التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب المتعة للتي لم يفرض لها

          ░53▒ (بَابُ الْمُتْعَةِ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا، لِقَوْلِ اللهِ ╡: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ...} إِلَى قَوْلِهِ: {بَصِيرٌ} [البقرة:236- 237]، وَقَوْلِهِ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ...} الآية [البقرة:241]، وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلعم فِي الْمُلاَعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا).
          5350- ثمَّ ساق حديثَ ابن عُمَرَ ☻ السَّالف [خ¦5349].
          اختلفَ العلماءُ في المُتعَةِ، فقالت طائفةٌ: هي واجبةٌ للمطلَّقة الَّتي لم يدخل بها ولم يُسمِّ لها صَدَاقًا، ورُوي ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ، وهو قولُ عطاءٍ والشَّعبيِّ والنَّخَعيِّ والزُّهريِّ، وبه قال الكوفيُّون، ولا يُجمَع مهرٌ مع المتعة، قال ابن عبد البرِّ: وبه قال شُرَيحٌ وعبد الله بن مَعْقِلٍ أيضًا. قال الحنفيُّون: فإن دخلَ بها ثمَّ طلَّقها فإنَّه يُمتِّعُها ولا يُجبَر عليها هنا، وهو قولُ الثَّوريِّ وابنِ حيٍّ والأوزاعيِّ إلا أن الأوزاعي قال: فإن كانَ أحدُ الزَّوجين مملوكًا لم تجب، وإن طلَّقها قبل الدُّخول ولم يُسمِّ لها مهرًا.
          قال أبو عُمَر: وقد رُوي عن الشَّافعيِّ مثل قول أبي حنيفةَ بعد ذلك.
          وقالت طائفةٌ: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ، مدخولًا بها كانت أو غيرَ مدخولٍ بها، إذا وقع الفراقُ مِن قِبَله أو لم يتمَّ إلَّا به، إلَّا للَّتي سمَّى لها وطلَّقها قبل الدُّخول، فكذلك امرأة العِنِّين، وهو قول الشَّافعيِّ وأبي ثورٍ، ورُوي عن عليٍّ: لكلِّ مطلقةٍ متعةٌ، ومثله عن الحسنِ وسَعِيد بن جُبيرٍ وأبي قِلَابَة وطائفةٍ، حجَّتهم عُمُومُ {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] ولم يخصَّ. وقالت طائفةٌ: المتعةُ ليست بواجبةٍ في موضعٍ مِن المواضع، وهو قولُ ابنِ أبي ليلى وَرَبِيعةَ، وهو قولُ مالكٍ واللَّيث وابن أبي سَلَمَة.
          وحجَّة الشَّافعيِّ ما رواه مالكٌ عن نافعٍ عن ابن عُمَر ☻ أنَّه قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ إلَّا الَّتي فُرِضَ لها مهرٌ وقد طُلِّقت ولم يدْخُل بها فحسْبُها نِصْف المهر. قال الشَّافعيُّ: وأحسِبُ ابنَ عُمَر استدلَّ بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:237] فاستدلَّ بالقرآن على أنَّها مُخْرَجةٌ مِن جميع المطلَّقات، ولعلَّه رأى أنَّه إنَّما أريد أن تكون المطلَّقة تأخذ بما استمتع به زوجها منها عند طلاقه شيئًا، فلمَّا كانت المدخولُ بها تأخذ شيئًا غير المدخول بها تأخذ أيضًا إذا لم يفرِضْ لها وكانت الَّتي لم يدخل بها وقد فرض لها تأخذ بحكم الله نِصْف المهر، وهو أكثر مِن المتعة ولم يستمتع منها بشيءٍ، فلم تجب لها متعةٌ.
          حُجَّة أهل الكوفة ما ذكرَه أبو عُبَيدٍ: إنا وجدنا النِّساء في المتعة على ثلاثة ضُروبٍ، فكانت الآية الَّتي فيها ذكرُ المتعيِّن لِصَنْفَين منهم، وهنَّ المطلَّقات بعد الدُّخول إن كان فُرِضَ لهنَّ صداقٌ أو لم يُفْرَض، والمطلَّقات قبل الدُّخول مع تسمية صَدُقاتهنَّ فلأولئك المهور كواملَ بالمَسِيس ولهؤلاء الشُّطور منها بالتَّسمية، فلمَّا صار هذان الحقَّان واجبين كانت المتعة حينئذٍ تقوى مِن الله تعالى غير واجبةٍ، ووجدنا الآية فيها ذكر الموسِع والمقتِر هي الصَّنف الثَّالث، وهنَّ المطلَّقات مِن غير دخولٍ بهنَّ ولا فرضٍ لهنَّ، وذلك قوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ...} الآية [البقرة:236]، فصارت المتعة لهنَّ حَتمًا واجبًا، ولولا هذه المتعة لصار عَقْدُ النِّكاح إذًا يذهبُ باطلًا مِن أجل أنَّهنَّ لم يُمْسَسن فَيَسْتَحْقِقن الصَّدُقات، ولم يفرِضْ لهنَّ فَيَسْتَحْقِقْنَ أنصافَها، فلا بدَّ مِن المتعة على كلِّ حالٍ.
          واحتجَّ مَن لم يُوجبْها أصلًا فقال: قولُه: {وَمَتِّعُوهُنَّ} وإن كان ظاهرُه الوجوب، فقد قَرَنَ به ما يدلُّ على الاستحباب، وذلك أنَّه تعالى قَرَنَ بين المعسِرِ والموسِرِ، والواجبات في النِّكاح ضَرْبان: إمَّا أن يكون على حَسَب حال المنكوحات، كالصَّداق الَّذي يرجع فيه إلى صَدَاقِ مثلها، أو يكون على حَسَبِ حالهما جميعًا كالنَّفقات، والمتعةُ خارجةٌ مِن هذين المعنيين لأنَّه اعتبر فيها حالة الرَّجل وحدَهُ بأن يكون على الموسِرِ أكثر ممَّا على المعسِرِ.
          وأيضًا فإنَّ المتعةَ لو كانت فرضًا كانت مقدَّرةً معلومةً كسائر الفرائض في الأموال، ولم نرَ فرضًا واجبًا في المال غير معلومٍ، فلمَّا لم تكن كذلك خرجت عن حدِّ الفرض إلى النَّدب والإرشاد والإخبار وصارت كالصِّلة والهديَّةِ.
          وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لمَّا علَّقها بقومٍ دلَّ على أنَّها غيرُ واجبةٍ؛ لأنَّ الواجبات ما لزمت النَّاس عمومًا كالصَّلاة والصِّيام والحجِّ والزَّكاة، فلمَّا قال تعالى: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] و{عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] سقط وجوبُها عن غيرهم، وكذلك تأوَّله شُرَيحٌ فقال لرجلٍ: متِّع إنْ كنت مُحسنًا، متِّع إن كنت مُتَّقيًا. وعنه: هي واجبةٌ في قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ}، وندْبٌ في: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236].
          قال أبو عُمَر: هذا التَّفسير احتجَّ به أصحابُه له، ويُجَاب عنه بأنَّه ليس في ترْكِ تحديدها ما يُسقط وجوبها، كنفقات البنين والزَّوجات، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233]، ولم نجد شيئًا مقدَّرًا فيما أوجب مِن ذلك، وقال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ...} الآية [الطلاق:7]، كما قال في الآية الأخرى: {على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236]، وقال ◙ لهندٍ: ((خُذِي مِن مَالِه مَا يَكفِيكِ وَوَلَدَكِ بالمعرُوفِ))، ولم يُقَدِّر.
          قال ابن عبد البرِّ: لم يختلف العلماءُ أنَّ المتعةَ المذكورة في القرآن غير مُقدَّرةٍ ولا محدودةٍ ولا معلومٍ مبلغُها ولا يُوجَب قَدْرها، بل هي كما قال تعالى: {على الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وإنما اختلفوا في وجوبها:
          فروى مالكٌ أنَّه بلَغَهُ: أنَّ عبدَ الرَّحمن بنَ عوفٍ طلَّق امرأةً ومتَّعها بوليدةٍ، وكان ابنُ سِيرينَ يمتِّع بالخادم أو النَّفقة أو الكِسْوة، ومتَّع الحسنُ بنُ عليٍّ زوجتَه بعشرة آلافٍ، فقالت: متاعٌ قليلٌ مِن حبيبٍ مُفَارقٍ، ومتَّع شُرَيحٌ بخمس مئة دِرْهمٍ، والأسودُ بن يَزِيدَ بثلاث مئةٍ، وعُرْوةُ بخادمٍ، وقال قَتَادَةُ: المتعةُ جِلْبابٌ ودِرْعٌ وخمارٌ، وإليه ذهب أبو حنيفة وقال: هذا لكلِّ حرًّةٍ أو أَمَةٍ وكتابيَّةٍ إذا وقع الطَّلاق مِن جهته، وقال الزُّهريُّ: بَلَغَني أنَّ المطلِّق كان يمتِّع بالخادم والحُلَّة أو النَّفقة، وعن عُمَرَ ☺: ثلاثون دِرْهمًا، وفي روايةٍ أنَّه متَّع بوليدةٍ.
          فَصْلٌ: وقولُ البخاريِّ: (وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلعم لِلْمُلاَعَنَةِ مُتْعَةً حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا) حجَّةٌ لمن قال: لكلِّ مطلَّقةٍ متعةٌ، والملاعَنة غير داخلةٍ في جملة المطلَّقات، فلا متعةَ لها عند مالكٍ والشَّافعيِّ، قال ابنُ القاسم: لا متعةَ في كلِّ نكاحٍ مفسوخٍ. والملاعَنةُ عندهم كالفسخ لأنَّهما لا يُقرَّان على النِّكاح فأشبَه الرِّدَّة، وكلُّ فُرقةٍ مِن قِبَل المرأة قبلَ البناء وبعدَه فلا مُتعةَ فيها، وأوجب الشَّافعيُّ للمُخْتَلِعةِ والمباريةِ متعةً، وقال أصحاب مالكٍ: كيف يكون للمُفْتدية متعةٌ، وهي تُعْطِي؟ فكيف تأخذ متاعًا؟
          فَصْلٌ: قال ابنُ المنذر: وقولُه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ...} الآية [البقرة:236] دليلٌ على إباحة نِكَاح المرأة ولا يفرِض لها صَدَاقًا ثم يفرِضُ لها إلى أن مات أو دخل / عليها مهر مِثلها.
          واختلفوا إن مات ولم يفرِضْ لها، فقالت طائفةٌ: لها مَهْر مِثْلها ولها الميراث وعليها العِدَّة، رُوي هذا عن ابن مسعودٍ، وبه قال ابنُ أبي ليلى والثَّوريُّ والكوفيُّون وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ، وقالت طائفةٌ: لها الميراث، وعليها العِدَّة ولا مهرَ لها، رُوي هذا عن عليٍّ وزيد بن ثابتٍ وابن عبَّاسٍ وابن عُمَرَ، وبه قال مالكٌ والأوزاعيُّ، وللشَّافعيِّ قولان، أظهرُهما الأوَّل، واستحبَّ مالكٌ ألَّا يدخل عليها حتَّى يقدِّم لها شيئًا أقلَّه رُبع دِينارٍ.
          وفي السُّنن الأربعة مِن حديثِ عبد الله بن مسعودٍ ☺ في رجلٍ تزوَّج امرأةً فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرِضْ لها صَدَاقًا فقال: لها الصَّداق كاملًا وعليها العِدَّة ولها الميراث. قال مَعْقِلُ بن سِنَانَ: سمعتُ رسول الله صلعم قضى به في بِرْوَعَ بنت وَاشِقٍ. قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وصحَّحه أيضًا ابنُ حبَّان والحاكم والبيهقيُّ وابنُ حزمٍ وغيرهم.
          فائدة: في البيهقيِّ أنَّه ◙: أمرَ زوجَ فاطمَةَ بنت قيسٍ أن يُمتِّعها، وفي إسنادِه ابنُ عُقيلٍ، وهو دالٌّ لأظهر القولين في وجوبها للمدخول بها.
          فَصْلٌ: قول البخاريِّ: (لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا) قال ابن التِّين: يريد مَن فرضَ لها حسبُها نِصف صَدَاقها، قال: وهذا قول ابنِ عُمَرَ وابنِ المسيِّب ومالكٍ، قال: ومعنى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]: أي مع المتعة، ثمَّ نقلَ عن سَعِيد بن جُبَيرٍ والضَّحَّاك ومجاهدٍ في المطلَّقة قبل الدُّخول ولا فرضَ: هي لها واجبةٌ.