التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا}

          ░50▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا...} الآية [البقرة:234]).
          5344- ذكر فيه حديثَ مُجَاهِدٍ، وقد سلف في التَّفسير [خ¦4531] سندًا ومتنًا، وَ(شِبْلٌ) المذكور في إسناده هو ابنُ عبَّادٍ المكِّيُّ، انفرد به البخاريُّ وابنُ أبي نَجِيحٍ وهو عبد الله بن يَسَارٍ.
          5345- ثمَّ ساق حديثَ زينبَ بنت أمِّ سَلَمَة عن أمِّ حَبِيبة، وقد سلف قريبًا [خ¦5339].
          والنعيُّ بكسر العين وتشديد الياء، وبفتح النُّون وإسكان العين: خبرُ الموت، واقتصر ابنُ التِّين على الأوَّل، وما ذهب إليه مجاهدٌ غريبٌ، وقد قال ابنُ الزُّبير لعُثْمانَ ♥: لِمَ أَثْبَتَّ هذه الآية، وقد نسخَتْها الآيةُ الأخرى؟ قال: يا ابنَ أخي، لا أُغيِّرُ شيئًا مِن مكانه. يريد نسخَتْها أربعة أشهرٍ وعشرًا.
          وقولُ ابن عبَّاسٍ: (نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ عِدَّتَهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ). قال غيره: لم تُنسَخ، وإنَّما خصَّ الله تعالى الأزواج أن يُوصُوا بتمام السَّنَةِ لمن لا يَرِث مِن الزَّوجات.
          وقولُ عطاءٍ: (ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَنَسَخَ السُّكْنَى، فَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا سُكْنَى لَهَا) هو قول أبي حنيفة أنَّ المتوفَّى عنها لا سُكْنى لها، وهو أحد قولي الشَّافعيِّ كالنَّفقة، وأظهرُهما الوجوب لحديث فُرَيعةَ في السُّنن، وصحَّحه التِّرمذيُّ، وقد سلف.
          ومذهبُ مالكٍ أنَّ لها السُّكنى إذا كانت الدَّار مِلْكًا للميِّت أو نقَدَ كِرَاءَها، والَّذي قال ابنُ عبَّاسٍ في هذه الآية: نُسخَت بآية الميراث، ونُسِخ أجل الحول بأنْ جعلَ لها أربعة أشهرٍ وعشرًا، وفي حديث الفُرَيعةِ قال لها ◙: ((امْكُثِي فِي بَيتِكِ حتَّى يبلُغَ الكتابُ أجَلَهُ)).
          وعن مالكٍ: لها السُّكنى، وعنه مرَّةً: لا، قال مالكٌ: وزوجةُ الميِّت أحقُّ بالمسكنِ إن نقد كِرَاهُ، أي إذا أَكْرَاهُ مشاهرةً ومسانهةً، وأما لو اكترى سنةً مُعيَّنةً نَقْدًا ولم يَنْقُد فهي أحقُّ بالسُّكنى.
          فَرْعَانِ: عندهم طلَّقها بائنًا فلزمته السُّكنى ثمَّ مات أَكْرَى لها مِن مالهِ، بخِلاف مِن توفِّي عنها ولم يُطلِّقها، وقال ابن نافعٍ: لا سُكنى لها والموت يُسْقطها. فإن خرجتِ المتوفَّى عنها مسافرةً مسافةَ اليومين ونحوهما رُدَّت، فإن تَبَاعَدت تُرِكَت وليس عليها مِن المبيتِ حيث تسكنُ مثل ما عليها في بيت زوجها، قاله عبد الملك، وقال أصبَغُ: تُرَدُّ مِن الغد إذا قَدِر على ذلك مِن غير ضررِ.
          وقال ابن بطَّال: ذهب مُجَاهِدٌ إلى أنَّ الآية التي فيها {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] إنَّما نزلت قبل الآية الَّتي فيها {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، كما هي قبلها في التَّلاوة، ولم يجعل آية الحَوْلِ منسوخةً بالأربعة أشهرٍ وعشرًا، وأشكلَ عليه المعنى لأنَّ المنسوخ لا يمكن استعماله مع النَّاسخ، ورأى أنَّ استعمالَ هاتين الآيتين ممكنٌ؛ إذ حكمُهما غير مُدافَعٍ، ويجوز أن يوجبَ اللهُ تعالى على المعتدَّة التربُّصَ أربعة أشهرٍ وعشرًا، لا تخرج فيها مِن بيتها فرضًا عليها، يأمرُ أهلَها أن تبقى سبعة أشهرٍ وعشرين ليلةً، تمام الحَوْلِ إن شاءت، أو تخرج إن شاءت وصيَّةً لها لقوله: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ...} الآية [البقرة:240]، فحصل لها فائدتان في استعمال الآيتين، ورأى ألَّا يُسقِط حكمًا في كتاب الله يُمكِنه استعمالُه ولا يتبيَّنُ له نسخه.
          وهذا قولٌ لم يقله أحدٌ مِن المفسِّرين غيرُه ولا تابعَه عليه أحدٌ مِن فقهاء الأمَّة، بل اتَّفقَ جماعةُ المفسِّرين وكافَّةُ الفقهاء أنَّ قولَه: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] منسوخٌ بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، ويشهد لذلك الحديث السَّالف: ((وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَرمِي بِالبَعْرةِ عَلَى رَأسِ الحَوْلِ)).
          وممَّا يدلُّ على خطئِهِ أنَّ الله تعالى إنَّما أوجبَ السُّكنى للمتوفَّى عنهنَّ أزواجهنَّ عند مَن رأى إيجابَه في العِدَّة خاصَّةً، وهي الأربعة أشهرٍ وعشرٌ، وما زاد عليها فالأُمَّة مُتَّفقةٌ أنَّ المرأة فيها أجنبيَّةٌ مِن زوجها لا سُكنى لها ولا غيره شاءت أم لم تشأ، وكيف يجوز أن تبقى في بيت زوجها بعد العِدَّة إن شاءت وهي غير زوجةٍ منه ولا حَمْلٌ هناك يوجبُ حبسَها به ومنعَها مِن الأزواج حتَّى تَضَعه.
          وأيضًا فإنَّ السُّكنى إنَّما كان في الحَوْلِ حين كانت العِدَّة حولًا والسُّكنى ترتبط بها، فلمَّا نسخ الله الحولَ بالأربعة أشهرٍ وعشرًا استحال أن يكون سُكنى في غير عِدَّةٍ.
          وأمَّا ابنُ عبَّاسٍ فإنَّهُ دفَع السُّكنى للمتوفَّى عنها زوجُها وقال: قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ...} الآية [البقرة:234] ولم يقل: يَعْتَدِدْنَ في بيوتهنَّ، ولتعتدَّ حيث شاءت. وذهب إلى قول ابن عبَّاسٍ أنَّ المتوفَّى عنها تعتدُّ حيث شاءت عليٌّ وعَائِشَةُ وجابرٌ، ومِن حجَّتهم: أنَّ السُّكنى / إنَّما وردت في المطلَّقة وبذلك نطق القرآن، وإيجاب السُّكنى إيجابُ حُكمٍ، والأحكامُ لا تجب إلَّا بنصِّ كتابٍ أو سُنَّةٍ أو إجماعٍ، وقد سلفَ خِلافُ أهل العِلْم فيه قريبًا.
          وقال إسماعيلُ: أمَّا قولُ ابنِ عبَّاسٍ في {يَتَرَبَّصْنَ} ولم يقل: في بيتها، فمِثلُ هذا يجوز ألَّا يتبيَّن في ذلك الموضع، ويتبيَّن في غيره، وقد قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ولم يقل في هذا الموضع: إنَّها تتربَّص في بيتها، ثمَّ قال في أمر المطلَّقة في موضعٍ آخَر: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْن...} الآية [الطلاق:1]، وقال: {أَسْكِنُوهُنَّ...} الآية [الطلاق:6]، فبيَّن في هذا الموضع ما لم يُذكر في ذلك الموضع، وقد بيَّن أمرَ المتوفَّى بما جاء في حديث الفُرَيعة السَّالف، وعمل به جُملةُ أهلِ العِلْم، ورأينا المتوفَّى عنها احتيط في أمرها في العِدَّة بأكثر ما احتيط في المطلَّقة، لأنَّ المطلَّقة إن لم يدخل بها فلا عِدَّة بخِلافها، ويمكن ذلك والله أعلم؛ لأنَّ الدُّخول قد يكون ولا يَعلم به النَّاس، فإذا كان الزَّوج حيًّا ذَكَر ذلك وطَالَبَ به، وأمكن أن يُبيِّن حجَّته فيه، والميِّتُ قد انقطع عن ذلك، وليس ينبغي في النَّظر إذا كانت المتوفَّى عنها قد جعلت عليها العِدَّة في الموضع الَّذي لم يجعل على المطلَّقة أن تكون السُّكنى على المطلَّقة، ولا تكون على المتوفَّى عنها لِمَا في السُّكنى مِن الاحتياط في أمر المرأة وما يلحَقُ مِن النَّسب.
          وروى وكيعٌ: عن أبي جعفرٍ الرَّازيِّ، عن الرَّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية أنَّه سُئل: لِمَ ضُمَّت العشر إلى الأربعة أشهرٍ؟ قال: لأنَّ الرُّوح تُنفخ فيها في العاشر. وهذا سلفٌ.
          فأمَّا إن كان المَسكَنُ بِكِرَاءٍ قدَّمه الميِّت فلها أن تسكُنَ في عِدَّتها كما مرَّ، وإن كان لم يُقدِّمه وأخرجَها ربُّ الدَّار، لم يكن لها سُكنى في مال الزَّوج، هذا قول مالكٍ، وعلى قول الكوفيِّين والشَّافعيِّ أنه لا سُكنى للمتوفَّى عنها في مال زوجِها إن لم يخلِّف مسكنًا؛ لأنَّ المال صارَ للورثة، حاملًا كانت أو غير حاملٍ، ولا نفقةَ لها، وأوجب مالكٌ لها السُّكنى إن كانت حاملًا مِن مال الميِّت ونفقتها مِن مالها؛ لقوله: {يَتَرَبَّصْنَ} الآية، وكان الواجب على ظاهر الآية أن تتربَّص المتوفَّى عنها زوجُها هذه المدَّة، تفعلُ فيها ما كانت تفعل قبل وفاته، فلمَّا ثبتَ عن الشَّارع أنَّه قال: ((لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ...)) الحديث في الإحداد وجبَ اتِّباعُه لتفسيره لِمَا أجملَ في الآية.