التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}

          ░40▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228].
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ فِيمَنْ تَزَوَّجَ فِي الْعِدَّةِ وَحَاضَتْ عِنْدَهُ ثَلاَثَ حِيَضٍ: بَانَتْ مِنَ الأَوَّلِ وَلاَ تَحْتَسِبُ بِهِ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَحْتَسِبُ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَى سُفْيَانَ، يَعْنِي قَوْلَ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: أَقْرَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا دَنَا حَيْضُهَا، وَأَقْرَأَتْ إِذَا دَنَا طُهْرُهَا، وَيُقَالُ: مَا قَرَأَتْ بِسَلًى قَطُّ، إِذَا لَمْ تَجْمَعْ وَلَدًا فِي بَطْنِهَا).
          الشرح: أثرُ إبراهيمَ أخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ، عن عَبْدةَ بن أبي سُلَيْمَان، عن إسماعيلَ بن أبي خالدٍ عنه، يعني بالحيض لا تكون عِدَّةً للثَّاني؛ لأنَّ العلماءَ مجمعون على أنَّ النَّاكح في العِدِّة يُفسَخ نكاحه ويُفرَّق بينهما، كما قاله ابن بطَّالٍ، قال: وهذه مسألة اجتماع العِدَّتين واختلف العلماء فيها، فروى المدنيُّون عن مالكٍ: إن كانت حاضت حيضةً أو حيضتين مِن الأوَّل أنَّها تُتِمُّ بقيَّة عِدَّتِها منه، ثمًّ تستأنف عِدًّة أُخرى مِن الآخرِ على ما رُوي عن عُمَرَ وعليٍّ، وهو قول اللَّيث والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، وروى ابنُ القاسم عن مالكٍ أنَّ عِدَّةً واحدةٌ تكون لهما جميعًا، سواءٌ كانت العِدَّة بالحمْلِ أو الحيض أو الشُّهور، وهو قول الثّوريِّ والأوزاعيِّ وأبي حنيفة وأصحابه.
          والحُجَّة لهذه إجماعُهم أنَّ الأوَّل لا يَنْكِحُها في بقيَّة العِدَّة مِن الثَّاني؛ فدلَّ على أنَّها في عِدَّةٍ مِن الثَّاني، ولولا ذلك لنكَحَها في عِدَّتها منه، ووجه الأولى أنَّهما حقَّان قد وجبا عليها لزوجين كسائر الحقوق لا يدخل أحدهما في صاحبه. /
          وقوله: (وَقَالَ مَعْمَرٌ...) إلى آخره، مَعْمَرٌ هذا هو أبو عُبَيدةَ اللُّغويُّ الإمام، وقد ذكرَه كذلك في «مجازه»، وهو بضمِّ القاف وفتحها، قال ابن فارسٍ: يقال أَقْرَأَتِ المرأةَ: إذا خَرَجَتْ مِن طُهرٍ إلى حيضٍ، أو مِن حيضٍ إلى طُهْرٍ، والأَقْرَاءُ جمع قُرْءٍ، والقُرُوء أوقاتٌ تكون للطُّهر مرَّةً، وللحيض مرَّةً، ويُقَال: القُرْء هو الطُّهر، وكذلك المرأة الطَّاهر كأنَّ الدَّم اجتمع وامتسَكَ في بدنها، فهو مِن قَرَيْتُ الماءَ، وقرى الآكلُ الطَّعامَ في شِدْقهِ، وقد يختلف اللَّفظان فيُهْمَز أحدُهما ولا يُهْمَز الآخر.
          واختلف العلماء في الأقراء الَّتي تجب على المرأة إذا طُلِّقت ما هي، والوقت الَّذي تَبِينُ فيه المطلَّقة مِن زوجها حتَّى لا تكون له عليها رجعةً.
          فقالت طائفةٌ: هو أحقُّ بها ما لم تَغْتَسل مِن الحيضة الثَّالثة، هذا قول عُمرَ وعليٍّ وابن مسعودٍ، ورُوي أيضًا عن الصِّدِّيق وعُثْمانَ وأبي موسى وعُبَادةَ بن الصَّامت وأبي الدَّرداء، وإليه ذهب الثَّوريُّ وإسحاق وأبو عُبَيدٍ، وفيها قولٌ ثانٍ: أنَّه أحقُّ بها ما كانت في الدَّم، روي عن طاوسٍ وسعيد بن جُبيرٍ، وهذا على مذهب مَن يقول: الأقراءُ الحِيَضُ، ومَن قال: الأقراءُ الأطهار، يرى له الرَّجعة ما لم يُرَاق الدَّم مِن الحيضة الثَّالثة إذا طلَّقها وهي طاهرٌ، هذا قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ، وممَّن قال الأقراء: الأطهار مِن السَّلف: زيد بن ثابتٍ وابن عُمَر وعَائِشَة والقاسمُ وسالمٌ والشَّافعيُّ ومالكٌ.
          وقال أبو بكر بن عبد الرَّحمن: ما أدركتُ أحدًا مِن فقهائنا إلَّا يقول بقول عَائِشَةَ، ولم يختلف أهلُ اللُّغة أنَّ العربَ تسمِّي كُلًّا منهما قُرءًا وتُسمِّي الوقتَ الَّذي يجمعهُما قُرْءًا، فلمَّا احتملت اللَّفظ هذه الوجوه في اللُّغة وجب أن نطلب الدَّليل على المراد في الآية، فوجدناه حديثَ ابن عُمَر في أمره بطلاقها في الطُّهر وجعل العِدَّة بقوله: ((فتلكَ العدَّة الَّتي أمرَ الله أنْ تُطلِّقَ لها النِّساءُ))، ونهاه أن يطلِّق في الحيض، وأخرجه مِن أن يكون عِدَّةً فثبت أنَّها الأطهار.
          فإن استدلَّ المخالف بقوله: ((دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك)) أي حيضكَ؛ لأنَّه لا يأمر بتركها أيَّام الطُّهر، فَيُجَابُ بأنَّه ليس في هذا أكثر مِن إطلاقه على الحيض ونحن لا نمنعُ منه، والحديث خطابٌ للمستحاضة أن تتركَ الصَّلاةَ عند إقبال دمِ حيضها ولا خِلاف فيه، وحديثُ ابنِ عُمَر دالٌ على أنَّ الأقراء فيه الأطهار وهي المعتدُّ بها، وأنَّ إقراءَها إقبال الدَّم، فالمسألتان مختلفتان عِدَّةً وصلاةً.
          فإن قلتَ: إطلاقُ اسم القُرْءِ يُطلَق على الحيض لأنَّها إنَّما تُسمَّى مِن ذوات الأقراء إذا حاضت؟ قلتُ: اسمُ القُرُءِ للطُّهر الَّذي ينتقل إلى الحيض، ولا نقول: إنَّه اسم للطُّهر مِن الحيض، فإنَّما لم نقل هي مِن ذوات الأقراء إذا لم تحِضْ لأنَّه طهرٌ لم يَتَعقَّبهُ حيضٌ، فإذا حاضت فقد وُجِد طهرٌ يَتَعَقَّبُهُ حيضٌ.
          وقد اختلف الصحابة في هذه المسألة: فقال أحد عشرَ صاحبًا منهم الأربعة وابن عبَّاسٍ ومعاذٌ: إنَّه الحيض، وقال به جماعةٌ مِن التَّابعين.
          وينبغي أن يُقدَّم قول عَائِشَة وابن عُمَر لأنَّ عَائِشَةَ أعرفُ بحال الحيض لِمَا تختصُّ به مِن حال النِّساء وقُربِها مِن رسول الله صلعم، وكذلك ابنُ عُمَر لأنَّه قد عرفَ الطَّلاقَ في الحيض وما أصابَه فيه، فهو أعلم به مِن غيره، وحُكي أنَّ الطَّريقَ إلى ما ذكره عن الصَّحابة غير ثابتٍ.