التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الطلاق في الإغلاق

          ░11▒ (بَابُ الطَّلاَقِ فِي الإِغْلاَقِ والْكُرْهِ، والسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا، وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. وَتَلَا الشَّعْبِيُّ: {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ المُوَسْوِسِ.
          وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ وَقَالَ عَلِيٌّ ☺: بَقَرَ حَمْزَةُ خَوَاصِرَ شَارِفَيَّ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صلعم يَلُومُ حَمْزَةَ، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ ثَمِلَ مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: وهَلْ أَنْتُمْ إِلاَّ عَبِيدٌ لأَبِي؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلعم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، وَقَالَ عُثْمَانُ ☺: لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلاَقٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: طَلاَقُ السَّكْرَانِ وَالْمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَجُوزُ طَلاَقُ الْمُوَسْوِسِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِذَا بَدَا بِالطَّلَاقِ فَلَهُ شَرْطُهُ، وَقَالَ نَافِعٌ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ إِنْ خَرَجَتْ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ خَرَجَتْ فَقَدْ بانَتْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِيمَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثَلاَثًا: يُسْأَلُ عَمَّا قَالَ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِينِ، فَإِنْ سَمَّى أَجَلًا أَرَادَهُ وَعَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ حِينَ حَلَفَ بِتِلْكَ الْيَمِيْنِ، جُعِلَ ذَلِكَ فِي دِيْنِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ، نِيَّتُهُ وَطَلاَقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَة: إِذَا قَالَ: إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، يَغْشَاهَا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ مَرَّةً، فَإِنِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَقَدْ بَانَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، نِيَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعَتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنْ قَالَ: مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي، نِيَّتُهُ، وَإِنْ نَوَى طَلاَقًا فَهْوَ مَا نَوَى. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ☺: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ؟، وَقَالَ عَلِيٌّ ☺: كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلاَّ طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ. وقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ).
          5269- ثمَّ ساق حديثَ أبي هُرَيْرَةَ ☺: (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تكَلّمْ)، وقد سلف في العِتق [خ¦2528].
          5270- وحديثَ جابرٍ ☺: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلعم وَهْوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ زَنَى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِى أَعْرَضَ عنه...) الحديث، وفيه: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟).
          وأخرجه في المحاربين [خ¦6814]، وأخرجه أيضًا مُسْلمٌ وأبو داودَ والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ.
          5271- 5272- وحديثَ أبي هُرَيْرَةَ مثلَه، وزاد: فَأَعْرَضَ عَنْهُ أربعًا، وفيه أيضًا: (هَلْ بِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لَا)، وأخرجه مُسْلمٌ والنَّسائيُّ أيضًا.
          والكلام على هذه الأحكام مِن وجوهٍ:
          أحدُها: أصلُ الإِغْلَاقِ عند العلماء: الإكراهُ، قال أبو عُبَيدٍ: الإغلاقُ التَّضييقُ، فإذا ضيَّق على المُكرَهِ وشدَّد عليه حتَّى طلَّق لم يقع حُكم طلاقِه، فكأنَّه لم يُطلِّق، وفي «سُنن» أبي داودَ وابن ماجه مِن حديثِ عَائِشَة ♦: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((لا طَلَاقَ ولا عِتَاقَ في غَلَاقٍ))، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلمٍ وله متابعٌ، فذكره، قال أبو داودَ: أظنُّهُ في الغضب. وقال غيره: / الإغلاقُ الإكراهُ، والمحفوظ: ((إغلاقٌ)) كما هو لفظ ابن ماجه والحاكم، والمُكْرَهُ مُغلَّقٌ عليه في أمره، ومضيَّقٌ عليه في تصرُّفِهِ، كما يغلق الباب على الإنسان، ومنه: ((لا يَغْلَقُ الرَّهنُ))، وغُلُوقُه إذا بقي في يد المرْتَهنِ ولا يقْدِرُ صاحبُه على تخليصه، والمعنى أنَّه لا يستحقُّه المُرتَهِنُ إذا لم يفكَّ صاحبُه، وكان هذا مِن فعل الجاهليَّةِ، أنَّ الرَّاهِن إذا لم يؤدِّ ما عليه في الوقت المعيَّن مَلَك المُرتَهِنُ الرَّهنَ، فأبطلَه الإسلام.
          وقال في «المحكم»: احتدَّ فلانٌ فنَشَبَ في حِدَّته وغَلِقَ، وفي «الجامع»: غلق إذا غَضِب غضبًا شديدًا. وقال الهَرَوِيُّ: كأنَّه يُحبَس ويُضيَّق عليه ويُغْلَق عليه الباب حتَّى يُطلِّق، وقيل: معناه لا تغلق التَّطليقات في وقفةٍ واحدةٍ حتَّى لا يبقى منها شيءٌ لكن يُطلِّق طلاقَ السُّنَّة، ولمَّا ذكر الفارسيُّ في «مجمَعِ الغرائب» قولَ مَن قال: الإغلاقُ الغضبُ. قال: إنَّه غلطٌ لأنَّ أكثرَ طلاق النَّاس في حال الغضب، إنَّما هو الإكراه.
          وأمَّا المُطَرِّزِيُّ فاحتجَّ لقائلِ الأوَّل بقولهم: إيَّاك والغَلْقَ، أي الضَّجر والغَضَب، وقال ابن المرابِطِ: الإغلاقُ حرَجُ النَّفس، وليس يقطَعُ على أنَّ مرتكبه فارقَ عقلَهُ حتَّى صار مجنونًا، فيدَّعي أنَّه كان في غير عقله، ولو جاز هذا لجازَ لكلِّ واحدٍ مِن خَلْق اللهِ ممَّن يجوز عليه الحرجُ أن يدَّعِي في كلِّ ما جناه أنَّها كانت في حالِ إغلاقٍ فتسقط عنه الحُدُود، وتصير الحُدُود خاصَّةً لا عامَّةً لغير الحرج، وقد ترجمَ عليه ابنُ ماجه: بابُ المُكْرَهِ والنَّاسي، وأبو داودَ: بابُ الطَّلاق على الغيظ، وكأنَّ البخاريَّ يرى أن الإغلاقَ غيرُ الإكراه، ولهذا غايَرَ بينهما.
          والحديثُ الَّذي أسلفناه هو مِن رواية محمَّد بن عُبَيد بن أبي صالحٍ، وهو ثقةٌ كما ذكره ابنُ حبَّان في «ثقاته» عن صفيَّةَ عن عَائِشَة ♦، وذكرَه عبدُ الله بن أحمدَ في «علله» عن أبيه مِن حديثِ ابن إسحاق، عن ثورِ بن يزيدَ الكَلَاعِيِّ _وكان ثقةً_ عن صَفِيَّة.
          ولمَّا ذكر ابنُ أبي حاتمٍ حديثَ عَطَّاف بنِ خالدٍ، عن أبي صَفْوانَ، عن محمَّد بن عُبَيدٍ، عن عَطَاءِ بن أبي رباحٍ، عن عَائِشَة، لأَبيه قال: روى هذا الحديثُ محمَّد بن إسحاقَ، عن ثَورٍ، عن محمَّد بن عُبَيدٍ، عن صفيَّة، قلتُ لأبي: أيُّهما أشبهُ؟ قال: أبو صفوان وابن إسحاقَ جميعًا ضعيفان.
          وأخرجه الدَّارقطنيُّ مِن حديثِ زكريَّا بن إسحاقَ ومحمَّد بن عُثْمانَ جميعًا، عن صفيَّة بنت شَيْبَةِ الكَعْبيَّة.
          الوجه الثاني: اختلف العلماءُ في طلاق المُكْرَه، ومحلُّ الخوض فيه كتاب الإكراه، وفيه قولان، أحدُهما: أنَّه لازِمٌ، قاله الكوفيُّون، والثَّاني: مقابلُه، قاله مالكٌ والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ.
          احتجَّ الأوَّل بحديث الباب: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ))، وبحديث ابن عبَّاسٍ الثَّابت على شرط الشَّيخين: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((وُضِعَ عَنْ أمَّتي الخطأُ والنِّسيانُ وما استُكْرِهُوا عَلَيْهِ))، أخرجه ابنُ ماجه وصحَّحه ابنُ حبَّان والحاكمُ وقال: صحيحٌ على شرط الشَّيخين. ورواه الأَوْزَاعِيُّ، عن عَطَاءٍ، عن عُبَيد بن عُمَيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا بلفظ: ((تجاوزَ الله لأمَّتي...)) إلى آخره.
          وفي «عِلل ابن أبي حاتمٍ»: رواه ابن مُصَفًّى، عن الوليدِ عن الأوزاعيِّ عن عَطَاءٍ عن ابن عبَّاسٍ، وعن الوليد عن مالكٍ عن نافعٍ عن ابن عُمَر، وعن الوليد عن ابن لَهِيعَةَ عن مُوسى بن وَرْدان عن عُقبة بن عامرٍ، مرفوعًا، قال أبي: هذه أحاديثُ منكرةٌ، كأنَّها موضوعةٌ، ولم يَسْمَعْه الأوزاعيُّ مِن عَطَاءٍ، إنَّما سمِعَهُ مِن رجلٍ لم يُسَمَّ، أتوهَّم أنَّه عبدُ الله بن عامرٍ أو إسماعيلُ بن مُسْلمٍ، ولا يصحُّ هذا الحديث ولا يَثبُت إسنادُه.
          وقال عبد الله بن أحمدَ: ذكرتُ حديثَ ابنِ مُصفًّى هذا _يعني الَّذي أخرجه ابن ماجه عنه_ لأبي فأنكرَه جِدًّا، وقال: هذا يُروى مِن غير هذا الوجه بإسنادٍ جيِّدٍ أصلحَ مِن هذا. قال أبو القاسم في «مجمع الغرائب»: تفرَّد به ابنُ المُصفَّى، عن الوليدِ، عن مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر مرفوعًا، والمحفوظ: عن الوليدِ عن الأوزاعيِّ عن عَطَاءٍ عن ابن عبَّاسٍ، وعن الوليد عن ابن لَهِيعَةَ عن موسى بن وَرْدَانَ عن عُقْبةَ، وهذا حديثٌ غريبٌ.
          ولمَّا رواه الدَّارقطنِيُّ أدخل بين عَطَاءٍ وعبد الله عُبَيدَ بن عُمَيرٍ، وفي ابن ماجه مِن حديثِ أبي ذرٍّ مرفوعًا، وفيه سِلْسلةٌ ضُعفاء: أيُّوب بن سُوَيدٍ، عن أبي بكرٍ الهُذَليِّ، عن شَهْرِ بن حَوْشَبٍ، عن أبي ذرٍّ، وكأنه لم يَسمع منه.
          واحتجُّوا أيضًا بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106] فنفى الكُفرَ باللسان إذا كان القلبُ مطمئنًّا بالإيمان، فكذلك الطلاقُ إذا لم يُرِدْهُ ولم ينوِهِ بقلبه لم يلزمه، وكذلك قال عَطَاءٌ: الشِّرْك أعظمُ مِن الطَّلاق. وقال الطَّحاويُّ: التَّجاوزُ معناه العفو عن الآثم؛ لأنَّ العفوَ عن الطَّلاق والعِتَاق لا يصحُّ لأنَّه غيرُ مُذنبٍ فيُعفى عنه، قال: وكما ثبتَ له حُكم الوطء بالإكراه فيَحرُم به على الواطئ ابنةُ المرأة وأمُّها، فكذلك القول لا يمنع مِن وقوع ما حلف.
          واختُلِف في ضابط الإكراه، وستعلمه إن شاء الله تعالى في موضعه.
          قال شُرَيحٌ: القيدُ كُرهٌ والوَعيد كُرْهٌ، وقال أحمد: الكُره إذا كان القتْلُ أو الضَّربُ الشَّديد، ولا يُشترط على الأصحِّ عند أصحابنا أن ينوي التَّورِية، كما لو نوى طلاقًا عن وثاقٍ. وأمَّا حديث صَفْوانَ بنِ الأصمِّ أنَّ رجلًا كان نائمًا مع امرأتِه فأخذت سِكِّينًا وجلسَتْ على صدره، ووضعَتِ السِّكِّين على حَلْقهِ وقالت: طلِّقني وإلَّا ذبحتُكَ، فَنَاشَدَها اللهَ، فأبت فطلَّقها ثلاثًا، فذُكر لرسول الله صلعم فقال: ((لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلاق)) فمُنكَرٌ، قال العُقَيلِيُّ لمَّا رواه: هذا حديثٌ منكرٌ جدًا، ولا يُتابع عليه صَفْوان ومَدَارُه عليه. وقال أبو زُرْعةَ: ضعيفٌ واهٍ.
          وفي «مصنَّف ابن أبي شَيْبَة»: أنَّ الشَّعبيَّ كان يرى طلاقَ المُكرَه جائزًا، وكذا قاله إبراهيمُ وأبو قِلَابَةَ، وإسنادهما جيِّدٌ، وابنُ المسيَّب وشُرَيحٌ، وفي إسنادهما ضعفٌ. قال ابن حَزْمٍ: وصحَّ أيضًا عن الزَّهريِّ وقَتَادَة وسعيد بن جُبَيرٍ، وبه يأخذ أبو حنيفة وأصحابُه، وروى الفرجُ بن فَضَالَة عن عَمْرِو بن شَراحِيلَ أنَّ امرأةً أكرهَتْ زوجَها على طلاقِها فطلَّقها، فَرُفع ذلك إلى عُمَر ☺ فأمضى طلاقَها، وعن ابنِ عُمَر نحوَه، وكذا عن عُمَرَ بن عبد العزيز، واحتجُّوا أيضًا بآثارٍ منها: ((ثلاثٌ جِدُّهُنَّ / جِدٌ وَهَزْلُهُنَّ جِدُ: النِّكاحُ، والطَّلاقُ، والرَّجْعَةُ))، وهي أخبارٌ موضوعةٌ لا ذِكْرَ فيها للمُكرَه، وبعدُ فإنَّما رُوِّيناها مِن طريق عبد الرَّحمن بن حَبِيبٍ _وقيل: عكسهُ_ وهو متَّفقٌ على ضعْفهِ، وأبي إسحاق عن أبي بُرْدَةَ: قال ◙: ((مَا بَالُ رِجالٍ يَلعبون بحدودِ اللهِ؟ يَقولُ أَحدُهُم: طَلَّقتُ، رَاجَعْتُ))، وهذا مُرسلٌ ولا حجَّةَ في مرسلٍ، إنَّما رواه الحسنُ أنَّه ◙ قال: ((مَن طلَّق لاعِبًا أو أعتق لاعبًا فقد جاز))، ولا حجَّة في مُرسلٍ، وليس فيهما طلاقُ المُكرَه، وكذا ما رُوي مِن حديثِ محمَّد بن أبي ليلى وابنِ جُرَيجٍ: أنَّه ◙ قال... الحديث.
          قلتُ: أمَّا حديثُ: ((جِدُّهنَّ جِدٌ)) فأخرجه أبو داود وابنُ ماجه والتِّرمذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ، والحاكم في «مستدركه» وقال: صحيح الإسناد، قال التِّرمذيُّ: والعملُ على هذا عند أهل العِلْم مِن الصَّحابة وغيرهم. وردَّه ابنُ الجوزيِّ بِعَطَاءٍ الرَّاوي عن ابن مَاهَكَ عن أبي هُرَيْرَةَ وقال: هو ابنُ عَجْلَانَ، وهو متروك الحديث. وهو مِن أوهامه، وإنَّما هو ابنُ أبي رَبَاحٍ كما نسبَه التِّرمذيُّ وغيرُه، ودعوى ابنُ حزْمٍ الاتِّفَاقَ على ضعْفِ عبد الرَّحمن وَهمٌ، فقد ذكرَه ابنُ حبَّان في «ثِقاته»، وقال الحاكم: هو مِن ثِقات المدنيِّين، وذكرَه ابن خَلْفُون أيضًا في «ثِقاته».
          وأمَّا مَن لم يرَه شيئًا فعليُّ بن أبي طالبٍ وابنُ عُمَر وابنُ الزُّبير وعُمَرُ بن عبد العزيز وعطاءٌ والحسنُ، والسَّند إليهم لا بأس به، وابنُ عبَّاسٍ وعُمَرُ بن الخطَّابِ، وفي «المحلَّى»: سندُ قولِ ابن عبَّاسٍ صحيحٌ، قال: وصحَّ أيضًا عن طَاوُسٍ وأبي الشَّعثاءِ جابرِ بن زيدٍ، قال: وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ والحسنِ بن حَيٍّ والشَّافعيِّ وأبي سُليمانَ وأصحابهم.
          زاد البيهقيُّ أنَّه مذهب شُرَيحٍ وعِكْرمةَ وعُمَرَ بن عبد العزيز وعبد الله بن عُبَيدِ بن عُمَيرٍ.
          قال ابن حزمٍ: وَثَمَّ قولٌ آخر رُوِّيناه عن الشَّعبيِّ وهو: إن أكرهَه اللُّصوص لم يلزمه، وإن أكرهه السُّلطان لزمَه، ورابعٌ رُوِّيناه عن إبراهيمَ أنَّه قال: إن أُكرِهَ ظُلمًا فورَّى شيئًا إلى شيءٍ آخرَ لم يلزمه، فإن لم يورِّ لزمَه، ولا ينتفع الظَّالم بالتَّورية، وهو قول سُفْيَانَ، قال ابن حزمٍ: والصَّحيح أنَّ كلَّ عملٍ بلا نيَّةٍ باطلٌ لا يعتدُّ به، وطلاقُ المُكرَهِ عملٌ بلا نِيَّةٍ فهو باطلٌ، وإنَّما هو حَاكٍ لِمَا أُمِرَ بقَولِه فقط، ولا طلاقَ على مَن حكى كلامًا لم يعتقده، وقد صحَّ عن رسول الله صلعم أنَّه قال: ((إنَّ اللهَ تجاوزَ لي عَن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكرهُوا عليهِ)).
          وممَّا يبعُد على الحنفيَّين مِن التَّناقض أنَّهم يُجِيزون طلاقَ المُكْرَه ونكاحَه وإنكاحَه ورجعتَه وعِتقَه، ولا يجيزون بيعَه ولا ابتياعَه ولا هِبتَه ولا إقرارَه.
          احتُجَّ لأبي حنيفةَ بما في مُسْلمٍ عن حُذَيفة ☺: أنَّ كفَّارَ قريشٍ أخذوه وأباه، فقالوا: إنَّكما تطلبان المدينة، قال: وما كنَّا نريد غيرها، فأخذوا منَّا عَهْدَ الله وميثاقَه أنَّا لا نُقاتلُهم مع رسول الله صلعم، فقال لنا ◙ لمَّا أخبرناه: ((انصَرِفَا، نَفِي لهم بِعَهدهِم ونَستعينُ اللهَ عَليهِم))، فلمَّا منعَهم ◙ مِن حضور بدرٍ مع الاحتياج إليهما فيها لاستحلاف المشركين القاهرين لهما على ما استحلفوهما، ثبت بذلك أنَّ الحلْفَ على الطَّواعية والإكراه سواءٌ، وستعلم كلامَه فيه في الإكراه.
          وأمَّا قوله: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي...) الحديث، فزعم الحنفيُّون أنَّ ذلك في الإشراك خاصَّةً؛ لأنَّ القومَ كانوا حديثِي عَهْدٍ بالكُفر في دارٍ كانت دارَ كُفْرٍ، فكان المشركون إذا قَدِروا عليهم استكرهوهم على الإقرار بالكُفر، كفعلِهم بعمَّارٍ وغيره، وفي ذلك نزل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} الآية [النحل:106] أو بها سهوًا، فتكلَّموا بما جرت عليه عادتهم قبل الإسلام، وربَّما أخطؤوا فتكلَّموا بذلك، فتجاوزَ الله عن ذلك لأنَّهم كانوا غيرَ مختارين ولا قاصدين له.
          وقد أجمعوا أنَّ مَن نسي أن تكون له زوجةٌ فقصد إليها فطلَّقها أن طلاقها واقعٌ، ولم يُبطلوا طلاقه بسهوه، ولم يدخل هذا السَّهو في السَّهو المعفوِّ عنه، وكذلك الإكراه.
          واحتجَّ بعضُ أصحاب أبي حنيفة بحديث: ((كلُّ طَلاقٍ جائزٌ إلَّا طَلاقَ المعتُوهِ المَغلُوبِ عقله))، وهو حديثٌ ضعيفٌ مِن طريق أبي هُرَيْرَةَ، أخرجه التِّرمذيُّ وقال: لا نعرفهُ مرفوعًا إلَّا مِن حديثِ عطاء بن عَجْلَانَ، وهو ضعيفٌ، وأخرجه ابنُ حزمٍ مِن حديثِ عَطَاءِ بن عَجْلَان، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ، فالله أعلم.
          وقال مُهنَّا: حدَّثني أحمدُ، حدَّثنا حجَّاجٌ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن الأسودِ، عن عِكْرِمةَ قال: كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلَّا طلاقَ المعتوه، فأنكرَه أحمدُ وقال: هو عن الأعمش، عن إبراهيمَ، عن عَابِسِ بن ربيعَةَ، عن عليٍّ. وأخبرنا وكيعٌ، عن سُفْيَانَ، عن أبي إسحاقَ، عمَّن سمع عليًّا ☺ يقول... فذكره. وقال المَرْوَذِيُّ: ذُكر لأحمدَ نَصْرُ بن بَابٍ، فقال: ما كتبنا عنه إلَّا عن شُعْبةَ، عن مِسْعَرٍ، عن ابن عونٍ: أنَّ ابن عُمَرَ طلَّق عن ابنٍ له معتوهٍ.
          الوجه الثالث: قوله: (والسَّكران) اختلف النَّاس في طلاقِهِ على قولين، أحدهما: لا يقع طلاقُه، وممَّن قال به عُثْمان وجابرُ بن زيدٍ وعطاءٌ وطاوسٌ وعِكْرَمةُ والقاسمُ وعُمَر بن عبد العزيز، ذكرَه ابن أبي شَيْبَة بأسانيده _زاد ابنُ المنذر: ابنَ عبَّاسٍ_ وربيعةُ واللَّيثُ وإسحاقُ والمُزَنيُّ وأبو ثورٍ، واختاره الطَّحاويُّ وقال: أجمعَ العلماءُ على طلاقِ المعتوه لا يجوز، والسَّكرانُ معتوهٌ بسُكْرِه كالمُوَسوَسِ، ولا يختلفون في أنَّ مَن شرب البَنْجِ فذهب عقلُه أنَّ طلاقَه غيرُ جائزٍ، وكذلك مَن سَكِرَ مِن الشَّراب.
          وثانيهما: يقع، قالَه مجاهدٌ ومحمَّدٌ والحسنُ وسعيدُ بن المسيِّب وعمرُ بن عبد العزيز والنَّخَعيُّ وميمونُ بنُ مِهْرَان وحُمَيدُ بنُ عبد الرَّحمن وسُلَيمانُ بن يَسَارٍ والزُّهريُّ والشَّعبيُّ والحكمُ، والإسناد إليهم جيِّدٌ، ورُوي أيضًا عن عُمَرَ وشُريحٍ ومُعَاويةَ بن أبي سُفْيَان وسالمِ بنِ عبد الله والأوزاعيِّ والثَّوريِّ، وهو قولُ مالكٍ، ومشهورُ مذهب أبي حنيفةَ، وأظهرُ قولَي الشَّافعيِّ، فهؤلاء أحدٌ وعشرون نفسًا، وذكره ابنُ وَهْبٍ فيما حكاه ابنُ بطَّالٍ عنه عن عَطَاءٍ والقاسمِ وسالمٍ، وذكرَه ابنُ المنذر عن ابن سِيرينَ، وألزمَه مالكٌ الطَّلاقَ والقَوَدَ مِن الجِرَاح مِن القتل، ولم يُلزِمْه النِّكاحَ ولا البيعَ.
          وقال الكوفيُّون: أقوالُ السَّكران وعُقُودُه كلَّها ثابتةٌ، كفعل الصَّاحي إلَّا الرِّدَّة فإنَّه إذا ارتدَّ لا تَبِينُ منه امرأتُه استحسانًا، وقال أبو يُوسُف: يكون مُرتدًّا في حال سُكْرهِ وهو قول الشافعيِّ، إلَّا أنَّا لا نقتله في حال سُكْرهِ ولا نَسْتَتيبُه.
          قال ابن المٌرابط: السَّكران إذا تيقَّنَّا ذهابَ عقله لم يلزمه الطَّلاق وأمره مُشكلٌ؛ لأنَّ مِن السَّكارى مَن لا يفقد عقلَه، ولا يذهبُ عنه شيءٌ مما قاله أو فعلَهُ أو قيل له أو فُعِلَ به، ومنهم مَن لا يذكرُ شيئًا، ومنهم مَن يذكر البعضَ ولا يذكر البعضَ فأشكَلَ أمرُهم، فأشبهَ أنَّ الطَّلاقَ يلزمُه، إذ المعلوم في أغلب الأحوال / أنَّه لا يذهب عنه جميعُ عقلِه. والدَّليل على ذلك أنَّه نطق بكلامٍ مفهومٍ مِن الطَّلاق، وقد اشترطَ اللهُ أنَّ حدَّ السُّكر الَّذي تَبطُلُ به الأعمال مِن صلاةٍ وغيرها أن لا يعلمَ ما يقول، وهذا المطلِّق قد عَلِم ما قال وقصدَ به معنًى معلومًا في السُّنَّة، مشروعًا لأهل الملَّة؛ لأنَّهُ قال لمن لا يُقَال إلَّا له فصحَّ قصدُه فوجب إلزامُه بالطَّلاق، ولو لم يكن مُوجِب إلزامَه الطَّلاقَ إلَّا لسدِّ الذَّرائع، وأيضًا فإجماعُنا مع المخالِفِ في أحكام التَّكليف جاريةٌ عليه، كالقَوَدِ إذا قتَلَ، والحدِّ إذا زنى أو قَذَف، ووجوب قضاء الصَّلاة فكذلك الطَّلاق.
          فَصْلٌ: قال المهلَّب: واستدلالُ البخاريِّ بحديث حَمْزَةَ _وقد سلف مُسندًا في البيوع_ [خ¦2089] غير جيِّدٍ، لأنَّ الخمرَ يومئذٍ كانت مباحةً، فلذلك سقط عنه حُكم ما نطق به في تلك الحال، وبسبب القضيَّة كان تحريم الخمر، وليس يجبُ أن يحكم بما كان قبل تحريم الخمر بما كان بعد تحريمها لاختلاف الحكم في ذلك.
          قلتُ: الإسكارُ ليس مباحًا إذ ذاك، كما قاله أهل الأصول، وقوله فيه: (ثَمِلَ) أي سكران، واحتجَّ مَن أوقع طلاق السَّكران وفرَّقوا بينه وبين المجنون.
          قال عَطَاءٌ: ليس السَّكران كالمغلوب على عقلهِ؛ لأنَّ السَّكران أتى بما أتى وهو يعلم أنَّه يقول ما لا يصلُح. قال غيرُه: أَلَا ترى أنَّ المجنونَ لا يقْضِي ما فاته مِن صلاته في حال جُنُونِه بخِلاف السَّكران، فافترقا. وذكر ابنُ المنذر أنَّ بعضَ أهل العلم ردَّ هذا القول، فقال: ليس في احتجاج مَن احتجَّ أنَّ الصَّلاة تلزمُه _بخلاف المجنون_ حجَّةٌ؛ لأنَّ الصَّلاة قد تلزم النَّائم، ولو طلَّق في حال نومِهِ فلا وقوع كالمجنون، وفي قولهم: إنَّ السَّكرانَ إذا ارتدَّ ولم يُستَتَبْ في حال سُكْره ولم يُقتل دليلٌ على أن لا حُكمَ لقوله، وردَّه المهلَّب فقال: معلومٌ في الأغلب مِن الحال أنَّ السَّكران إذا طلَّق لم يذهب جميعُ عقله، بدليل نطقِه بكلامٍ مفهومٍ، فَعَلِم ما قال، ولا قياسَ على ما إذا تداوى فَسَكِرَ فإنَّه إذا شربه لقصد الإزالة وقع.
          فَصْلٌ: في حقيقة السُّكر عندنا خلافٌ محلُّه الفُروع، وقد بسطناه فيه.
          الوجه الرابع:
          أثرُ عُثْمَانَ ☺ أخرجه ابنُ أبي شَيْبَة بإسنادٍ جيِّدٍ عن وكيعٍ: حدَّثنا ابنُ أبي ذِئبٍ، عن الزُّهريِّ، عن أبانَ بن عُثْمَانَ عنه: أنَّه كان لا يُجيز طلاقَ السَّكران والمجنون، وكان عمر بن عبد العزيز يُجيز ذلك حتَّى حدَّثه أبانُ بهذا، وبه: ليس لمجنونٍ ولا لسكرانَ طلاقٌ.
          والإجماع قائمٌ على أنَّ طلاق المجنون والمعتوه غير واقعٍ، وقد احتجَّ في ذلك على هذا الباب بما فيه مقنَعٌ، قال مالكٌ: وكذلك المجنون الَّذي يُفيق أحيانًا يطلِّق في حال جنونِهِ، والمُبَرْسَمُ قد رُفع عنه القلم لغلبة العِلْم أنَّه فاسد المقاصد، وأنَّ أفعالَه وأقوالَه مخالفةٌ لرُتبة العقل.
          ومعنى قوله: (أَبِكَ جُنُونٌ؟) يعني في بعض أوقاتك، كما قال المهلَّب؛ إذ لو أراد جُنُونَ الدَّهر كلِّه ما وَثِق بقوله أنَّ به جنونًا، وإنَّما معناه: أبكَ جنونٌ في غير هذا الوقت؟ فيكون قولك: إنَّك قد زنيت في وقت ذلك الجنون، وإنَّما طلب ◙ شُبهةً يدرأ عنه الحدَّ بها؛ لأنَّ المجنون إنَّما يُحمل أمرُه على فَقْدِ العقل وفساد المقاصد في وقت جُنُونه، والسَّكران أصلُه العقل والسُّكر إنَّما هو طارئٌ على عقله، فما وقع منه مِن كلامٍ مفهومٍ فهو محمولٌ على أصل عقلهِ حتَّى ينتهي إلى فُقدان العقل.
          فَصْلٌ: وأثر ابن عبَّاسٍ أخرجه ابنُ أبي شَيْبَة بإسنادٍ جيِّدٍ، عن هُشيمٍ، عن عبد الله بن طَلْحَةَ الخُزاعيِّ، عن أبي يزيدَ المَدِينِيِّ، عن عِكْرِمةَ عنه: ليس لسرانَ ولا لمُضطهدٍ طلاقٌ. يعني المغلوبَ المقهورَ، قال أبو نَصْرٍ: يقال: فلانٌ ضُهْدَةٌ لكلِّ أحدٍ، إذا كان مَن شاءَ أن يَقْهَره فَعَل.
          فَصْلٌ: وقول نافعٍ أخرج معناه ابنُ أبي شَيْبَة، عن عُبَيدة، عن عبيد الله، عن نافعٍ، وكذا أثر إبراهيم: (إِنْ قَالَ لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ نِيَّتُهُ)، أخرجه عن حَفْص بن غِيَاثٍ، عن إسماعيلَ عنه، وقال مَكْحُولٌ وقَتَادَةُ فيه: ليس بشيءٍ، وقال الحكم وحمَّادٌ: إن نوى طلاقًا فواحدةٌ وهو أحقُّ بها، وقال الحسن: هي تطليقةٌ إن نواه، وقال عِكْرِمَةُ: هذه واحدةٌ.
          وقولُ الزُّهريِّ في: (مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي) أخرجه أيضًا بإسنادٍ جيِّدٍ، عن عبد الأعلى، عن مَعْمَرٍ عنه، وذكره أيضًا عن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى وأبي عبد الله الجَدَلِيِّ، وسعيد بن المسيِّب، وأبي الشَّعثاء، وقَتَادَة. وقال سعيدُ بن جُبيرٍ والحسنُ وعطاءٌ: ليس بشيءٍ.
          فَصْلٌ: وقول عليٍّ ذكرَه بصيغة جزمٍ وهو حديثٌ ثابتٌ أخرجه أصحاب السُّنن الأربعة مرفوعًا، وحسَّنه التِّرمذيُّ وقال: حسنٌ غريبٌ مِن هذا الوجه، ولا نعلم للحسَنِ سماعًا مِن عليٍّ. وصحَّحه ابنُ حبَّان والحاكم وزاد: على شرط الشَّيخين. وأخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ وابن ماجه مِن حديثِ عَائِشَة ♦ مرفوعًا أيضًا، وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم وزاد: على شرط مُسْلمٍ، وقال ابنُ المنذر: إنَّه ثابتٌ، قال: واختلفوا في طلاق الصَّبيِّ ما لم يبلُغ، وأكثرُهم يقول: لا يجوز، وأجازَه قومٌ، وعند الخَلَّال: قال يحيى بن مَعِينٍ: ليس يروي هذا الحديثَ أحدٌ إلَّا حمَّاد بن سَلَمَة عن حمَّادٍ _يعني ابن إبراهيمَ_ عن الأسودِ عنها. وفي «سؤالات ابن الجُنَيدٍ»: سُئلُ يحيى عن حديث حمَّادٍ هذا فقال: ليس يرويه إلَّا حمَّادٌ عن حمَّادٍ. وقال مُهنَّا: حدَّثنا أحمدُ، حدَّثنا حجَّاجٌ، عن شَرِيكٍ، عن أبي إسحاقَ، عن الأسود، عن عليٍّ. ثمَّ قال: أنكرَه أحمدُ وقال: هو عن الأعمش عن إبراهيم عن عَابِسِ بن رَبِيعةَ عن عليٍّ، وعن منصورٍ عن إبراهيمَ بإسنادٍ مثله.
          فَرْعٌ: ذكرَ أبو يَعقُوب مُوسى الحاصِي في «فتاويه الصغرى» أنَّ الجنونَ المطبِقَ عند أبي يُوسُفَ أكثرُ السَّنَةِ، وفي روايةٍ: أكثرُ من يومٍ وليلةٍ، وفي أخرى: شهرٌ، وعن محمَّدٍ: سنةٌ كاملةٌ، وفي روايةٍ: سبعة أشهرٍ، والصَّحيح كما قال أبو يعقوب: ثلاثة أيَّامٍ.
          فَصْلٌ: وأثرُ عليٍّ: (كُلُّ الطَّلاَقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلاَقَ الْمَعْتُوهِ) سلف، وممَّن قال به فيما ذكره ابنُ أبي شَيْبَة: الشَّعبيُّ والنَّخَعيُّ وابنُ المسيِّب وشُرَيحٌ ومحمَّد بن مُسْلمِ بن شِهَابٍ بأسانيدَ جيِّدةٍ، ورُوي عن الضَّحَّاك عن نافعٍ: أنَّ المُجبَّرَ بنَ عبد الرَّحمن طلَّقَ امرأتَه وهو معتوهٌ، فأمرَ ابنُ عمرَ امرأتَه أن تعتدَّ، فقيل له: إنَّه معتوهٌ، فقال: إنِّي لم أسمع الله تعالى استثنى طلاقَ المعتوهِ ولا غيرَه. وقال عَمْرو بن شُعَيبٍ: وجدنا في كتاب عبد الله بن عَمْرٍو عن عَمْروٍ: إذا عبثَ المجنونُ بامرأتِه طلَّقَ عليه وليُّه. وبه قال عطاءٌ وابن المسيِّب، وقال مَعْمَرٌ: لا يجوز عليه طلاقُ وليِّه. وسئل أبو قِلَابَةَ في امرأةٍ زوجُها مجنونٌ يُطلِّقُ عليه وليُّه؟ فكتب: أيَّما امرأة ابتلاها الله بالبلاءِ فلتَصبرْ. وقال / الحسنُ والشَّعبيُّ وأبانُ بن عُثْمانَ وابنُ سِيرينَ: لا يجوز طلاق المجنون. وأمَّا الزُّهريُّ فقال: يجوز طلاق المجنون.
          وقال أبو الشَّعثاء في رجلٍ طلَّق حين أخذَه جنونُه، فقال: يجوز. وسُئلَ عمر بن الخطَّابِ عن مجنونٍ يُخاف عليه أن يَقتلَ امرأتَه، فقال: يؤجَّل سنةً يتداوى، فإن طلَّق في حال مُوتَتِه فلا شيء عليه، قاله ابنُ المسيِّب وإبراهيمُ والحسنُ وقَتَادَةُ، وقال الشَّعبيُّ: الَّذي يُصِيبه في الحين، طلاقُه وَعِتَاقهُ جائزٌ.
          فائِدَةٌ: الْمَعْتُوهُ الناقصُ العقلِ، وقد عَتِهَ، والتَّعتُّهُ: التَّجنُّن والرُّعُونَة، يقال: رجلٌ معتوهٌ، بيِّن العَتَهِ، ذكرَه أبو عُبَيدٍ في المصادر الَّتي لا تُشتقُّ منها الأفعال.
          الوجه الخامس:
          اختُلِف في الخطأ والنِّسيان في الطَّلاق، فقالت طائفةٌ: مَن حلف على أمرٍ أن لا يفعله بالطَّلاق ففعله ناسيًا لم يحنَث، هذا قول عطاءٍ وهو أحدُ قولي الشَّافعيِّ، وبه قال إسحاقُ، وروى عُمَر بن نافعٍ فيمَن حلف بالطَّلاق وهو لا يريده فَسَبَقه لسانه: يُدَيَّن فيما بينه وبين الله، وكذلك قال الشَّافعيُّ فيمَن غَلَبَه لسانُه بغير اختيارٍ منه، فقوله كَلَا قولٍ، ولا يلزمه طلاقٌ ولا غيره.
          ورُوي عن الشَّعبيِّ وطَاوُسٍ في الرَّجل يحلِفُ على الشَّيء فيخرج على لسانه غير ما يريد: له نيَّته، وحقَّقه أحمدُ، وقال الحكمُ: يؤخذ بما تكلَّم به، وممَّن أوجب عليه الحِنْث مَكْحولٌ وعُمَرُ بن عبد العزيز وربيعةُ والزُّهريُّ، وهو قول مالكٍ والثَّوري والكوفيِّين وابن أبي ليلى والأوزاعيِّ.
          وحجَّة مَن لم يوجِب الحِنْث عليه حديثُ الباب: العملُ بالنِّيَّة، والنَّاسي لا نيَّةَ له، وحديث: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي...)) الحديث. واحتجَّ الَّذين أوجبوا الحِنْث فقالوا: معنى رفعُ الخطأ والنِّسيان إنِّما هو في الإثم بينك وبين الله، وأمَّا في حقوق العباد فلازمةٌ في الخطأ والنِّسيان في الدِّماء والأموال، وإنَّما يَسقط في قتْلِ الخطأ ما كان يجب فيه مِن عقوبةٍ أو قِصَاصٍ.
          ووقع في كثير مِن النُّسخ: <وَالنِّسْيَان في الطَّلاق والشِّرك>، وهو خطأٌ، والصَّواب: <والشَّكُّ>، مكان: <الشِّرك>.
          الوجه السادس:
          اختلف العلماءُ في الشَّكِّ في الطَّلاق فأوجبَه مالكٌ، وقال الأوزاعيُّ وسعيدُ بن عبد العزيز: أفرِّق بالشَّكِّ ولا أجمعُ به. وممَّن لم يُوجبه بالشَّكِّ ربيعةُ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ، قال الشَّافعيُّ ومَن بعدَه: مَن شكَّ أخذَ بالأقلِّ حتَّى يَسْتيقِنَ، ولا يجوز عندَهم أن يرفع نفْس النِّكاح بشكِّ الحِنْث، وإليه أشار البخاريُّ.
          فَصْلٌ: قول عَطَاءٍ: إذا بدأ بالطَّلاق فله شرطهُ، يريد مثلَ قولِه: أنتِ طالقٌ إن فعلتِ كذا، وشبهه، وذكر عن بعضهم أنَّه لا يَنتفع بشرطِهِ، وقولُ الزُّهريِّ إلى آخره يريد أنَّه لم يحلِف بحضرةِ بيِّنةٍ؛ لأنَّه لا يُقبل ذلك منه إذا حَضَرت البيِّنة يمينه.
          وقولُ نافعٍ يأتي.
          وقول إبراهيمَ: (لاَ حَاجَةَ لِي فِيكِ) هو قولُ أصحاب مالكٍ، قالوا: يلزمُه إذا أرادَه وإلَّا حُلِّف ودُيِّن، وقال أَصْبَغُ: إن لم ينوِ عددًا مِن الطَّلاق فذلك على ثلاثٍ حتَّى يريدَ واحدةً.
          فَصْلٌ: وقوله: (وَطَلَاقُ كُلِّ قَوْمٍ بِلِسَانِهِمْ) فالعلماء مجمعون أنَّ العَجَميَّ إذا طلَّق بلسانه وأراد الطَّلاقَ أنَّه يلزمه لأنَّهم وسائرُ النَّاس في أحكام الله سواءٌ.
          فَصْلٌ: وأمَّا قولُ قَتَادَةَ: (إِذَا حَمَلْتِ...) إلى آخره، أخرجَه ابن أبي شَيْبَة عن عبد الأعلى عن سعيدٍ عنه، وحكاه أيضًا عن محمَّد بن سِيرينَ والحسنِ، وهو قولُ ابنِ الماجِشُون، وحكى مثلَه ابنُ المَوَّازِ عن أشهبَ قال في قوله: إذا حَمَلت، وإذا حَضَنت، وإذا وَضَعت: ليس بأجلٍ ولا شيءَ عليه حتَّى يكون ما شرطَ. وهو قول الثَّوريِّ والكوفيِّين والشَّافعيِّ، قالوا: وسواءٌ كان هو غيبٌ لا يُعلَم أو ممَّا يُعلَم، نحوَ قوله: إن ولدتِ، وإذا مَطَرت السَّماء، وإذا جاء رأسُ الهلال، فإنَّه لا يقع الطَّلاق إلَّا بوجود الوقتِ والشَّرط.
          وقال ابنُ القاسمِ في قوله: (إِذَا حَمَلْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ) لا يُمنَعُ مِن وطئها في ذلك الطُّهرِ مرَّةً فقط، ثمَّ يطلِّق إذا وطئَها حينئذٍ، ولو كان قد وطئَها فيه قبلَ مقالته طُلِّقت مكانها، ويصير كالذي قال لزوجته: إن كنتِ حاملًا فأنت طالِقٌ، وإلَّا فأنتِ طالقٌ، فإنَّها تَطْلُق مكانها، ولا ينتظر إخبارَها أبها حملٌ أم لا، إذ لو ماتا لم يتوارثا، وكذلك قولُه لغير حاملٍ: إذا حَمَلْتِ فَوَضَعْتِ فأنتِ طالقٌ، أو قال: إذا وَضَعْتِ فقط فأنتِ طالقٌ، إن وطئ في ذلك الطُّهر، وإلَّا إذا وطئ مرَّةً طُلِّقت.
          وقال ابنُ أبي زيدٍ: واختلف فيه قول مالكٍ. وقال الطَّحاويُّ: لا يختلفون فيمَن أعتقَ عبدَه إذا كان هذا لِمَا هو كائنٌ لا مَحَالةَ، أو لِمَا قد يكون وقد لا يكون أنَّهما سواءٌ، ولا يُعتَق حتَّى يكون الشَّرطُ، فكذلك الطَّلاق.
          فَصْلٌ: وقولُ الزُّهريِّ: (إِنْ قَالَ: مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي نِيَّتُهُ) هو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ والأوزاعيِّ، وقال اللَّيثُ: هي كِذبَةٌ، وقال أبو يُوسُفَ ومحمَّدٌ: ليس بطلاقٍ.
          فَصْلٌ: وقولُ قَتَادَةَ: (إِذَا طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) أخرجَه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن حفصِ بن غِيَاثٍ، عن ابنِ أبي عَرُوبةَ عنه، ورواه عبد الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ عنه، وقاله أيضًا محمَّدُ بن سِيرينَ والحسنُ بن أبي الحسن وسعيدُ بن جُبيرٍ وجابر بن زيدٍ وعطاءٌ وعامرُ بن شَرَاحِيلَ، فيما ذكرَه ابنُ أبي شَيْبَة، وهو قول أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ والظَّاهريَّة، كأنَّهم تعلَّقوا بالحديث السَّالف الصَّحيح في الباب: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تكلَّم) جعل ما لم يَنطق به اللِّسان لغوًا لا حُكم له، حتَّى إذا تكلَّم به يقع الجزاء عليه ويلزم المتكلِّم به.
          وفي «المحلَّى»: أنَّ ابنَ سِيرينَ توقَّفَ في ذلك، وقال الزُّهريُّ: هو طلاقٌ، وهو رواية أشهبَ عن مالكٍ، وحكاه ابنُ بطَّالٍ عن ابنِ سِيرينَ أيضًا، قال: والأظهرُ مِن مذهبِه عدمُ الوقوع، قال: وهو قولُ جماعةِ أئمَّة الفتوى.
          قال ابن حزمٍ: احتجَّ مَن ذهب إلى هذا القولِ إلى حديث: ((إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، أي فجعل الأعمالَ مقرونةً بالنِّيَّات، ولو كان حُكم مَن أضمر في نفسِه شيئًا حُكِمَ المتكلِّم به كان حُكْمُ مَن حدَّث نفسَه في الصَّلاة بشيءٍ متكلِّمًا، وفي إجماعهم على أنَّ ذلك ليسَ بكلامٍ مع الحديث الصَّحيح: ((مَن صلَّى صَلَاةً لَا يُحدِّثُ فِيهَا نفسَه غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ)) دليلٌ على أنَّ حديثَ النَّفس لا يقومُ مقامَ الكلام.
          قال: فَيُقَال لهم: هذا حجَّةٌ لنا عليكم لأنَّه ◙ لم يُفرِد أحدهما عن الآخر / بل جمعَهما جميعًا، ولم يوجِب حُكمًا بأحدِهما دونَ الآخر، وكذا يقول: إنَّ مَن نوى الطَّلاقَ ولم يلفظ به أو لفظ به ولم ينوِه فليس ذلك طلاقًا إلَّا حتَّى يلفظَ به وينويَه إلَّا أن يَحضُرَ نصٌّ بإلزامِه بنيَّةٍ دون عملٍ أو بعملٍ دون نيَّةٍ فيقف عندَه. واحتجُّوا أيضًا بأَنْ قالوا: إنَّكم تقولون: مَن اعتقدَ الكُفرَ بقلبِه فهو كافرٌ وإن لم يلفظ به، وتقولون: إنَّ المصرَّ على المعاصي آثمٌ معاقَبٌ بذلك، وتقولون: إنَّ مَن قذفَ مُحصَنةً في نفسِه فهو آثمٌ غيرُ قاذِفٍ، ومَن اعتقد عداوةَ مؤمنٍ ظُلمًا فهو آثمٌ عاصٍ لله وإن لم يُظهِر ذلك بقولٍ ولا عملٍ، وإنَّ مَن أُعجِبَ بعلمِه أو راءى به فهو هالكٌ؟ قلنا: أمَّا اعتقادَ الكُفر فإنَّ القرآنَ العظيمَ قضى بذلك نصًّا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ...} إلى قوله: {وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فهذا خرج بالنَّصِّ، وأيضًا فإنَّ المَعفُوَّ عنه مِن حديثِ النَّفس إنَّما هو عن هذه الأُمَّةِ فضيلةٌ لهم بنصِّ الحديث، ومَن أصرَّ على الكُفر فليس مِن أمَّته، وأمَّا المصرُّ على المعاصي فليس كما ظننتُم، صحَّ عن رسول الله صلعم: ((مَن همَّ بِسَيِّئةٍ فَلَمْ يعمَلْهَا لم تُكَتبْ عليه))، فصحَّ أنَّ المُصِرَّ على الإثم بإصراره هو الَّذي عمل السَّيِّئة ثمَّ أصرَّ عليها، وهذا جمعَ النِّيَّةَ السُّوءَ والعملَ السُّوء معًا، أَمَّا مَن قذف مُحصَنةً في نفسه فقد نهاهُ الله عن الظَّنِّ السُّوء، وهذا ظنُّ سوءٍ فخرج عمَّا عُفي عنه بالنَّصِّ، ولا يحلُ أن يُقاسَ عليه غيرُه، فخالف النَّصَّ الثَّابت.
          وأمَّا مَن اعتقد عداوةَ مُسلمٍ فإن لم يَضُرَّه بعملٍ ولا بكلامٍ فإنَّما هي بِغضةٌ، والبِغضةُ الَّتي لا يقدِر المسلم على صرفِها عن نفسه لا يؤاخَذُ بها، فإن تعمَّد ذلك فهو عاصٍ؛ لأنَّه مأمورٌ بموالاة المسلم ومحبَّتِه، فتعدَّى ما أمره الله به فذلك إثمٌ. وكذلك الرِّياءُ والعُجْبُ فقد صحَّ النَّهيُ عنهُما، ولم يأتِ نصٌّ قطُّ بإلزام طلاقٍ أو عِتَاقٍ أو رجعةٍ أو هِبَةٍ أو صدقةٍ بالنَّفسِ ما لم يلفظ بشيءٍ من ذلك، فوجب أنَّه كلُّه لغوٌ.
          فَرْعٌ: اختُلف في كتابة الطَّلاق مِن غير تلفُّظٍ به، فأوجبَ قومٌ الطَّلاقَ بالكتابة، هذا قولُ النَّخَعيِّ والشَّعبيِّ والحكمِ والزُّهريِّ ومحمَّدِ بن الحسنِ، واحتجَّ الحكمُ بأنَّ الكتاب كلامٌ بقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]، قال: كتب لهم. وهو قولُ أحمدَ بن حَنْبلَ: إذا كتبَ طلاقَ امرأتِه بيدِه فقد لزمه لأنَّه عمل بيده.
          وقالت طائفةٌ: إن أنفذَ الكتابَ إليها نفَذَ الطَّلاق، رُوي ذلك عن عَطَاءٍ والحسنِ وقَتَادَةَ، وقال مالكٌ والأوزاعيُّ: إذا كتب إليها وأشهدَ على كتابه، ثمَّ بدا له فله ذلك ما لم يوجَّه إليها بالكتابِ، فإذا وجَّهه فقد طُلِّقت في ذلك الوقت، إلَّا أن ينوي أنَّها لا تَطْلُقُ عليه حتَّى يبلغ كتابه.
          فَصْلٌ: وقال ابنُ عبَّاسٍ: (الطَّلاَقُ عَنْ وَطَرٍ) أي عن حاجةٍ، قال أهلُ اللُّغة: ولا يُبْنَى مِنْهُ فعلٌ. وقولُ الحسنِ: (إِذَا قَالَ: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، نِيَّتُهُ) وكذا قول الزُّهريِّ بعدَه فيها: (مَا أَنْتِ بِامْرَأَتِي) قال ابن القاسم نحوه: إنَّه ليس بشيءٍ إلَّا أن ينويَ به الطَّلاقَ فيكون على ما نوى ويحلف. قال أصبغُ: وإن نوى به الطَّلاق ولم ينوِ عددًا فهي النِّيَّةُ.
          فَصْلٌ:
          حديثُ أبي هُرَيْرَةَ سلف [خ¦2528].
          وحديثُ جابرٍ يأتي في الحُدُود [خ¦6814].
          ومعنى (أَذْلَقَتْهُ) كما قال صاحب «العين»: أحرقَتْهُ، يقال: أَذْلَقَ الرَّجلُ غيرَه: أحرقَهُ بطعنِه أو حَجَرٍ يضرِبُهُ به، وعبارةُ بعضهم: أَذْلَقْتُهُ بلغتُ منه الجَهْد حتَّى قَلِق. وكانت عَائِشَة ♦ تصومُ في السَّفر حتَّى أذلَقَها السَّمُومُ، أي جَهَدها، أَذْلَقهُ الصَّوم وذلَّقَه: أضعَّفه، وقال الخطَّابيُّ: أي أصابته بذَلَقِها، أي بحَدِّها. وقال ابنُ فارسٍ: كلُّ محدودٍ مُذْلِقٌ، قال: والإذْلَاقُ سرعةُ الرَّميِّ.
          وقد سلف تفسير الحرَّة في الصِّيام، وهي أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سود.
          ومعنى (جَمَزَ): وَثَبَ وأسرع هاربًا مِنَ القتل، يَجْمِزُ جَمْزًا، وفي كتاب «الأفعال»: جَمَزَ الفرسُ جَمْزًا وأَجْمَز: وَثَب، فاستعير الجَمْزُ للإنسان بمعنى الوَثْبِ، وجَمَزَ الإنسانُ: أسرعَ في مشيه، والجَمَزَى _بالتَّحريك_ ضَرْبٌ مِن السَّير سريعٌ فوقَ العَنَق دونِ الحُضْرِ.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا الخلافَ في طلاق الصَّبيِّ، وأنَّ الأكثر على المنع.
          ومعنى (يُدْرِكَ): يحتلم كما في الرِّواية الأخرى، وفي أخرى: ((حَتَّى يَبْلُغَ))، وقال مالكٌ في «مختصر ما ليس في المختصر» فيمَن ناهز الاحتلام فقال: إن تزوَّجت فلانةً فهي طالقٌ، فتزوَّجها: يفرَّق بينهما. ورُوي عن ابن المسيِّب والحسنِ في طلاق مَن لم يحتلِم أنَّه لازمٌ، وقال أحمد بن حَنْبلَ: إذا أطاق صيامَ شهْرِ رَمَضانَ وأحصى الصَّلاة. وقال عَطَاءٌ: إذا بلغ اثنتي عشرة سنةً.
          فَصْلٌ: قولُه في حديث جابر: (فَتَنَحَّى لِشِقِّهِ الَّذِي أَعْرَضَ) وكذا في حديث أبي هُرَيْرَةَ، أي قصدَ الجهةَ الَّتي إليها وجَّهَه ◙.
          وقولُه: (فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) أخذَ به ابنُ أبي ليلى وأحمدُ في اعتبار إقرارَه أربعًا في مجلسٍ واحدٍ أو مجالسَ، وخصَّه أبوحنيفة وأصحابُه بالمجالس المتفرِّقة، ومذهبُنا ومذهبُ مالكٍ أنَّه يكفي مرَّةً لحديثِ: ((فإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْهَا)).
          قولُه: (وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ) أي وطئ في نِكاحٍ صحيحٍ، قال ثعلبٌ فيما حكاه ابنُ فارسٍ: كلُّ امرأةٍ عفيفةٍ فهي محصِنةٌ ومحصَنةٌ، وكلُّ امرأةٍ متزوجةٍ فهي محصَنةٌ لا غير. قال: ويُقَال: أَحْصَنَ الرَّجل، فهو مُحْصَنٌ، وذا أحدُ ما جاء على أفعلَ فهو مُفْعَل، قيل: ومنه {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5] أي متزوِّجين غير زناةٍ.