التوضيح لشرح الجامع البخاري

قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}

          ░1▒ ثمَّ ذكر البخاريُّ قول اللهِ تعالى: ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1]) واستفتح بها لأنَّها دالةٌ على إباحة الطَّلاق، الخِطَابُ له والمؤمنون داخلون معه، والمعنى: إذا أردتم طلاقَ النِّساء، كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة:6] وقد فعلَه الشَّارع بحَفْصَةَ ثمَّ راجعَها، قال قَتَادَةُ عن أنسٍ: وفي ذلك نزلت الآية، ذكرَه الواحدِيُّ، وقال لابنِ عُمَرَ ☻ كما ستعلمُه: ((فإنْ شَاءَ أَمْسَكَ وإنْ شَاءَ طلَّقَ))، وقال السُّدِّيِّ: إنَّها نزلت فيه. وقال مُقَاتِلٌ: نزلت فيه وفي عُقبَةَ بنِ عَمْرٍو المَازِنيِّ، وطُفيلِ بن الحارث بن المطَّلب، وعَمرو بن سعيدِ بن العَاصي.
          ثمَّ قال البخاريُّ: ({أَحْصَيْنَاهُ} [يس:12]: حَفِظْنَاهُ وَعَدَدْنَاهُ) وهو كما قال.
          ثمَّ قال: (وَطَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ) هو كما قال كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.
          ثم قال: (ويُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ) في تفسير ابن عبَّاسٍ ☻: قال عبد الله: وذلك أنَّ ابنَ عُمَر ونفرًا معه مِن المهاجرين كانوا يُطلِّقون لغير عدَّةٍ ويراجعون بغير شهودٍ، فنزلت.
          5251- ثمَّ ساق البخاريُّ حديثَ نافعٍ عن ابن عُمَر ☻: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ صلعم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)، وقد سلف في سورة الطَّلاق [خ¦4908].
          رواه عن نافعٍ مالكٌ هنا، وهناك ابن جُرَيجٍ واللَّيث، وكذا رواه الزُّهريُّ عن سالمٍ عن أبيه، ورواه يُونُس بن جبيرٍ وسعيد بن جبيرٍ وأنس بن سِيرينَ وأبو الزُّبير وزيد بن أسلَمَ، كلُّهم عن ابن عُمَر، وقال فيه: ((مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ))، ولم يقولوا فيه: (ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ)
          وقام الإجماع أنَّ مَن طلَّق امرأته طاهرًا في طُهرٍ لم يمسَّها فيه أنَّه مطلِّقٌ للسُّنَّةِ كما ذكره البخاريُّ، والعِدَّةِ الَّتي أمر الله بها، وأنَّ له الرَّجعةُ إذا كانت مدخولًا بها قبل انقضاء العِدَّة، فإذا انقضت فهو كغيره.
          وذهب مالكٌ وأبو يُوسُف والشَّافعيُّ إلى ما رواه نافِعٌ عن ابن عُمَر، فقالوا: مَن طلَّق امرأته حائضًا أنه يراجعها ثمَّ يمسكها حتَّى تَطْهُرَ، ثمَّ تحيض ثمَّ تَطْهُرَ، ثمَّ إن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ وإن شاء أمسكَ. وذهب أبو حنيفةَ وأكثرُ أهل العراق إلى ما رواه يُونُس وغيره عن ابن عُمَرَ، فقالوا: يراجعها، فإذا طَهُرت طلَّقها إن شاء. وإلى هذا ذهب المُزَنيُّ، وقالوا: لمَّا أمر المطلِّقَ في الحيض بالمراجعة؛ لأنَّ طلاقَه ذلك أخطأ فيه السُّنَّة، أُمِرَ بمراجعتها ليُخرجَها مِن أسباب الخطأ، ثمَّ يتركَها حتَّى تَطْهُر مِن تلك الحَيْضة، ثمَّ إن شاء يطلِّقُها طلاقًا صوابًا، ولم يروا للحيضة الثَّانية بعد ذلك معنى.
          أمَّا الباقون فقالوا: للطُّهر الثَّاني والحَيْضة الثَّانية معانٍ صحيحةٌ، منها أنَّه لمَّا طلَّق في الموضع الَّذي نُهي عنه أُمِرَ بمراجعتها ليُوقع الطَّلاقَ على سُنَّته ولا يطوِّل في العِدَّة على امرأته، فلو أُبيح له أن يطلِّقها إذا طَهُرت مِن تلك الحيضة كانت في معنى المطلَّقة قبل البناء، لا عِدَّةَ عليها ولا بدَّ لها أن تبني على عدَّتها الأولى، فأراد تعالى على لسان رسولِه أن يقطعَ حكمَ الطَّلاق الأوَّل بالوطء؛ لئلَّا يُرَاجعها على نيَّةِ الفراق حتَّى يعتقدَ إمساكها، ولو طُهرًا واحدًا إذا وطئها في طُهرٍ لم يتهيَّأ له أن يطلِّقها فيه؛ لأنَّه قد نُهي أن يطلِّقها في طُهرٍ قد مسَّها فيه حتَّى تحيض بعدَه ثمَّ تَطْهُر، فإذا طلَّقها بعد ذلك استأنفت عِدَّتها مِن ذلك الوقت ولم تبنِ.
          وقالوا: إنَّ الطُّهر الثَّاني جُعِل للإصلاح الَّذي قال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228] لأنَّ حقَّ المرتجع ألَّا يرتجع رجعةَ ضِرارٍ؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231]، قالوا: فالطُّهر الأوَّل فيه الإصلاح بالوطء، ولا يعلم صحَّة المراجعة إلَّا بالوطء لأنه المبتغى بالنِّكاح والمراجعة في الأغلب، فكان ذلك الطُّهر موضعًا للوطء الَّذي تستيقن به المراجعة، فإذا مسَّها لم يكن له سبيلٌ إلى طلاقها في طُهرٍ قد مسَّها فيه للنَّهي عن ذلك، ولإجماعِهم على أنَّه لو فعل ذلك كان مُطلِّقًا لغير العِدَّة، فقيل له: دعها حتَّى تحيضَ أخرى ثمَّ تَطْهُر، ثمَّ طلِّق إن شئتَ قبل أن تمسَّ.
          وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عُمَر ☻ مِن حديثِ عبد الحميد بن جَعْفرٍ: حدَّثني نافِعٌ عن ابن عُمَر ☻ أنَّه طلَّق امرأتَه وهي في دَمِهَا حائضٌ، فأمرَه رسولُ الله صلعم أن يُرَاجعَها، فإذا طَهُرت مسَّها حتَّى إذا طَهُرت أخرى، فإن شاء طلَّقها وإن شاء أمسكها.
          قالوا: ولو أُبيح له أن يطلِّقها بعد الطُّهر مِن تلك الحَيْضة كان قد أمَرَ أن يراجعَها ليطلِّقَها فأشبه النِّكاحَ إلى أجلٍ أو نكاحَ المُتْعَة، فلم يجعل له ذلك حتَّى يطأ.
          وقال ابن أبي صُفْرَةَ: إنَّما أجبرَ ابن عُمَر على الرَّجعة لأنَّه طلَّق في الحيض وهي لا تعتدُّ بها، ولم يُبِح له التَّطليق في أوَّل طُهرٍ لأنَّ فيه تُستكمل الرَّجعة، ففرَّعه له لاستكمال الرَّجعة بالوطء إن شاء، ثمَّ لم يُبْحْ له بعد الوطء الطَّلاقُ؛ / لأنَّه شرطَ ألَّا يطلِّقها إلَّا في طُهرٍ لم يمسَّها فيه؛ لتكون الحيضةُ الَّتي قبل الطَّلاق للمبالغة في براءة الرَّحم، وقد قال به مالكٌ في الأَمَةِ، فاستحسن للبائع أن يستبرئها بحيضةٍ قبل البيع، ثمَّ لا يجتزئ بها عن حيضة المواضعة، ولا بدَّ مِن الإتيان بالحيضة بعد البيع، كما لا بدَّ مِن الإتيان بثلاث حِيَضٍ بعد الطَّلاق، الواحدةُ منهنَّ للفصْل بين الثِّنتين، والثِّنتان للمبالغة في براءة الرَّحم، أَلَا ترى أنَّها إن تزوَّجت قبل حيضةٍ نِكَاحًا فاسدًا أنَّ الولد للأوَّل، وإن تزوَّجت بعد حيضةٍ نكاحًا فاسدًا أنَّ الولد للثَّاني في رواية المصريِّين عن مالكٍ، فَحَصَلت أربع حِيَضٍ: واحدةٌ قبل الطَّلاق للمبالغة، وواحدةٌ بعد الطَّلاق للفصل بين الثِّنتين، والثَّانية والثَّالثة للمبالغة في براءة الرَّحِم.
          تَذْنِيبٌ: قد عَلِمتَ طلاق السُّنَّة، والحاصل أنَّ طلاق السُّنَّة المجتمع عليه أن يطلِّق طاهرًا مِن غير جماعٍ واحدةً، ثمَّ يتركها إذا أراد المقام على فراقها ثلاث حِيَضٍ، فإذا طعنت في الحيضة الثَّالثة فلا رجعَةَ، ولكن إن شاءت وشاء أن يجدِّد نكاحًا كان ذلك لهما، ومعنى قولِه: {لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] أي بعد طلاق الواحدة، فإن طلَّقها ثلاثًا فلا رجعةَ، وقال أهل العراق: إن طلَّقها طاهرًا مِن غير جماعٍ ثمَّ أوقع عند كلِّ حيضةٍ تطليقةً، فهو أيضًا عندهم طلاق سنَّةٍ، وإن فعل ما قال مالكٌ فهي عندهم سنَّةٌ أيضًا.
          وقال الشَّافعيُّ: إذا طلَّقها طاهرًا مِن غير جماعٍ فهو طلاق السُّنَّة وإن كان طلَّق ثلاثًا، وقد تعدَّى مَن جاوز طلاق السُّنَّة، {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [البقرة:232].
          وأمَّا ابن حزمٍ فقال: مَن أراد طلاق امرأةٍ قد وطئها فلا يحلُّ له أن يطلِّقها في حيضها ولا في طُهرٍ وَطِئها فيه، وإن طلَّقها طلقَتَين أو طلقةً في طُهرٍ وطئها فيه أو في حيضها لم ينفُذ ذلك الطَّلاق، وهي امرأته كما كانت إلَّا أن يطلِّقها كذلك ثالثةً أو ثلاثًا مجموعةً فيلزمه، فإن طلَّقها في طُهرٍ لم يمسَّها فيه فهو طلاق سنَّةٍ لازمٌ كيف ما أوقعه، إن شاء طلقةً واحدةً، وإن شاء طلقتين مجموعتين، وإن شاء ثلاثًا مجموعةً، فإن كانت حاملًا منه أو مِن غيره فله أن يطلِّقها حاملًا، وهو لازمٌ ولو إثر وطئه إيَّاها، فإن كان لم يطأها قطٌ فله أن يُطلِّقها في حال طُهْرها وفي حال حيضها، وإن شاء واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن كانت لم تَحِض قطٌ أو قد انقطع حيضُها طلَّقها، كما قلنا في الحامل.
          قال: وقد اختلف النَّاسُ في الطَّلاق في الحيض إن طلَّق الرَّجلُ كذلك أو في طُهرٍ وطئها فيه، هل يلزم الطَّلاق أم لا؟ وقد ادَّعى بعض القائلين بهذا أنَّه إجماعٌ، والخِلافُ موجودٌ، روِّينا مِن طريق عبد الرَّزَّاق عن وَهْبِ بن نافعٍ: أنَّ عِكْرِمَةَ أخبره أنَّه سمع ابنَ عبَّاسٍ يقول: الطَّلاق على أربعة وجوهٍ: وجهان حلالٌ، ووجهان حرامٌ، أمَّا الحلالُ فأن يطلِّقها مِن غير جِماعٍ أو حاملًا مُستبينًا حملَها، وأمَّا الحرام فأن يطلِّقها حائضًا أو حين يُجَامعُها، لا يدري اشتمل الرَّحمُ على ولدٍ أم لا؟ قال: ومِن المحال أن يُجيزَ ابنُ عبَّاسٍ ما يُخبَر بأنَّه حرامٌ. وذكر حديثَ ابنَ عُمَر ☻ أنَّه لا يعتدُّ بذلك السَّالف في سورة الطَّلاق.
          قال: ومِن طريق عبد الرَّزَّاق عن ابن جُرَيجٍ، عن عبد الله بن طَاوُسٍ عن أبيه: أنَّه كان لا يرى طلاقًا ما خالف وجهَ الطَّلاق ووجهَ العِدَّة، وكان يقول: وجهُ الطَّلاق أن يطلِّقها طاهرًا عن غير جماعٍ، وإذا استبان حملُها. ومِن حديثِ هماَّمٍ عن قَتَادَة عن خِلَاسِ بن عَمْرٍو أنَّه قال في الرَّجل يطلِّق امرأتَه وهي حائضٌ، قال: لا تعتدُّ بها. وأمَّا إمضاءُ الطَّلاقِ في الحيض أو في طُهرٍ جامعَها فيه فليس فيه عن أحدٍ مِن الصَّحابة مِن غير روايةٍ عن ابن عمر، وقد عارضَهَا ما هو أحسن منها عنه، وروايتين ساقطتين عن عُثْمَانَ وزيدِ بن ثابتٍ، إحداهما رُوِّيناها مِن رواية ابن وَهْبٍ، عن ابن سَمْعَانَ، عن رجلٍ أخبره: أنَّ عُثْمَانَ كان يقضي في المرأة الَّتي يطلِّقها زوجها وهي حائضٌ أنَّها لا تعتدُّ بحيضتها تلك، وتعتدُّ بعدها ثلاثة قُروءٍ. والأخرى مِن طريق عبد الرَّزاَّق عن هِشَام بن حسَّان، عن قَيْسِ بن سعدٍ مولى ابن عَلْقَمَةَ، عن رجلٍ، عن زيد بن ثابتٍ قال: مَن طلَّق امرأةً وهي حائضٌ يلزمه الطَّلاق وتعتدُّ بثلاث حِيَضٍ.
          فَصْلٌ: اختلف العلماء في معنى قوله ◙: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) فقال مالكٌ: الأمرُ محمولٌ على الوجوب، ومَن طلَّق زوجتَه حائضًا أو نُفَساء فإنَّه يُجبَر على رجعتها. فسوَّى دم النِّفاس بدم الحيض، قال مالكٌ وأكثر أصحابه: يُجبَر على الرَّجعة في الحِيَضِ الَّتي طلَّق فيها، وفي الطُّهر بعدها، وفي الحيضة بعد الطُّهر، وفي الطُّهر بعدها، وفي الحيضة بعد الطُّهر وفي الطُّهر بعدها ما لم تنقضِ عدَّتها، إلَّا أشهب فإنَّه قال: يُجبر على رجعتها في الحيضة الأولى خاصَّةً، فإذا طَهُرت منها لم يُجبر على رجعتها.
          قال ابنُ أبي ليلى وهو قولُ الكوفيِّين والأوزاعيِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي ثورٍ وابن حبيبٍ: يؤمر برجعتها ولا يُجبر على ذلك. وحملوا الأمر في ذلك على النَّدب ليقع الطَّلاق على سُنَّتهِ، ولم يختلفوا أنَّها إذا انقضت عِدَّتها أنَّه لا يجبر على رجعتها، فدلَّ على أنَّ الأمر بمراجعتها ندبٌ.
          وحجَّة مَن قال: يُجبر على رجعتها، قولٌه: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) وأمرُه فرضٌ، وأجمعوا أنَّه إذا طلَّقها في طُهرٍ قد مسَّها فيه أنَّه لا يُجبر على رجعتها ولا يُؤمَر بذلك، وإن كان قد أوقع الطَّلاق على غير سُنَّته، ووَهمَ مَن قال: إنَّ قولَه: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) مِن كلام ابن عمرٍ لا مِن كلام رسول الله صلعم، لأنَّه صريحٌ فيه، وقولهم: إنَّه أمر عُمَر لا ابنه، أغربُ منه.
          فَصْلٌ: قال ابن بطَّالٍ: اختُلِف في صِفة طلاق السُّنَّة فقال مالكٌ: هو أن يطلِّق واحدةً في طُهرٍ لم يمسَّها فيه، ثمَّ يتركها حتَّى تنقضي العدَّة برؤية الدَّم مِن أوَّل الحيضة الثَّالثة، وهو قول اللَّيث والأوزاعيِّ، وقال أبو حنيفةَ وأصحابُه: هذا حَسَنٌ مِن الطَّلاق، وله قولٌ آخرُ قال: إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثًا طلَّقها عند كلِّ طُهْرٍ واحدةً مِن غير جماعٍ، وهو قولُ الثَّوريِّ وأشهبَ، وقال: مَن طلَّق امرأتَه في طُهرٍ لم يمسَّها فيه واحدةً، ثمَّ إذا حاضت وطَهُرت طلَّقها أخرى، ثمَّ إذا حاضت وطَهُرت طلَّقها ثالثةً فهو مطلِّقٌ للسُّنَّة، وكِلَا القولين عند الكوفيِّين طلاقُ سنَّةٍ، قالوا: لَمَّا كان الطلاقُ للسُّنَّة في طُهرٍ لم تُمسَّ فيه، وكانت الزَّوجة الرَّجعيَّة / يلزمها ما أردفَهُ مِن الطَّلاق في عدَّتها بإجماعٍ، كان له أن يوقع في كلِّ طُهرٍ لم يمسَّها فيه طلقةً لأنَّها زوجةٌ مطلَّقةٌ في طُهرٍ لم تُمسَّ فيه.
          وقد رُوي هذا القول عن ابن مسعودٍ أنَّه طلاقُ السُّنَّة، وليس هو عند مالكٍ وسائرِ أصحابه مطلِّقًا لها، وكيف يكون ذلك والثَّانية لا يكون بعدها إلَّا حيضتان، والثَّالثة لا يكون بعدها إلَّا واحدةً، وهذا خِلاف السُّنَّة في العدَّة، ومَن طلَّق كما قال مالكٌ شهد له الجميع بأنَّه مطلِّقٌ للسُّنَّة.
          وزعم المَرْغِينَانيُّ أنَّ الطَّلاق عند أصحاب أبي حنيفةَ على ثلاثة أوجهٍ: أحسنٌ كما سلف عندنا في السُّنَّة، وحسنٌ وهو ما ذكرناه في القول الثَّاني، وبِدعِيٌّ وهو أن يطلِّقها ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ أو ثلاثًا في طُهرٍ واحدٍ، فإذا فعل ذلك وقع الطَّلاق وكان عاصيًا. وقال النَّخعيُّ: بَلَغَنا عن أصحاب رسول الله صلعم أنَّهم كانوا يستحبُّون ألَّا يزيدوا في الطَّلاق على واحدةٍ حتَّى تنقضي العِدَّة. قال الشَّافعيُّ وأحمدُ وأبو ثورٍ: ليس في عدد الطَّلاق سنَّةٌ ولا بدعةٌ، وإنَّما السُّنَّة في وقت الطَّلاق، فمن طلَّق امرأته واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا في طُهرٍ لم يُصِبْها فيه فهو مطلِّقٌ للسُّنَّة، وحُجَّتهم قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ولم يخصَّ واحدةً مِن اثنتين ولا ثلاثةً، وكذلك أمرَ ابنَ عمر بالطَّلاق في القُرء الثَّاني، ولم يخصَّ واحدةً مِن غيرها.
          ومِن جهة النَّظر أنَّ مَن جاز له أن يُوقِع واحدةً جاز له أن يُوقِع ثلاثًا، وإنَّما السُّنَّة وردت في الموضع الَّذي يخشى فيه الحَمْل أو تطوَّل فيه العِدَّة، فإذا كان طُهْرٌ لم يمسَّها فيه أَمِن فيه الحَمْل، رجاء أن يوقع ما شاء مِن الطَّلاق في ذلك الموضع، فيقال لهم: المرادُ بالآية أن لا يطلِّق في الحيض، وكذا حديث ابن عُمَر، وليس فيهما ما يتضمَّنُ العدد، وكيف يوقع العدد مِن دليلٍ آخر.
          ولم ينكر الشَّارع الطَلاق وإنَّما أنكر موضعَه فعلَّمَه كيف يُوقعُه، وعن عُمَرَ وابنه: مَن طلَّق ثلاثًا فقد عصى ربَّه، ولو كان كما ذكر لبَطَلَ.
          فائِدَةٌ: قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] أجمع أهل التَّفسير أنَّه يعني به الرَّجعة في العِدَّة، قالوا: وأيُّ أمرٍ يحدُثُ بعد الثَّلاث، فدلَّ أنَّ الارتجاع لا يسوغ إلَّا في المطلَّقة بدون الثَّلاث، وقد رُوي عن عُمَرَ وابنه وعليٍّ وابن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ وأبي مُوسى وغيرهم إظهار النَّكير على موقع الثَّلاث في مرَّةٍ، كما قاله ابن القصَّار، وكان عُمَر ☺ يُوجِعه ضربًا ويفرِّق بينهما.
          فَصْلٌ: وفي حديث الباب أيضًا حجَّةٌ لأهل المدينة والشَّافعيِّ أنَّ الأقراءَ الأطهارُ، حيث أخبر أنَّ الطَّلاق للعِدَّة لا يكون إلَّا في طُهرٍ تعتدُّ به وموضعٍ يُحسب به مِن عِدَّتها ويستقبلها مِن حينئذٍ، وكان هذا منه بيانًا لقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، واللَّام بمعنى في؛ لقوله: {لِيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:9] أي فيه، وقد قرئت: {لِقِبَلِ عِدَّتِهِنَّ} أي لاستقبال عِدَّتهنَّ، ونهى عن الطَّلاق في الحيض لئلَّا يستقبل العدَّة في تلك الحيضة عند الجمع؛ لأنَّ مَن قال: الأقراءُ الحيض، لا يجتزئ بتلك الحيضة مِن الثَّلاث حِيَضٍ عنده حتَّى يستقبل حيضةً بعد طُهرٍ، وكذلك لو طلَّق عندهم في طُهرٍ لم يعتدَّ إلَّا بالحيضة المقبلة بعد الطُّهر الَّذي طُلِّقت فيه، فجعلوا عليها ثلاثة قُروءٍ وشيئًا آخر، وذلك خِلاف الكتاب والسُّنَّة، ويلزمهم أن يقولوا: إنَّها قبل الحيضة في غير عِدَّةٍ، وهذا خِلافُ قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، ولقوله: (فَتِلْكَ الْعِدَّةُ التي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ)، وسيأتي بيان مذاهب العلماء فيه في العِدَّة.
          فَصْلٌ: الأمر بالرَّجعة والطَّلاق دالٌّ على وقوعه، وقد خالف فيه داودُ، وقد مضى كلام ابن حزمٍ فيه.
          فَصْلٌ: روى الدَّارقطنيُّ في آخر حديث ابن عُمَر هذا: ((وهي واحدةٌ))، وأجاب عنها ابنُ حزمٍ بجوابين، أحدُهما: لعلَّها ليست مِن كلام رسول الله صلعم، وليس كما قال، فالرَّفع صريحٌ فيها، وقد أخرجه ابن وَهْبٍ في «مسنده» مِن حديثِ ابن عُيَيْنَة عن نافعٍ، فذكر الحديثَ، وفيه: فقال ابنُ أبي ذِئبٍ في الحديث: عن رسول الله صلعم: وهي واحدةٌ، قال: وحدَّثني حَنْظَلةُ بن أبي سُفْيَانَ، سمع سالِمًا يحدِّثُ عن أبيه عن النَّبيِّ صلعم.
          ثانيهما: أنَّ قولَه: ((واحدةٌ)) أي واحدةٌ أخطأ فيها ابنُ عُمَر، أو قضيَّةٌ واحدةٌ لازمةٌ لكلِّ مطلِّقٍ، وهو عجيبٌ؛ فالأمر بالمراجعة دليلٌ على الاعتداد بها؛ لأنَّ الرَّجعة لا تكون إلَّا عن طلاقٍ، وفي «صحيح مُسْلمٍ»: قال عبدُ الله: فراجعتُهَا وحُسِبَتْ لَهَا التَّطليقةُ الَّتي طلَّقتُها. وعند البخاريِّ [خ¦5252]: حُسِبَت عليَّ بتطليقةٍ. ولعبد الرَّزَّاق: عن ابن جُريجٍ، عن نافعٍ قال: سألناهُ هل حُسْبَت تطليقةُ عبدِ الله بن عُمَر امرأتَه حائضًا على عهد رسول الله صلعم؟ قال: نعم. وللبيهقيِّ: عن عُبَيدِ الله، عن نافعٍ قال: فاعتدَّ ابنُ عُمَر بالتَّطليقة ولم تعتدَّ امرأته بحيضَةٍ. ولابن قَانِعٍ مِن حديثِ عبد العزيز بن صُهَيبٍ عن أنسٍ مرفوعًا: ((مَن طلَّقَ في بِدعةٍ أَلزَمنَاهُ بِدعَتَهُ))، وللدَّارَقطنيِّ عن معاذٍ مرفوعًا: ((يَا مُعاذُ، مَنْ طلَّقَ في بِدعَةٍ واحدةٍ أو اثنَتَينِ أو ثلاثًا ألزمناهُ بِدْعَتَه))، وله عن ابن عُمَر ☻: فقال عُمَرُ: يا رسول الله، أفَتُحْتَسَب بتلك التَّطليقة؟ قال: ((نَعَمْ))، وللنَّسائيُّ عن سالم بن عبد الله قال: طلَّقتُ امرأتي... الحديث، وفيه: وكان عبدُ الله طلَّقها تلطيقةً فَحُسِبَت مِن طلاقِها، وراجعَها عبدُ الله. وفي لفظٍ: فراجعَها وحُسِبَت لها التَّطليقَةُ الَّتي طلَّقَها.
          وللدَّارقطنيِّ: أنَّ رجلًا قال لعُمَرَ: إنِّي طلَّقت امرأتي البتَّةَ وهي حائضٌ، فقال: عصيتَ ربَّك، وفارقتَ امرأتَك، فقال الرَّجلُ: فإنَّ رسولَ الله صلعم أمرَ ابنَ عُمَر حين فارق امرأته أن يُرَاجعَها، فقال له عُمَرُ: إنَّ رسولَ الله أمر ابنَ عُمَرَ أن يراجع امرأته بطلاقٍ بَقِي له، وأنت لم تُبقِ ما تُرجِعُ به امرأتَك. قال البغويُّ: رواه غيرُ واحدٍ لم يذكروا فيه كلامَ عُمَر ☺، ولا أعلمُه روى هذا الكلام غير سعيدِ بن عبد الرَّحمن الجُمَحِيِّ.
          وله أيضًا عن أبي غَلَّابٍ قال: قلتُ لابنِ عُمَر: أكنتَ اعتددتَ بتلك التَّطليقة؟ قال: وما لي لا أعتدُّ بها.
          وله أيضًا عن جابِرٍ الحذَّاء: قلتُ لابن عُمَرَ: أعتددتَ بتلك التَّطليقة؟ قال: نعم.
          وله عن الشَّعبيِّ: طلَّق ابنُ عُمَرَ امرأتَه واحدةً وهي حائضٌ، فانطلقَ عُمَر إلى رسول الله صلعم فأخبره، فأمرَه / أن يُراجعَها ثمَّ يستقبل الطَّلاقَ في عِدَّتها، ويَحْتَسِب بهذه التَّطليقة الَّتي طلَّق أوَّل مرَّةٍ.
          وادَّعى ابنُ حزمٍ أنَّ حديثَ ابن أبي ذئبٍ، الَّذي في آخره: ((وَهِيَ وَاحِدَةٌ)) أتى بها ابنُ أبي ذئبٍ، ولا يُقطَعُ أنَّها مِن كلام رسول الله صلعم، ويمكن أن يكون مِن كلام مَن دونَه، والشَّرائعُ لا تُؤخَذ بالظُّنون، والظَّاهر أنَّه مِن قولِ مَن دون رسول الله صلعم. وهو عجيبٌ، فمَا ذكرَه لا يؤخذ بالظُّنون كما قاله، وفيما سلف مِن التَّصريح ما يدفعه، ثمَّ ذكر ابنُ حَزْمٍ حديثَ أبي الزُّبير عن عبد الله: ولم يرَها شيئًا، الَّذي أسلفناه أنَّه أنكر ما روى أبو الزُّبير عن غير واحدٍ في كتاب التَّفسير، قال: وهذا إسنادٌ في غاية الصِّحَّة لا يحتمل التَّوجيهات. قلتُ: عادتُه الرَّدُّ بأبي الزُّبير، فما باله قَبِلَه هنا، وقد أخرجه النَّسائيُّ مِن حديثِه، كما رواه الجماعة بلفظ: فسأل عُمَرُ رسولَ الله صلعم، فقال ◙: ((ليُراجِعْها))، فردَّها عليَّ وقال: ((إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطلِّقُ أَوْ يُمسِكُ)). قال: وأمَّا قولُ مَن قال: الأمرُ بمراجعتها دليلٌ على أنَّها طلقةٌ تعتدُّ بها، قلنا: ليس ذلك دليلًا على ما زعمتم؛ لأنَّ ابنَ عُمَر لا شكَّ إذا طلَّقها حائضًا فقد اجتنبَها، فأمَّا أمرُه ◙ برفض فِرَاقِه لها وأن يُرَاجعَها كما كانت قبل لا شكٍّ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حزمٍ: وأمَّا الاختلاف في طلاق الثَّلاث مجموعةً، فزعَمَ قومٌ أنَّه بِدعةٌ ثمَّ اختلفوا، فقالت طائفةٌ منهم: لا يقع البتَّة لأنَّ البِدعةَ مردودةٌ، وقالت طائفةٌ منهم: يُردُّ إلى حكم الواحدِ المأمورِ بأن يكونَ حكمُ الطَّلاقِ كذلك، وقالت طائفةٌ: ليست بِدعةً ولكنَّها سُنَّةٌ لا كراهَة فيها.
          احتجَّ مَن قال أنَّها تبطُلُ بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، وبقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، وبقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ...} الآية [البقرة:231]، قالوا: فلا يكون طلاقًا إلَّا ما كان بهذه الصِّفة.
          ومعنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] أي مرَّةً بعد مرَّةٍ، وذكروا ما أخرجه النَّسائيُّ: عن مَخْرَمَةَ، عن أبيه، عن محمود بن لَبِيدٍ قال: أُخبر رسولُ الله صلعم عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثًا جميعًا، فقام غَضْبانَ فقال: ((أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!)) فقال رجلٌ: ألا أقتُلُهُ يا رسول الله؟. قال النَّسائيُّ: لا أعلمُ رواه غير مَخْرَمَةَ. قال ابنُ حزمٍ: وهو خبرٌ مرسلٌ، ولا حجَّة في مُرْسَلٍ، ومَخْرَمَةُ لم يسمع مِن أبيه شيئًا. قلتُ: محمودٌ صحابيٌّ وُلِد على عهد رسول الله صلعم كما ذكره البخاريُّ وابنُ حبَّان، وقال التِّرمذيُّ: له رؤيةٌ. وقال أبو عُمَرَ: إنَّه الأولى، وأمَّا مُسْلِمٌ فذكره في التَّابعين، وذكره أيضًا فيهم غير واحدٍ، منهم: ابن أبي خَيْثَمَةَ ويَعْقوبُ بن شَيْبَة وأحمدُ والعَسْكريُّ والبَغَويُّ وابنُ مَنْدَه وأبو نُعَيمٍ.
          وأمَّا قوله: ومَخرمةُ لم يسمع مِن أبيه، فليس متَّفقًا عليه بل فيه خُلْفٌ، قال مالكٌ: قلتُ لمَخْرَمةَ: ما حدَّثت به عن أبيكَ سمعتَ منه؟ فحلف بالله: لقد سمعتُه. وذكر ابنُ الطَّحَّان في «رجال مالكٍ»: قال محمَّد بن الحسن بن أنسٍ: قال لي مالكٌ: لقيتُ مَخْرمةَ بالرَّوضة، فقلتُ له: سألتُك برَّبِّ هذه الرَّوضة، أسمعتَ مِن أبيك شيئًا؟ قال: نعم. وقال مَعْنٌ القزَّاز: مَخْرَمةُ سَمِع مِن أبيه. وقال الآجُرِّيُّ عن أبي داودَ: لم يسمع مِنه إلَّا حديثًا واحدًا، وهو حديث الوِتْر.
          ولأبي داودَ بإسناده مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ: جاءَه رجلٌ فقال: إنَّه طلَّق امرأتَه ثلاثًا، قال مجاهدٌ: فسكت حتَّى ظننت أنَّه رادُّها إليه، ثمَّ قال: يطلِّق أحدُكم فيركَبُ الحَمُوقَةَ ثمَّ يقول: يا ابنَ عبَّاسٍ، يا ابنَ عبَّاسٍ، وإنَّ اللهَ تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] وإنَّك لم تتَّقِ الله فلا أجدْ لكَ مخْرَجًا، عَصَيتَ ربَّك، وبانَتْ منك امرأتُك، إنَّ الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ}.
          وللدَّارقطنيِّ بإسنادٍ جيِّدٍ مِن حديثِ شُعيبِ بن رُزَيقٍ السَّاميِّ، عن عَطَاءٍ بن أبي مسلمٍ الخُرَاسانيِّ، عن الحسن، عن ابن عُمَر: أنَّه طلَّق امرأتُه وهي حائضٌ، ثمَّ أراد أن يُتْبِعَهَا تطليقتين أُخرَيين عند القُرْأَيْنِ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلعم فقال: ((يَا ابْنَ عُمَرَ، هَكَذا أَمرَكَ اللهُ؟! إنَّكَ قَدْ أخطَأتَ السُّنَّةَ، السُّنَّةُ أن تَستَقْبِلَ الطُّهرَ، فَتُطلِّقَ عندَ ذلكَ أو تُمسِكَ))، قال: فقلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ لو طلَّقتُها ثلاثًا، كانت تحِلُّ أن أُراجعَها؟ قال: ((لَا، كانتْ تَبِينُ منكَ وتكُونُ مَعْصِيةً)). قال البَيْهَقيُّ: أتى عَطَاءٌ الخراسانيُّ في هذا الحديث بزياداتٍ لم يُتَابَع عليها، وهو ضعيفٌ في الحديث لا يُقبل ما يتفرَّد به، ثمَّ إنَّه يرجع طلاقها في حال الحيض، وهو لو طلَّقها في حال الحيض ثلاثًا كانت تَبِينُ منه، وتكون معصيةً.
          قلتُ: عَطَاءٌ ثقةٌ مُرسِلٌ ويُعَنْعِنُ، وأخرج له الجماعة، وأمَّا ابنُ حزمٍ فأعلَّه بِشُعيبٍ وقال: حديثُ ابنِ عُمَر في غاية السُّقوطِ، وشعيبٌ ضعيفٌ. قلتُ: لا، قال الدَّارقطنيُّ لمَّا سأله عنه البَرْقانيُّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتِمٍ: صالحٌ، وذكرَه ابنُ حبَّان في «ثقاته»، وصحَّح الحاكمُ حديثًا هو في سنده، وقال الأثرمُ: سألتُ ابنَ حَنْبَلَ عن هذا الحديث بأيِّ شيءٍ تدفعهُ؟ قال: برواية الثِّقات عن ابن عبَّاسٍ مِن وجوهٍ خلافَه، ثمَّ ذكر عن عِكرمةَ عن ابن عبَّاسٍ أنَّها ثلاثٌ، قال: وإلى هذا نذهبُ. وقال الخَلَّالُ عنه: كلُّ أصحاب عبد الله رووا خِلافَ ما قال طَاوُسٌ، ولم يروِه عنهُ غيرُه. وقال ابنُ أبي حاتمٍ في «علله»: روايةُ أبي يوسف الصَّيدَنانيِّ، عن أبي خُلَيْد، عن حمَّاد بن زيدٍ، عن أيُّوب، عن عبد الله بن كثير، عن طَاوُسٍ خطأٌ، إنَّما هو: أيُّوب عن إبراهيمَ بنِ مَيسَرة عن طَاوُسٍ.
          وقال البَيْهقيُّ: إنَّما ترك البخاريُّ هذا الحديث لمخالفته سائرَ الرِّوايات عن ابن عبَّاسٍ أنَّه أجاز الطَّلاق وأَمْضَاهُ. قال ابنُ المنذر: فغيرُ جائزٍ أن يُظنَّ بابن عبَّاسٍ أنَّه يحفظ عن رسول الله صلعم ثمَّ يُفتي بخِلافِهِ، قال الشَّافعيُّ: يشبهُ أن يكونَ ابنُ عبَّاسٍ قد عَلِم شيئًا ثمَّ نُسخ.
          قلتُ: وأُوِّل بتأويلاتٍ أُخَر، أحدُها: قال ابنُ سُريجٍ: يمكن أن يكون إنَّما جاء في نوعٍ خاصٍّ مِن الطَّلاق الثَّلاث، وهو أن يفرِّق بين اللَّفظ كأن يقول: أنتِ طالقٌ، أنتِ طالقٌ، أنت طالق، كان في عهد رسول الله صلعم وأبي بكرٍ وعُمَر، والنَّاس على صِدْقهم وإسلامِهم، ولم يكن ظَهَرَ فيهم الخداع، فكانوا يَصْدُقون بأنَّهم أرادوا التَّأكيد في الثَّلاث، فلمَّا رأى عُمَرُ في زمانهِ أمورًا ظهرت وأحوالًا / تغيَّرت مَنَع مِن حَمْل اللَّفظ على التَّكرار وألزمَهم الثَّلاث. وقال بعضهم: إنَّما ذلك في غير المَدخول بها، وذهبت إليه جماعةٌ مِن أصحاب ابن عبَّاسٍ، رأوا أنَّ الثَّلاثَ لا تقع على غير المدخول بها لأنَّها بالواحدة تَبِينُ، وقولُه: ثلاثًا، كلامٌ وقع بعد البَيْنُونة فلا يعتدُّ به. وقال بعضهم: المراد أنَّه كان المُعتادُ في زمن رسول الله صلعم تطليقةً واحدةً قد اعتاد النَّاس التَّطليق بالثَّلاث، والمعنى: كان الطَّلاقُ المُوَقَّع الآن ثلاثًا يوقعُ واحدة فيما قبلُ إنكارًا لخروجهم عن السُّنَّةِ فهذه تأويلاتٌ.
          قال ابنُ حَزْمٍ: وأمَّا مَن قال: إنَّ الثَّلاث تُجعل طلقةً واحدةً، فإنَّهم احتجُّوا بحديث مسلمٍ: عن طَاوُسٍ، عن ابن عبَّاسٍ: كان الطَّلاقُ على عهد رسول الله صلعم وأبي بكرٍ وسنتين مِن خلافة عُمَر طلاقُ الثَّلاثِ واحدةٌ، فقال عُمَر ☺: إنَّ الناسَ قد استعجلوا في أمرٍ كان لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناهُ عليهم، فأمضاه عليهم. ومِن طريق عبد الرَّزَّاق عن ابن جُرَيجٍ: أخبرني ابنُ طاوسٍ عن أبيه: أنَّ أبا الصَّهبَاءِ قال لابن عبَّاسٍ: تعلمُ أنَّ الثَّلاثَ كانت تُجعَل واحدةً على عهد رسول الله صلعم وأبي بكرٍ وصدرٍ مِن إمرَة عُمَرَ؟ قال: نعم. ومِن طريق أحمد بن شُعَيب: حدَّثنا سُلَيمانُ بن سَيفٍ الحَرَّانيُّ، حدَّثنا أبو عاصِمٍ النَّبيل، عَنِ ابنِ جُريَج، عن ابن طَاوُوسٍ عن أبيه، عن عبد الله به. ومِن طريق مُسْلمٍ: مِن حديثِ أيُّوب، عن إبراهيم بن مَيسرَة، عن طَاوُوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ. ومِن طريق أبي داودٍ: حدَّثنا أحمدُ بن صالحٍ، حدَّثنا عبد الرَّزَّاق، أخبرنا ابنُ جُرَيجٍ، أخبرني بعضُ بني أبي رافعٍ مولى رسول الله صلعم، عن عِكْرِمَة عن ابن عبَّاسٍ قال: طلَّق عبدُ يَزِيدَ أبو رُكَانَةَ أمَّ رُكَانَةَ... الحديث، وفيه: أنَّ رسولَ الله صلعم قال له: ((رَاجِعِ امْرأتَكَ))، فقال: إنِّي طلَّقتُها ثلاثًا يا رسولَ الله، قال: ((قد عَلِمتُ، أرجِعْها))، وتلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1].
          قال ابن حزمٍ: ما نعلم لهم شيئًا احتجُّوا به غير هذا، وهذا لا يصحُّ لأنَّه عن رجلٍ غير مسمَّى مِن بني أبي رافعٍ، فلا حجَّةَ في مجهولٍ. وكأنَّه تَبِع في هذا الخطَّابيُّ، فإنَّه قال: في إسناد هذا الحديث مقالٌ لأنَّ ابنَ جُرَيجٍ إنَّما رواه عن بعض بني أبي رافعٍ ولم يُسَمِّه، والمجهول لا يقع به حجَّةٌ. قلتُ: لكن أخرجَه ابنُ حبَّان في «صحيحه» مِن حديثِ الزُّبير بن سعيدٍ، عن عبد الله بن عليِّ بن يزيدَ بن رُكَانة عن أبيه عن جدِّه، وقال الأثرمُ: سمعتُ أبا عبد الله يقول: حدَّثنا سعد بن إبراهيمَ عن أبيه، عن ابن إسحاقَ، عن داودَ بن الحُصَين، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رُكَانةَ طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فجعلَها النَّبيُّ صلعم واحدةً، قال أبو عبد الله: كان هذا مذهبُ ابن إسحاق، يقول: خالف السُّنَّة، فردَّه إلى السُّنَّة على مذهب الرَّوافض، قلت له: على حديث طَاوُسٍ ذلك؟ قال: نعم، قال ابنُ إسحاق: إنَّما ردَّها عليه لأنَّ الطَّلاق كان ثلاثًا في مجلسٍ.
          وأمَّا الطَّحاويُّ فلمَّا ذكر حديثَ أبي الصَّهباء مِن حديثِ ابن إسحاقَ هذا قال: هذان حديثان منكران، وقد خالفَهما مَن هو أثبتُ منهما، وأبو الصَّهباء لا يُعَرف في موالي ابن عبَّاسٍ، وحديثُ ابن إسحاقَ خطأٌ. وليس كما قال؛ فأبو الصَّهباء سائلٌ بحضور طاوسٍ، فطاوس هو الرَّاوي، وقد عَرَفَه مسلمٌ بولائه وأخرج حديثَه في «صحيحه»، وسمَّاه غيرُ واحدٍ: صُهيبًا.
          وأمَّا ما رواه عبد الرَّزَّاق، عن يَحيى بن العَلاءِ، عن عُبيد الله بن الوليد الوَصَّافيِّ، عن إبراهيم بن عُبيد الله بن عُبَادةَ بن الصَّامت، عن أبيه عن جدِّه قال: طلَّق جدِّي امرأة له ألفَ تطليقةٍ، فانطلقَ أبي إلى رسول الله صلعم، فذكر ذلك له فقال: ((مَا اتَّقَى اللهَ جَدُّك، أَمَّا ثَلَاثٌ فَلَهُ، وأمَّا تُسعُ مِئةٍ وسَبْعٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ))، فقال ابنُ حزمٍ: هو في غاية السُّقوط لأنَّه إمَّا مِن طريق يَحْيَى بن العَلاءِ وليس بالقويِّ... عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصَّامت وهو مجهولٌ لا يُعرف، وهو منكرٌ جدًّا لأنَّه لم يُوجَد قطُّ في شيءٍ من الآثارِ أنَّ والد عُبادةَ أدركَ الإسلام، فكيف جدُّهُ؟ وهو مُحَالٌ بلا شكٍّ، ثمَّ ألفاظُه متناقضةٌ في بعضها: أمَّا ثَّلاث فلك، وهذا إباحةٌ الثَّلاث، وبعضُها بخلافِ ذلك. وهو كما قال، ويحيى بنُ العلاء لا يُقَال فيه: ليس بالقويِّ، فقد نسبَه أحمدُ وغيرُه إلى الوَضْع، ولم يُعِلَّه بِعُبَيدِ الله الوصَّافيِّ وقد ضعَّفُوه وتركوه، وفي أحاديثه مناكير، وقال يَحيى بن مَعِينٍ في حقِّه: ليس بشيءٍ، على أنَّ الدَّارقطنيَّ لمَّا أخرجه قَرَنَ به صَدَقَةَ بنَ أبي عِمْرَان أحد رجال مُسْلمٍ. قلتُ: وإبراهيم لا أعرفُه، وكذا أبوه وجدُّه.