيلُ هنا لأنَّه يؤول إلى إسنادٍ غير مطابقٍ.
          والثَّاني: بأن يكون انتقالاً من شيءٍ إلى شيءٍ من غير إبطال لذلك الشَّيء السَّابق، وهذا مستحيلٌ هنا للتَّنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السُّرعة، والإخبار بالأقربيَّة فلا يمكن صدقهما معاً، انتهى.
          وقيل: المعنى أنَّ قيام السَّاعة وإن تراخى، فهو عند الله كالشَّيء الذي تقولون فيه هو كلمحِ البصر، أو هو أقربُ مبالغةً في استقرابه.
          ({إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77]) والآية / معطوفةٌ على الحديث من غير فصلٍ، وهو يُوهم أن يكون بقيته، وليس كذلك بل التَّقدير: وقول الله ╡. وقد ثبت ذلك في بعض النُّسخ، ولمَّا أراد البخاريُّ إدخال أشراط السَّاعة ووصف القيامة في «كتاب الرِّقاق» استطردَ من حديث الباب الذي قبله المشتمل على ذكر الموت الدَّال على فناء كلِّ شيءٍ إلى ذكر ما يدلُّ على قرب القيامة، وهو من لطف ترتيبه.