التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره فلم يمسها

          ░37▒ (بَابُ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلَمْ يَمَسَّهَا).
          5317- ذكر فيه حديثَ عَائِشَةَ ♦: (أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلعم فَذَكَرَتْ أَنَّهُ لَا يَأْتِيهَا، وَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلاَّ مِثْلُ هُدْبَةٍ فَقَالَ: لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ).
          وقد سلف في باب: مَن أجاز طلاق الثَّلاث [خ¦5261] واضحًا وغيره.
          وفيه أنَّ المطلَّقة ثلاثًا لا تحِلُّ لزوجها إلَّا بطلاقِ زوجٍ قد وطئها كما سلف، وعلى هذا جماعةُ العلماء إلَّا سعيدَ بن المسيِّب كما سلف، ولا نعلَمُه وافقَهُ عليه إلَّا مَن لا يعتدّ به، والسُّنَّة مُستغنًى بها عمَّا سواها، ولعلَّه لم يبلغه الحديث.
          والعُسَيْلَةُ كِنايةٌ عن اللَّذَّة.
          واختُلف في صِفة الوطء الَّذي يُحِلُّ المطلَّقة ثلاثًا، فقال مالكٌ: لا يُحِلُّها إلَّا الوطءُ المباح؛ فإن وقعَ الوطء في صومٍ أو اعتكافٍ أو حجٍّ أو حيضٍ أو نِفَاسٍ لم تَحِلَّ به، ولا يُحِلُّ الذِّمِّيِّة عندَه وطءُ الذِّمِّيِّ ولا الصَّبيُّ إذا لم يكن بالغًا، وقال الكوفيُّون والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ: يُحلِّها وطءُ كلِّ زوجٍ بنكاحٍ صحيحٍ، وكذا لو أصابَها مُحرِمةً أو صائمةً أو حائضًا، أو وطئها مُراهقٌ لم يحتلِم يحِلُّ بذلك كلِّه، وتَحِلُّ الذِّمِّيَّة للمسلم بوطء زوجٍ ذمِّيٍّ، وبهذا كلِّه قال ابن الماجِشُون وبعضُ المدنيِّين لأنَّه زوجٌ.
          فَصْلٌ: واختُلِف في عَقْد نِكاح المحلِّل، فقال مالكٌ: لا يُحلِّها إلَّا نِكاح رغبةٍ، وإن قصدَ التَّحليل لم يحلَّها سواءٌ عَلِم ذلك الزَّوجان أم لم يَعْلما لا يحِلُّ، ويفسخ قبل الدُّخول وبعده، وهذا قول اللَّيث والثَّوريِّ والأوزاعيِّ وأحمدَ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشَّافعيُّ: النِّكاح جائزٌ وله أن يُقِيم على نِكَاحه، وهو قول عطاءٍ والحَكَمِ، وقال القاسمُ وعُرْوةُ والشَّعبيُّ: لا بأس أن يتزوَّجها ليُحِلَّها إذا لم يعلم بذلك الزَّوجان، وهو مأجورٌ بذلك، وهو قول رَبِيعةَ ويحيى بن سَعِيدٍ، وقد سلف ذلك أيضًا واضحًا.
          حجَّة مالكٍ أنَّه ◙ لعن المُحلِّل والمُحلَّل له، رواه عنه عليٌّ وابنُ مسعودٍ وعُقْبة بن عامرٍ وخَلْقٌ، وفي حديث عُقْبةَ: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى التَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ هُوَ الْمُحِلُّ))، ولا فائدةَ للَّعنةِ إلَّا إفساد النِّكاح والتَّحذير منه، وقد سُئِل ابنُ عُمَر ☻ عن نِكَاح المحلِّل، فقال: ذلك السِّفاحُ.
          حُجَّة أهل الكوفة عُمُوم قولِه: {زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، وقد وُجد الشَّرط، وعَقْدُ الثَّاني على شرائطه يفيدُ تحليلها للأوَّل، ولا فرق بين أن ينوي التَّحليلَ أم لا، أَلَا ترى أنَّ عَقْد النِّكاح يفسخ الوطءَ ويفيد وجوب الطَّلاق والنَّفقة، ولا فرقَ بين أن ينوي ذلك فيقول: أَنكَحُ لِأَطَأَ وبين أن لا ينوي ذلك.
          فَصْلٌ: في الحديث دِلالةٌ على أنَّ للمرأة المطالبةَ بحقِّها مِن الجِمَاع، وأنَّ لها أن تدعو إلى فسْخِ النِّكاح، وذلك أنَّها إنَّما ادَّعت بهذا القول العنَّة ولم تُرِد أنَّ ذلك منه في دقَّة الهُدبَة، إنَّما أرادت أنَّه كالهُدبَة ضعفًا أو استرخاءً، وقد بان ذلك في رواية أيُّوبَ عن عِكْرمةَ أنَّها قالت: واللهِ مالي إليهِ مِن ذَنْبٍ إلَّا أنَّ ما معَهُ ليس بأغنى عنِّي مِن هذه، وأخذت هُدْبَةً مِن ثوبها، فقال: كَذَبَتْ يا رسولَ اللهِ، إِنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الأَدِيمِ.
          وقال ابن المنذر: اختلف أهل العِلْم في الرجل ينكِحُ المرأةَ ثمَّ تُطَالبه بالجِمَاع، فقال كثيرٌ مِن أهل العِلْم: إذا وطئها مرَّةً لم يؤجَّل إلى أجل العِنَّين، رُوي عن عَطَاءٍ وطَاوُسٍ والحسَنِ والزُّهريِّ، وهو قول مالكٍ والأوزاعيِّ وأبي حنيفة والثَّوريِّ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، وحكى أبو ثورٍ عن بعض أهلِ الأثر أنَّه كلَّما أمسكَ عنها أجَّل لها سنةً؛ لأنَّه ليس فيما مضى مِن جِمَاعِها مَقنَعٌ. وقال أبو ثورٍ: إذا غَشِيها مرَّةً واحدةً ثمَّ أمسكَ فإن رافعَتْهُ أجَّل لها، وذلك أنَّ العِلَّة الَّتي في العِنِّين قد صارت فيه، ولست أنظرُ في هذا إلى أوَّل النِّكاح ولا آخره إذا كانت العِلَّة موجودةً، وذلك أنَّ حقوقها الجِمَاع، فمتى كان المنع لِعِلَّةٍ كان حكمُه حكم العِنِّين.
          يتلوه كِتَابُ العِدَّةِ.
          فرَغَ مِن تعليقهِ في سنةِ إحدى وعشرين وثمان مئةٍ بالشَّرفية بحلَبَ إبراهيمُ بن محمَّد بن خليلٍ سِبْط ابن العَجَميِّ الحلبيِّ مِن نُسْخَةٍ سَقِيمةٍ.
          الحمدُ للهِ وحدَه وَصَلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وآلهِ وَصَحْبهِ وَسَلَّمَ وَحْسبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَكَيلُ. / .