التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب مهر البغي والنكاح الفاسد

          ░51▒ (بَابُ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ.
          وقالَ الحسَنُ: إِذَا تَزَوَّجَ مُحَرَّمَةً وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَهَا مَا أَخَذَتْ، وَلَيْسَ لَهَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ لَهَا صَدَاقُهَا).
          ثمَّ ساق أحاديث:
          5346- أحدُها: حديثُ ابن مسعودٍ عُقْبةَ بن عَمْرٍو: (نَهَى النَّبِيُّ صلعم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ).
          5347- ثانيها: حديثُ عَونِ بن أبي جُحَيفَةَ: (عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلعم الْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ).
          5348- ثالثها: حديثُ أبي حازمٍ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلعم عَنْ كَسْبِ الإِمَاءِ).
          وهذا سلف في الإجارة [خ¦2283]، والأوَّلان في البُيوع [خ¦2237] [خ¦2086]، والأوَّل سلف في الإجارة [خ¦2282] أيضًا.
          والتَّعليق أسندَه ابن أبي شَيْبَة: عن عبد الأعلى، عن سَعِيدٍ، عن مَطَرٍ عنه باللَّفظ الثَّاني، قال: وحدَّثنا هُشَيمٌ عن يُونُسَ عنه باللَّفظ، قال: وعن حمَّادٍ مثلُه، وعن إبراهيمَ: لها الصَّداق، وفي رواية: بطَلَ النِّكاح، وإن دخل بها فلها الصَّداق، وإن لم يكن دخل بها فُرِّق بينهما ولا صَدَاق، وقال الحكم وحمَّادٌ: لها الصَّداق كاملًا، وقال طَاوُسٌ: ليس لها الصَّداق كلُّه، لها بعضُه.
          وقوله: (مُحْرِمةً) ضبطه الدِّمياطيُّ بضمِّ الميم وكسر الرَّاء، وقال ابنُ التِّين: قوله: (مُحَرَّمَة) يريدُ ذاتَ مَحْرَمٍ، قال: وهو بفتح الميم، كذا ضبطه.
          وقوله: (لَهَا صَدَاقُهَا) هو الصَّحيح، وهو قول مالكٍ المشهور؛ لأنَّ الفاسدَ إذا كان في العَقْد قضى بالمُسمَّى، وإن كان في الصَّداق قضى بصَدَاقِ المِثْل، وعن مالكٍ في نِكَاح الخِيَار يمضى بِصَدَاق المثْلِ، وهذا فسادُه في عَقْده، فعلى هذا يكون في هذه المسألة تمضي بِصَدَاقِ المِثْل.
          والنَّهيُ عن ثمنِ الكَلْبِ يشمل كلَّ كلبٍ، وقال ابن التِّين: هو ضَرْبانِ: كلابُ الدُّورِ، والحرْثِ والماشيةِ، فالأوَّل لا يحِلُّ اتخاذُه لأنَّها تروِّع النَّاسَ وتُؤذِيهم، فثمنها حرامٌ، واختُلِف في بيع كلب الصَّيد والماشية وفي أخذِ قيمتهِ إن قُتل.
          (وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ) هو ما يُعطى على الكِهَانة، يقال: حَلَوتهُ، أي أعطيته حُلْوانًا، والحُلْوانُ الرِّشوة، وقيل: أصلُه مِن الحَلَاوة شُبِّه بالشَّي الحُلْوِ، ويقال: حَلَوتُ فلانًا إذا أَطْعَمتهُ الحَلْوى كما يقال: عَسَلته وتَمَرته.
          (وَمَهْرِ الْبَغِيِّ) ثمن الزِّنا، و(البَغِيِّ) بفتح الباء وكسر الغين وتشديد الياء، واحتجَّ به مَن قال: لا صَدَاقَ لمُكْرَهةٍ على الزِّنا، قال الدَّاوديُّ: وليس كذلك لأنَّه ◙ نهى عن قتْلِ النَّفس بغير الحقِّ، وأجمعوا أنَّ مَن قتلَ عبدًا فعليه قيمتُه، ومَن قتلَ حُرًّا فعليه دِيَّته إن اصطلحوا عليها، وفي الخطأ.
          وجمع بين ثمن الكلب وهو مكروهٌ وبين مَهْر البَغِيِّ وحُلْوان الكاهِن وهما حرامٌ؛ لأنَّ الجمع بينهما لا يُوجِب المساواة في الحُكم لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90]، فالعدلُ واجبٌ فعله والإحسان مندوبٌ إليه، وقام الإجماعُ على حُرْمةِ مَهْر البَغِيِّ، ولا يلحق فيه نسبٌ.
          وأمَّا النِّكاح الفاسد فإمَّا في العَقْد وإمَّا في الصَّداق، فما فَسَد في العَقْدِ لا يَنْعَقِد عند أكثر الأُمَّة، ومنه ما يَنْعَقِد عند بعضهم، فما فُسخ قبل البناء ممَّا فَسَد لعقدٍ فلا صَدَاقَ فيه وتردُّ ما أخذت، وما فُسِخ بعده ففيه المسمَّى، وما فَسَد لِصَداقِه كالبيع في فساد ثمنِه أنَّه يُفسَخ قبل الدُّخول ويمضي إذا فات بالدُّخول ويردُّ إلى قيمته.
          وآخر قولِ ابن القاسِمِ: إنَّ كلَّ ما نصَّ الله ورسوله على تحريمه ولا يُختلف فيه، فإنَّه يُفسخ بغير طلاقٍ وإن طلَّق فيه لا يلزم ولا يتوارثان كمتزوِّج الخامسةِ، وأختًا مِن الرَّضاع، والمرأةِ على عمَّتها وخالتِها، ومَن تزوَّج بامرأةٍ فلم يبنِ حتَّى تزوَّج ابنتَها، أو نَكَح في العِدَّة، قال: وكلُّ ما اختلفَ النَّاس في إجازته أو فسخه فالفسخُ فيه بطلاقٍ وتقع فيه الموارثة والطَّلاق والخُلْع بما أخذ ما لم يفسخ، كالمرأة تُزوِّج نفسَها أو تُنكَح بغير وليِّ، أو أَمَةٍ بغير إذن السَّيِّد، أو بِغَررٍ في صَدَاقٍ، إذ لو قضى به قاضٍ لم أَنْقُضْه، وكذلك نِكَاحُ المُحْرِم والشَّغارِ للاختلاف فيها.
          وأمَّا مَن تزوَّج مُحرَّمةً وهما لا يعلمان التَّحريمَ يُفرِّق بينهما فلا حدَّ عليهما، واختلف العلماء في صَدَاقها على قولين بحسب اختلاف / قول الحسَنِ البصريِّ.
          وقوله: (لَهَا مَا أَخَذَتْ) يعني صَدَاقها المسمَّى.
          وقوله بعد ذلك: (لَهَا صَدَاقُهَا) يريد صَدَاقَ مِثْلها، وسائرُ الفقهاء على هذين القولين، طائفةٌ تقول بِصَداقِ المِثْل، وأخرى تقول المسمَّى، قلتُ: وقد أسلفنا قولَ مَن قال: لها بعضُ الصَّداق.
          وأمَّا مَن تزوَّج محرَّمةً وهو عالمٌ بالتَّحريم، فقال مالكٌ وأبو يوسف ومحمَّد والشَّافعيُّ: عليه الحدُّ ولا صَدَاقَ في ذلك، وقال الثَّوريُّ وأبو حنيفة: لا حدَّ عليه، وإن عَلِمَ عُزِّر، قال أبو حنيفة: ولا يبلغ به أربعين.
          وفرَّق ابنُ القاسم بين الشَّراء والنِّكاح، فأوجبَ في نِكَاحه مُحرَّمةً إذا عَلِم تحريمها الحدَّ، ولا حدَّ عليه إذا اشتراها ووطئها وهو عالِمٌ بتحريمها، وسائرُ الفقهاء غيرُ الكوفيِّين لا يُفرِّق بين النِّكاح والمِلْك في ذلك ويوجبون الحدَّ في كِلَا الوجهين.
          وحجَّةُ أبي حنيفةَ أنَّ العَقْدَ شُبْهةٌ وإن كان فاسدًا كما لو وَطِئَ جاريةً بينه وبين شريكه، فالوطء محرَّمٌ باتِّفاقٍ، ولا حدَّ عليه للشُّبهة، وكذلك الأنكحةُ الفاسدة كنِكَاح المتعةِ وبلا وليٍّ ولا شهودٍ ووطء الحائض والمعتكِفَةِ والمُحْرِمة، وهذا كلُّهُ وطْءٌ محرَّمٌ لا حدَّ فيه.
          وحجَّة مالكٍ قولُه تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ...} الآية [النساء:15] وهذه فاحشةٌ، وقد بيَّن ◙ السَّبيلَ ما هي بالرَّجم، وقام الإجماع على أنَّ العَقْد على أُمِّه وأخته لا يجوز فلا شُبهة، وإنَّما هو زانٍ، وإسقاط الحدِّ عن نفسه بالنِّكاح.