التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب خيار الأمة تحت العبد

          ░15▒ (بَابُ خِيَارِ الأَمَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ)
          5280- ذكر فيه حديثَ ابنِ عبَّاسٍ ☻ قال: (رَأَيْتُهُ عَبْدًا. يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ).
          5281- ثمَّ رواه وقال: (ذَاكَ مُغِيثٌ عَبْدُ بَنِي فُلاَنٍ _يَعْنِي زَوْجَ بَرِيرَةَ_ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَبْكِي عَلَيْهَا).
          5282- ثمَّ رواه أيضًا وقال: (كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، عَبْدًا لِبَنِي فُلاَنٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ وَرَاءَهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ).
          الشرح:
          قام الإجماعُ على أنَّ الأَمَةَ إذا أُعْتِقت تحت عبدٍ أنَّ لها الخِيَار في البقاء معه أو مفارقته، ومعناه: أنَّه لمَّا كان العبد في حُرْمته وحُدُوده وجميع أحكامه غير مكافئٍ للحُرَّة وجب أن تُخيَّر تحتَه إذا حدثَت لها حرِّيَّةٌ في عِصْمته. وأيضًا فإنَّها حين وقَّعت العَقْد عليها لم تكن مِن أهل الاختيار لنفسها، فجعل لها ذلك حين صارت أَكمَلَ حُرمةٍ مِن زوجها، قال المهلَّب: وأصلُ هذا في كتاب الله تعالى، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا...} الآية [النساء:25]، فكان اشتراطُ الله تعالى في جواز نِكَاح الأحرار الإماء عدمَ الطَّول إلى الحرَّة، وجب مثله في العبد ألَّا يتطاول إلى حرَّةٍ بعد أن وجدت السبيل إلى حرٍّ إلَّا برضاها.
          واختلفوا في وقت خِيَار الأَمَة إذا عُتقت، فرُوي عن ابن عُمَر وسُلَيْمَان بن يَسَارٍ ونافع والزُّهريِّ وقَتَادَة وأبي قِلَابَة أنَّ لها الخِيَار ما لم يمسَّها زوجُها، وهو قول مالكٍ وأحمدَ، عَلِمت أم لم تعلم، وقالت طائفةٌ: لها الخِيَارُ وإن أُصيبَت ما لم تعلم، فإذا علمت ثمَّ أصابَها فلا خِيَارَ لها، وهو قول عَطَاءٍ والحكمِ وسعيدِ بن المسيِّب، وهو قول الثَّوريِّ، وزاد: بعد أن تحلِفَ ما وقع عليها وهي تعلم أنَّ لها الخِيَار، فإن حَلَفت خُيِّرت، وكذلك قال الأوزاعيُّ وإسحاقُ، وقال الشَّافعيُّ: إن ادَّعت الجهالة لها الخِيَار وهو أحبُّ إلينا.
          وفي هذا الحديث ما يُبطِل أن يكون خِيَارها على المجلس، لأنَّ مشيَها في المدينة لم يُبطِل خِيَارها، وقد روى قَتَادَةُ عن عِكْرِمةَ، عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: والله لكأنِّي أنظر إلى زوج بَرِيرة في طُرُق المدينة، وإنَّ دموعه لتنحدرُ على لحيتِه يَتْبَعُها حتَّى يترضَّاها لتختارَه، فلم تفعل. ومثل هذا في حديث زَبْرَاءَ: أنَّها كانت تحت عبدٍ فعُتِقَت، فَسَأَلَت حفصَةَ أمَّ المؤمنين فقالت: إنَّ أمرَكِ بيدك ما لم يَمَسَّك زوجُك، فقالت: هو الطَّلاقُ ثلاثًا، ففارقَتْهُ. رواه مالكٌ عن ابنِ شِهابٍ عن عُرْوةَ بن الزُّبير.
          وفي الحديث حجَّةٌ لمن قال: لا خِيَار للأَمَةِ إذا عُتقت تحت الحرِّ؛ لأنَّ خِيَارها إنَّما وقع مِن أجل / كونه عبدًا، وقد روى أهل العراق عن الأسود عن عَائِشَة أنَّ زوج بَرِيرةَ كان حُرًّا.
          واختلف العلماء فيما إذا عتقت الأَمَة تحتَ الحرِّ، فرُوي عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عمر أنَّه لا خِيَار لها، وهو قولُ عطاءٍ وسعيدِ بن المسيِّب والحسن وابن أبي ليلى، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ واللَّيث والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ.
          وقالت طائفةٌ: لها الخِيَار حُرًّا كان زوجها أو عبدًا رُوي ذلك عن الشَّعبيِّ والنَّخعيِّ وابن سِيرينَ وطَاوُسٍ ومجاهدٍ وحمَّاد، وهو قولُ الثَّوريِّ والكوفيِّين وأبي ثورٍ، واحتجُّوا برواية الأسود عن عَائِشَةَ ♦ أنَّ زوجَها كان حُرًّا، صحَّحه التِّرمذيُّ، وقال البخاريُّ: منقطعٌ، وقال مرَّةً: مرسلٌ، وقولُ ابن عبَّاسٍ: كان عبدًا، أصحُّ.
          وقالوا: الأمةُ لا رأيَ لها في إنكاح مولاها؛ لإجماعهم أنَّه يُزوِّجها بغير إذنها، فإذا عَتَقَت كان لها الخِيَار الَّذي لم يكن لها في حال العبوديَّة، وحجَّة مَن قال: لا خِيَار لها تحت الحرِّ، أنَّها لم يحدُث لها حالٌ ترتفع به عن الحرِّ، فكأنَّهما لم يزالا حُرَّين، ولم ينقُص حال الزَّوج عن حالها ولم يحدُث به عيبٌ، فلم يكن لها خِيَارٌ، وقد قام الإجماعُ على أنَّه لا خِيَار لزوجةِ العِنِّين إذا ذهبت العلَّة قبل أن يُقضى بفراقه لها، فكذلك سائر العيوب زوالُها ينفي الخِيَار.
          وأمَّا رواية الأسود عن عَائِشَةَ فقد عارضَها مَن هو ألصقُ بعَائِشَة وأقعدُ بها مِن الأسود، وهو القاسم بن محمَّدٍ وعُرْوة بن الزُّبير، فرويا عنها أنَّه كان عبدًا، والأسودُ كوفيٌّ سمع منها مِن وراء حجابٍ وعُرْوة والقاسم كانا يسمعان منها بغير حِجابٍ؛ لأنَّها خالة عُرْوة وعمَّة القاسم، فهما أقعدُ بها مِن الأسود، قال ابن المنذر: وروايةُ اثنين أَوْلَى مِن روايةِ واحدٍ مع رواية ابن عبَّاسٍ مِن الطُّرق الثَّابتة أنَّه كان عبدًا، قال: وقال الحسنُ وقَتَادَةُ: إذا اختارت نفسَها فهي طلقةٌ بائنةٌ، وقال عَطَاءٌ: واحدةٌ، وقال إبراهيم وحمَّادٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاق: لا يكونُ طلاقًا.