التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الخلع

          ░12▒ (بَابُ الْخُلْعِ وَكَيْفَ الطَّلاَقُ فِيهِ؟
          وَقَوْلِ اللهِ تَعَالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ...} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229].
          وأَجَازَ عُمَرُ ☺ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ، وَأَجَازَ عُثْمَانُ ☺ / الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة:229] فِيمَا افْتَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ: لاَ يَحِلُّ، حَتَّى تَقُولَ: لاَ أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ).
          5273- ثُمَّ ساق حديث خالدٍ: (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِى خُلُقٍ وَلاَ دِيْنٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الإِسْلاَمِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً. وَلَا يُتَابَعُ فِيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
          5274- وعن عِكْرِمَةَ: (أَنَّ أُخْتَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ بِهَذَا، وَقَالَ: تَرُدِّينَ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْهَا وَأَمَرَهُ يُطَلِّقْهَا.
          وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: وَطَلِّقْهَا).
          5275- (وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِيْنٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ).
          5276- ثمَّ سَاقَ عن أيُّوبَ: (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلاَ خُلُقٍ، إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَرَدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا).
          وفي إسناده: (قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ) وقُرادٌ لقبٌ، واسمُه عبد الرَّحمن بنُ غَزوانَ مولى خُزَاعَةَ، سكن بغدادَ ومات سنة سبعٍ ومائتين.
          5277- و(عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ جَمِيلَةَ... فَذَكَرَ الْحَدِيْثَ).
          الشرح: هذا الحديثُ مِن أفراد البخاريِّ، وتعليقُ إبراهيمَ أخرجه النَّسائيُّ: عن أَزْهَرَ بنِ جَمِيلٍ عنه.
          والْخَوْفُ في الآية بمعنى اليقين كما قاله أبو عُبَيدٍ، قال الزَّجَّاجُ: ويُشبه عندي أن لا يكون الغالب عليهما الخوف، و{يَخَافَا} الرَّجل والمرأة كما قاله الفرَّاء، وقرأ الأعمشُ وحمزةُ بضمِّ الياء، وعبد الله: {إلَّا أنْ يُخَافوا}.
          وأثرُ عُمَر أخرجَه ابنُ أبي شَيْبَة: عن شُعْبةَ، عن الحَكَمِ، عن خَيثَمَةَ قال: أُتِيَ بِشْرُ بن مروان في خُلعٍ كان بين رجلٍ وامرأته فلم يُجزْه، فقال له عبد الله بن شِهَابٍ: شهدتُ عُمَرَ بن الخطَّاب أُتي في خُلعٍ كان بين رجلٍ وامرأته فأجازَه. وحكاه أيضًا عن عُثْمانَ وابن سِيرينَ والشَّعبيِّ والزُّهريِّ ويحيى بن سعيدٍ، وقال الحسن: لا يكون الخُلْع دون السُّلطان، قال ابنُ أبي عَرُوبةَ: قلتُ لقَتَادَة: عمَّن أخذَ الحسنُ ذلك؟ قال: عن زيادٍ، وكان واليًا لعليٍّ وعُمَرَ، دليله: القراءتان الأُخريان، ودليلُ الجماعة القراءة الأولى.
          وأثر عُثْمانَ لا يَحْضُرني، نعم، أخرج ابنُ أبي شَيْبَة: عن عفَّانَ، حدثنا همَّامٌ، حدَّثنا مطرٌ، عن ثابتٍ، عن عبد الله بن رَبَاحٍ، أنَّ عُمَرَ قال: اخلَعْهَا بما دُونَ عِقَاصِهَا، وفي لفظٍ: اخْلَعْها ولو مِن قُرْطِها، وعن ابن عبَّاسٍ: حتَّى مِن عِقَاصِها. وقاله أيضًا مجاهدٌ وإبراهيمُ، قال ابنُ المنذر: وبنحوِه قال ابنُ عُمَرَ والضَّحَّاكُ وعُثْمَانُ بنُ عفَّانَ وعِكْرِمةُ، وهو قولُ الشَّافعيِّ وداودَ.
          وأثرُ طَاوُسٍ أخرجَه ابنُ أبي شَيْبَة أيضًا عن ابن عُلَيَّة، حدَّثنا ابنُ جُرَيجٍ عنه بلفظ: يحلُّ له الفِداءُ بما قال الله: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} [البقرة:229]، ولم يكن يقولُ قولَ السُّفهاء: حتَّى تقولَ: لَا أغتسِلُ لكِ مِن جنابةٍ، ولكنَّه يقولُ: إلَّا أَلَّا يُقيْمَا حُدُودَ الله فيما افترضَ لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبِه في العشرة والصُّحبة.
          وقد أسلفت لك أنَّ حديثَ ابن عبَّاسٍ مِن أفراد البخاريِّ، وأخرجه التِّرمذيُّ محسَّنًا مِن حديثِ عَمْرو بن مُسْلمٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابن عبَّاسٍ، وفيه: فأمرها أن تعتدَّ بحيضةٍ. وأخرجه ابنُ ماجه مِن حديث ابنِ أبي عَرُوبةَ، عن قَتَادَة، عن عِكْرِمةَ عنه: أنَّ جميلةَ بنت سَلُولَ... الحديث، فأمرَه أنْ يأخذَ منها حديقتَه ولا يزداد. وله أيضًا مِن حديثِ حجاَّجٍ، عن عَمْروِ بن شُعَيبٍ، عن أبيه عن جدِّه قال: كانت حَبِيبةُ بنتُ سَهْلٍ تحت ثابتٍ، وكان رجلًا دَميمًا، فقالت: واللهِ يا رسولَ الله لولا مخافةُ اللهِ لبَسَقْتُ في وجهِه، فقال: ((أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟))... الحديث.
          وهذا قولٌ ثانٍ في اسمِها حَبِيبة لا جَمِيلة، وكذا سمَّاها ابنُ وَهْبٍ في «موطَّآته» عن مالكٍ، عن يحيى، عن عَمْرَة، عن حَبِيبة. ورواه أبو داودَ مِن حديثِ عَمْرةَ، عن عَائِشَةَ بزيادةٍ: فضربها فكسر بعضها، وفي آخره: فقال: ((خُذْ بَعْضَ مالِها وفارِقْهَا))، فقال ثابتٌ: ويصلُح ذلك يا رسول الله؟ قال: ((نَعَمْ))، قال: فإنِّي أَصْدَقتُها حديقَتين وهما بيدِها، فقال: ((خُذْهُمَا وفَارِقْها)).
          وذكر عبدُ الرَّزَّاق عن مَعْمَرٍ قال: بلغني أنَّها قالت لرسول الله صلعم: بي مِنَ الجَمَال ما ترى، وثابتٌ رجلٌ دميمٌ. وروى مُعْتَمِرُ بنُ سُلَيمانَ، عن فُضَيلٍ، عن أبي حَرِيزٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابن عبَّاسٍ: أوَّل خُلعٍ كان في الإسلام أنَّ أختَ عبد الله بن أُبيٍّ قالت: يا رسول الله، ثابتٌ لا يجتمعُ رأسِي ورأسُهُ أبدًا، إنِّي رَفَعْتُ جانبَ الخِبَاءِ فرأيتُه أقبلَ في عدَّةٍ، فإذا هو أشدُّهُم سوادًا، وأقصرُهُم قامةً، وأقبحُهم وجهًا، فقال: ((أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟)) قالت: نعم، وإن شاء زدتُهُ، ففرَّق بينهما. وللنَّسائيِّ مِن حديثِ الرُّبيِّعِ بنتِ مُعوِّذٍ قالت: اختلعتُ مِن زوجي، ثمَّ جئتُ عُثْمانَ فسألتُ: ماذا عليَّ مِن العِدَّة؟ فقال: لا عِدَّة عليكَ إلَّا أن يكونَ حديثَ عهدٍ بك فتمكثين عندَه حتَّى تحيضي حيضةً، قالت: وإنَّما تبعَ في ذلك قضاءَ رسولِ الله صلعم في مريمَ المَغَالِيَّةِ، وكانت تحت ثابت بن قيسٍ فاختلعَت منه.
          وفي اسمها قولٌ ثالثٌ: إنَّها سَهْلةُ بنت حبيبٍ، ذكره ابنُ الجوزيِّ عن بعض الرِّوايات، قاله بعد ذكرِه حَبِيبة بنت سهلٍ، وابنُ سعدٍ فقال: جميلةُ بنت عبد الله بن أُبيِّ ابن سَلُولَ وكانت تحت حَنْظلةَ، فلمَّا قُتل عنها خَلَف عليها ثابتٌ، فولدت له محمَّدًا _قُتل يومَ الحَرَّة_ قال: وهي أختُ عبدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ أُبيٍّ لأبيها وأُمِّها. ثمَّ ذكر ابنُ سعدٍ أنَّ حَبِيبةَ بنت سهلٍ النَّجاريَّة هي المختلِعةُ مِن ثابتٍ، وكان ◙ قد همَّ أن يتزوَّجها وهي جاريةٌ، ثمَّ ذكر غَيرة الأنصار فَكَرِه أن يسوءَهم في نسائهم، فتزوَّجها ثابتٌ وأنَّه ضربَها، فأصبحت على باب رسول الله صلعم في الغَلَسِ تَشْكُو... الحديث.
          وفي «الاستيعاب»: رواية البصريِّين: المختلِعَةُ جَمِيلةُ بنت أُبيٍّ، ورواية أهلِ المدينة: هي حَبِيبةُ بنتُ سَهْلِ بن ثعلبَةَ الأنصاريِّ، قال: وجائزٌ أن تكون حَبِيبةُ وجَمِيلةُ بنت أُبيٍّ اختلعتا مِن ثابتٍ.
          وأمَّا ابن مَنْدَه فذكر أنَّ جميلةَ بنتَ عبد الله بن أُبيٍّ لمَّا قُتل عنها زوجها حَنْظَلة بن أبي عامرٍ تزوَّجها ثابتٌ فمات عنها، فَخَلَفَ عليها مالكُ بن الدُّخْشُمِ، وأنَّ المختلِعَةَ جَمِيلةُ بنتُ أُبيٍّ عمَّة المذكور قبل، وردَّ ذلك عليه / أبو نُعَيمٍ الحافظ، وزعم ابنُ الأَثير أنَّها جَمِيلةُ بنت أُبيٍّ لا ابنةُ عبد الله، هذا هو الصَّحيح.
          وقال الدِّمياطيُّ: جَمِيلةُ بنتُ عبد الله هو الصَّواب، لا أختُه كما وقع في البخاريِّ، وليس كما قال؛ لأنَّها إذا كانت أخت عبد الله فهي ابنة عبد الله، فعبدُ الله أخوها هو ابنُ عبد الله، فعلى هذا هي أخت عبد الله وابنة عبد الله، توضِّحه رواية النَّسائيُّ: فأتى أخوها _عبد الله_ يَشتَكِيهِ إلى رسول الله صلعم.
          ووقع في «سنن ابن ماجه»: جَمِيلةُ بنت سَلُولَ، وكذا في كتاب ابن أبي شَيْبَة مِن حديثِ أبي الطُّفيل سعيدِ بن جَمِيلٍ، عن عِكْرِمةَ قال: عدَّةُ المختَلِعَةِ حَيضةٌ، قضى بها رسول الله صلعم في جميلةَ بنت سَلُولَ. وكذا سمَّاها الطَّبرانيُّ في «معجمه» مِن حديثِ قَتَادَة عن عبد الله، وهو صحيحٌ فإنَّه نسبَها إلى جدِّها الأعلى المشهور، ومِن عادة العرب النِّسبة إلى الأب المشهور، والإعراضُ عمَّن ليس في مثله مِن الشُّهرة.
          إذا تقرَّر ذلك، فالرَّبُّ جلَّ جلالُه حرَّم على الزَّوج أن يأخذَ مِن امرأتِه شيئًا ممَّا آتاها الله إلَّا بعد الخوف الَّذي ذكرَه، ثمَّ أكَّد اللهُ ذلك بتغليظ الوعيد على مَن تعدَّى أو خالفَ أمره، فقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]. وبمعنى الكتاب جاءت السُّنَّة في جميلةَ المذكورة، وفي رواية قَتَادَةَ عن عِكْرِمةَ عن ابن عبَّاسٍ: لا أُطيقُه بُغضًا. وهو أوَّل خُلْعٍ جرى في الإسلام كما سلف، وهو أصل الخُلْع وعليه جمهور العلماء.
          قال مالكٌ: لم أزل أسمع ذلك مِن أهل العِلْم، وهو الأمر المجمَعُ عليه عندنا: أنَّ الرَّجل إذا لم يضرَّ بالمرأة ولم يُسِئْ إليها، ولم تُؤتَ مِن قِبَله وأحبَّت فِرَاقه، فإنَّه يحلُّ له أن يأخذَ منها كلَّما افتدت به كما فَعَله الشَّارع في هذه المرأة، وإن كان النُّشوز مِن قِبَله بأن يضربها ويضيِّق عليها ردَّ عليها ما أخذه منها، رُوي هذا عن ابن عبَّاسٍ وعامَّة السَّلف، وبه قال الثَّوريُّ وإسحاقُ وأبو ثورٍ، وقال أبو حنيفة: إن كان النُّشوز مِن قِبَله لم يحلَّ له أن يأخذ ممَّا أعطاها شيئًا ولا يزداد، فإن فعل جاز في القضاء. وروى ابن القاسم عن مالكٍ مثله، وهذا القول خِلافُ ظاهر كتاب الله وسنَّة رسوله في امرأة ثابتٍ، وإنَّما فيه أخذ الفِدْية مِن النَّاشز لزوجها إذا كان لنشوزها كارهًا، وللمقام معها محبًّا، وإن كانت الإساءة مِن قِبَله لم يَجُز أن يأخذ منها شيئًا لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا...} الآية [النساء:20].
          قال مُجَاهِدٌ: مُجَامعةُ النِّساء والميثاق الغليظُ: كلمة النِّكاح الَّتي يستحلُّ بها فُرُوجهنَّ، فجعله ثمنًا للإفضاء، قال ابن المنذر: واحتجَّ بعض المخالفين فقال: لمَّا جاز أن يأخذَ مالَها إذا طابت به نفسًا على غير طلاقٍ جاز أن يأخذه على طلاقٍ. قيل: هذا غلطٌ كبيرٌ لأنَّه حمل ما حرَّمه الله في كتابه مِن أبواب المعاوضات على ما أباحه مِن سائر أبواب العطايا المباحة، أفيجوزُ لهذا القائل أن يشبِّه ما حرَّم الله مِن الرِّبا في كتابه بما أباح مِن العطايا على غير عِوَضٍ، فيقول: لَمَّا أُبيح لي أن أهبَ مالي بِطِيب نفسٍ من غير عِوَضٍ، جاز لي أن أُعطِيَهُ في أبواب الرِّبا بعوضٍ، فإن قال: لا يجوز ذلك فليعلم أنَّه قد أتى مثل ما أنكر في باب الرِّبا حيث شبَّه قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] بما حرَّم في قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا...} الآية [البقرة:229].
          وفي الحديث دلالةٌ على فساد قول مَن قال: لا يجوز له أخذ الفِدية منها حتَّى يكون مِن كراهته لها على مِثْل ما هي عليه، وهو قول طَاوُسٍ والشَّعبيِّ، ورُوي مثلُه عن القاسم بن محمَّدٍ وسعيد بن المسيِّب، قال الطَّبرِيُّ: وذلك أنَّ امرأة ثابتٍ... فذكرَ الحديث، ولم يسأل ثابتًا هل أنتَ لها كارهٌ كراهتَها لك؟ فإن ظنَّ أنَّ قولَه تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا...} الآية [البقرة:229] يدلُّ على أنَّ الزَّوج إنَّما أُبيح له أخذُ الفِدية إذا خاف مِن كلِّ واحدٍ منهما _ببُغض صاحبه_ التَّقصير في الواجب له عليه، قيل له: هو خطابٌ لجميع المؤمنين، وكان معلومًا أنَّ المرأةَ إذا أظهرَتْ لزوجِها البغضةَ لم يزل عنها النُّشوز والتَّقصير في حقِّ زوجِها، وإذا كان كذلك لم يزل مِن زوجها مثلُ ذلك مِن التَّقصير في الواجب عليه.
          ويُروى عن ابنِ سِيرينَ أنَّه قال: لا يحلُّ للزَّوج الخُلْعُ حتَّى يجدَ على بطنِها رجلًا. وهذا خِلافُ الحديث.
          فَصْلٌ: ترجمتُه بالخُلْع وكيف الطَّلاق فيه، كأن مراده بهما بيانُ الخُلْع وأنَّه طلْقةٌ بائنةٌ، وقد اختلف العلماء في البَينونة بالخُلْع على قولين:
          أحدُهما، ورُوي عن عُثْمانَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ: أنَّه تطليقةٌ بائنةٌ إلَّا أن تكونَ قد سمَّت ثلاثًا فهي ثلاثٌ، وهو قول مالكٍ والثَّوريِّ والكوفيِّين والأوزاعيِّ وأحدُ قولي الشَّافعيِّ.
          والثَّاني: أنَّه فسخٌ وليس بطلاقٍ إلَّا أن ينويَه، رُوي عن ابن عبَّاسٍ وطاوسٍ وعِكْرمةَ، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثورٍ، وهو قول الشَّافعيِّ الآخرُ.
          واحتجَّ في أنَّه ليس بطلاقٍ لأنَّه مأذونٌ فيه لغيره قبل العِدِّة بخلاف الطَّلاق، قال ابنُ عبَّاسٍ: قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228]، وقال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، ثمَّ ذكر الطَّلاقَ بعد الفِداء، ولم يذكر في الفِداء طلاقًا، فلا أراه طلاقًا.
          واحتجَّ مَن جعلَه طلاقًا بقولِه في الحديث: فردَّت الحديقةَ وأمرَه بفراقِها، فصحَّ أنَّ فراقَ الخُلْع طلاقٌ، وقال الطَّحاويُّ: رُوي عن عُمَرَ وعليٍّ أنَّ الخُلْعَ طلاقٌ، وعن عُثْمانَ وابنِ عبَّاسٍ أنَّه ليس بطلاقٍ، وأجمعوا أنَّه لو أراد به الطَّلاق لكان طلاقًا، ولَمَّا كان تقع به الفُرْقة عند الجميع بغير نيَّةٍ عُلم أنَّه ليس كالمُكْني الَّذي يحتاج إلى نيَّةٍ وعُلِم أنَّه طلاقٌ.
          وقال الشَّافعيُّ: فإن قيل: فإذا جعلتَه طلاقًا فاجعل فيه الرَّجْعةَ؟ قيل له: لَمَّا أخذَ مِن المطلَّقة عِوَضًا كان كمن ملك عِوَضًا بشيءٍ خرج عن مِلْكه، فلم يكن له رجعةٌ فيما ملك عليه، فكذلك المختَلِعَة.
          فَصْلٌ:
          واختلفوا في الخُلْع بأكثرَ ممَّا أعطاها، فقالت طائفةٌ: لا يجوزُ له الخُلْع بأكثرَ مِن صَدَاقِها، هذا قولُ عطاءٍ وطاوسٍ، وكره ذلك ابنُ المسيِّب والشَّعبيُّ والحكمُ، وقال الأوزاعيُّ: كانت القُضاةُ لا يُجيزون أن يأخذَ منها أكثرَ ممَّا ساق إليها، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ، قالوا: وهو / ظاهرُ حديثِ ثابتٍ، لأنَّ امرأتَه إنَّما ردَّت عليه حديقتَه فقط، وحكاه ابن التِّين عن أهل الكوفة.
          وقالت طائفةٌ: يجوز أن يأخذَ منها أكثر ممَّا أعطاها، وهو مذهب عُثْمانَ وابن عُمَر وقَبِيصَةَ والنَّخَعيِّ، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ، وقال مالكٌ: يجوز أن يأخذَ منها أكثر ممَّا ساق إليها وليس مِن مكارم الأخلاق، قال: ولم أرَ أحدًا ممَّن يُقتدى به يَكْرَه ذلك، وقد قال اللهُ تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، وقد نزع بهذه الآية قَبِيصَة بن ذُؤيبٍ، قال إسماعيلُ: وقد احتجَّ بهذه الآية مَن قال: يجوز أنْ يأخذَ منها أكثرَ ممَّا ساق إليها، وليس كما ظنَّ، ولو قال إنسانٌ: لا تضربنَّ فلانًا إلَّا أن تخافَ منه شيئًا، فإن خِفْتَه فلا جُنَاح عليك فيما صنعتَ به لكان مطلقًا لهُ أن يصنع به ما شاء.
          ومعنى قولِ البخاريِّ: (وَأَجَازَ عُثْمَانُ الخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا) يعني أن يأخذ منها كلَّ مالِها إلى أن يكشف رأسها ويترك لها قِنَاعها وشَبهه ممَّا لا كبير قيمة له، وقد قال: اخْلَعْهَا ولو مِن قُرْطِها.
          فَصْلٌ:
          قوله: (وَأَجَازَ عُمَرُ الْخُلْعَ دُونَ السُّلْطَانِ) هو قول الجمهور إلَّا الحسنَ وابنَ سِيرينَ، فإنَّهما قالا: لا يكون إلَّا عند السُّلْطان. وقال قَتَادَةُ: إنَّما أخذَه الحسنُ عن زِيَادٍ، وكان واليًا لعليٍّ وعُمَرَ. وقال الطَّحاويُّ: رُوي عن عُثْمانَ وابنِ عُمَرَ جوازُه دون السُّلطان، وكما جاز النِّكاحُ والطَّلاقُ دون السُّلطان كذلك الخُلْع.
          فَصْلٌ:
          قال ابنُ حَزْمٍ: الحنفيُّون والمالكيُّون لا يجوز لهم الاحتجاجُ بهذا الخبر؛ لأنَّ مِن قولهم: إذا خالفَ الصَّاحبُ ما رواه عن رسول الله صلعم دلَّ على نَسْخه أو ضَعْفِه، قال: وهذا الخبر لم يأتِ إلَّا مِن طريق ابن عبَّاسٍ، والثَّابت عن ابن عبَّاسٍ ما ذكرناه مِن أنَّ الخُلعَ ليس طلاقًا.
          قلت: كأنَّ البخاريَّ رواه مسندًا كما ذكرَه بعدُ.
          وقوله: (لَا يُتَابَعُ فِيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) وقد سُئل أحمدُ _فيما حكاه الخلَّال_ عن حديثِ ابنِ جُرَيجٍ، عن عَطَاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ به، فقال أحمد: إنمَّا ذاك مُرسلٌ، ثمَّ قال لأحمدَ بن الحسين: مَن حدَّثك به؟ قال: ابنُ أبي شَيْبَة عن الوليد بن مُسْلمٍ، عن ابن جُرَيجٍ، وزعم أنَّه غريبٌ، قال أحمد: صدق، إنَّه غريبٌ، وإنَّما كان خطأً فهو غريبٌ.
          وقال ابنُ أبي حاتمٍ في «علله» عن أبيه: إنَّما هو عطاءٌ عن رسول الله صلعم مرسلٌ، ولمَّا سألَه ابنُه أيضًا عن حديثِ حُميدٍ: جاءتِ امْرأةُ ثابتٍ... الحديث، بلفظ: ((خُذِ الحَدِيقةَ الَّتي أَعْطَيْتَهَا وَاخْلَعْهَا))، قال: هذا خطأٌ، إنَّما هو حميدٌ عن أبي الخليل عن عِكْرِمةَ: أنَّ امرأةَ ثابتٍ، وأخطأ فيه أبو جعفرٍ الرَّازيُّ إذ رواه عن حُمَيدٍ عن أنسٍ. وقد أسلفناه أيضًا مُسندًا مِن غير هذا الوجه، لكنَّه ليس على شرطه.
          قال: وأمَّا مَن قال: لا يجوز الخُلْع، وكما رُوِّيناه مِن طريق الحجَّاج بن إسماعيلَ: حدَّثنا عُقْبَةُ بنُ أبي الصَّهباءِ قال: سألتُ بكرَ بن عبد الله المُزنيَّ عن الخُلْع قال: لا يحِلُّ له أن يأخذ منها، قلتُ: قول الله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]؟ قال: نُسخت هذه الآية، وذكر أنَّ النَّاسخةَ لها قولُه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ...} الآية [النساء:20].
          قال ابنُ عبد البرِّ: أجمع الجمهور مِن العلماء أنَّ الخُلْعَ والفِديةَ والصُّلحَ كلُّ ذلك جائزٌ بين الزَّوجين في قطع العِصْمة بينهما، وأنَّ كلَّ ما أعطته على ذلك حلالٌ له إذا كان مقدار الصِّداق فما دونه، وكان ذلك مِن غير إضرارٍ بها ولا إساءةٍ إليها، إلَّا بكرَ بن عبد الله فإنَّه شذَّ فقال: لا يحلُّ له أن يأخذ منها شيئًا على حالٍ مِن الأحوال، وقولُه خِلافُ السُّنَّةِ الثابتةِ في أمرٍ ثابتٍ، فلا ينبغي لعالمٍ أن يجعل شيئًا مِن القرآن منسوخًا إلَّا بتدافعٍ يمنع مِن استعماله وتخصيصه، وإذا حمل قوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] أنَّه يرضى بها، وَحُمِل قوله: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] على أنَّه بغير رضاها، صحَّ استعمال الاثنين.
          وقد بيَّنتِ السُّنَّة ذلك في قصِّة ثابتٍ، وعليه جماعة العلماء إلَّا مَن شذَّ عنهم ممَّن هو محجوجٌ بهم؛ لأنَّهم لا يجوز عليهم الإطباق والاجتماع على تحريف الكتاب العزيز وجهل تأويله، وينفرد بعلم ذلك واحدٌ غيرهم.
          قال ابن حزمٍ: واحتجَّ مَن ذهب إلى قول بكرٍ بحديث ثَوْبانَ مرفوعًا: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا الجَنَّةَ))، وبحديث النَّسائيُّ عن الحسنِ عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: ((المُخْتَلِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ))، قال الحسنُ: لم أسمعه مِن أبي هُرَيْرَةَ، فَسَقَط، وأمَّا الخبرُ الأوَّل فلا حجَّة فيه في المنع مِن الخُلْع؛ لأنَّه إنَّما فيه الوعيدُ على السَّائلة الطَّلاق مِن غير ما بأسٍ، وكذا نقول.
          قلتُ: حديثُ ثَوْبانَ قال التِّرمذيُّ فيه: رواه بعضهم بهذا الإسناد ولم يَرْفَعَه. وقال في «عِلله»: سألتُ محمَّدًا عنه فلم يعرفه، وما ذكرَه عن الحسن سقطَ فيه شيءٌ، وصوابُه: لم أسمعه مِن أحدٍ غير أبي هُرَيْرَةَ، كما هو ثابتٌ في النَّسائيِّ «الكبير» رواية ابن الأحمر، وهو يؤيِّدُ مَن قال: الحسن سمع منه. وقد ذُكر سماعه منه في «مُسند أبي داودَ الطَّيالِسيِّ» والطَّبرانيُّ في «أوسط معاجمه» و«أصغرها»، وقال أبو داودَ فيما حكاه ابن خَلْفُونَ: زعم عبدُ الرَّحمن أنَّ الحسن كان يقول: حدَّثنا أبو هُرَيْرَةَ، وهذا أثبت، وروى ابنُ شَاهينٍ في «ناسخه» مِن حديثٍ عنه: حدَّثنا، ثمَّ قال: هذا صحيحٌ غريبٌ.
          وقال الدَّارقطنيُّ في «عِلله» عن مُوسى بن هَارُون: سمع الحسن منه. وفي ابن ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ عن ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((لا تسأَل المرأةُ زوجَها الطَّلاقَ في غير كُنْهِهِ فتجد ريحَ الِجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجَدُ مِن مسيرةِ أربعينَ عامًا)).
          فَصْلٌ:
          قال ابنُ حزمٍ: احتجَّ مَن قال: إنَّ الخُلع ليس بطلاقٍ، بقولِ عُثْمانَ ☺ للرُّبَيِّع بنت مُعوِّذ لمَّا اختلعت مِن زوجها لتنتقلَ، ولا ميراث بينهما ولا عِدَّة عليها، إلَّا أنَّها لا تُنكَح حتَّى تحيضَ حيضَةً، خشيةَ أن يكون بها حملٌ، وعن ابنِ عبَّاسٍ: الخُلْع تفريقٌ وليس بطلاقٍ، وفي رواية: سُئل عن رجلٍ طلَّق امرأتَه تطليقتين، ثمَّ اختلعت منه أينكِحُها؟ فقال: نعم، ذكَرَ اللهُ الطَّلاقَ في أوَّلِ الآية وآخرِها والخُلْعَ فيما بين ذلك، وقال ابنُ طَاوُسٍ: كان أبي لا يرى الفِداءَ طلاقًا، ويجيزُه بينهما. وعن عِكْرِمَة: ما أجازَه المال فليس بطلاقٍ. وقال عبدُ الله بن أحمدَ: رأيتُ أبي كأنَّه يذهبُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ في هذا. وهو قول إسحاقَ وأبي ثورٍ وأبي سُلَيْمانَ وأصحابه، وعن أحمدَ أنَّه طلاقٌ كقول أبي حنيفةَ، حكاها ابن الجوزيِّ، وعن الشَّافعيِّ قولان سلفا.
          قال في «المغني»: والفَسْخ اختيار أبي بكرٍ، وهو قول طَاوُسٍ وإسحاقَ وأبي ثورٍ. وفي «الإشراف» لابن هُبَيرةَ أنَّه الصَّحيح عن أحمدَ، وقد أسلفناه عن عُثْمانَ وعليٍّ وابن مسعودٍ، وضعَّف أحمدُ أحاديثَهم، وقال: ليس لنا في الباب أصحَّ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ. قال: وذلك أنَّها فُرقة حلَّت مِن صريح الطَّلاق / ونيَّته، فكانت فسخًا كسائر الفُسوخ، وإن قلنا: هو فسخٌ لم تحرُم عليه وإن خالعَها مئةَ مرَّةٍ إذا خالعَهَا بغير طلاقٍ ولا نيَّة طلاقٍ.
          قال ابنُ حزمٍ: أمَّا احتجاجُ ابن عبَّاسٍ بالآية فكذلك هو إلَّا أنَّه ليس فيه طلاقٌ، ولا أنَّه طلاقٌ فوجب الرُّجوع إلى بيان رسول الله صلعم، وهو ما تقدَّم مِن قصَّة ثابتٍ مِن حديثِ مالكٍ عن يحيى الَّذي قال فيه لثابتٍ: ((خُذْ منها)) فأخذَ منها وجلسَت في أهلها، ومِن حديثِ الرُّبيِّع فذكر حديثها السَّالف، وفيه: فقال: ((خُذْ منها الَّذي لها وخلِّ سبيلَها)) قال: نعم، فأمرَها أن تتربَّص حيضةً واحدةً وتلحَقَ بأهلها، فأَخبرَتْ بذلك ابنَ عُمَر، فقال: عثمانُ خَيرُنا وأعلَمُنَا. فهذا عُثْمانُ وابنُ عُمَر والرُّبيِّعُ وعمُّها الَّذي رفع أمرها إلى عُثْمانَ كلُّهم صحابةٌ، وكلُّهم رآه فسخًا لا طلاقًا.
          ومِن طريق عبد الرَّزَّاق عن مَعمَرٍ، عن عَمْرِو بن مسلمٍ، عن عِكْرِمةَ قال: اختلَعَتِ امْرَأةُ ثابتٍ فجعل ◙ عِدَّتها حيضةً، قالوا: فهذا يُبيِّنُ أنَّ الخُلع ليس طلاقًا لكنَّه فسخٌ. وأمَّا حديثُ عبد الرَّزَّاق فساقطٌ لأنَّه مرسَلٌ، وفيه عَمْرو بن مُسْلمٍ وليسَ بشيءٍ. قلتُ: عَمْرٌو هذا مِن رجال مُسْلمٍ، وهو جَنَدِيٌّ يمانيٌّ، قال ابنُ مَعِينٍ: لا بأس به، وذكره ابن حبَّان وغيره في «ثقاته»، وقال أبو أحمد الجُرْجَانيُّ: ليس له حديثٌ منكرٌ. وقد وَصَلَه أبو داودَ مِن طريق مَعمَرٍ عن عَمرِو بنِ مُسْلمٍ، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ امرأةَ ثابتٍ... فذكره.
          قال ابنُ حزمٍ: وخبرُ الرُّبيِّع وحَبِيبةَ فلو لم يأتِ غيرُهما لكان حُجَّةً قاطعةً، لكن رُوِّينا مِن طريق البخاريِّ... وساقَ حديثَ الباب، وفيه: (وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً)، فكان هذا الخبر فيه زيادةٌ على الخبرين المذكورين لا يجوز تركُها، وإذ هو طلاقٌ فقد ذكر الله عِدَّة الطَّلاق فهو زائدٌ على ما في حديث الرُّبيِّع، والزِّيادة لا يجوز تركُها.
          فَصْلٌ:
          قال ابنُ حَزْمٍ: وطلاقُ الخُلْع رَجعيٌّ إلَّا أن يطلِّقها ثلاثًا، أو آخرَ ثلاثِ تطليقاتٍ، أو تكونَ غيرَ مَوطوءَةٍ، ويجوز الفداءُ بجميع ما تملِكُ ولا يجوزُ بمالٍ مجهولٍ، وإن راجعَها الزَّوجُ في العِدَّة ردَّ جميعَ ما افتدَتْ به إلَّا أن يُعلِمَها عند الافتداء أنَّ طلاقَها رجعيٌّ فلا يَرِدُّ لها شيئًا.
          هذا كلامه ولا يُسلَّم له كونه رجعيًّا، ولأنَّه ذكرَه مِن الإعلام، وأمَّا ردُّنا ما أخذ منها فإنَّما أخذَه لئلَّا تكون في عِصْمته، فإذا أخذَه على ما ذكر لئلَّا تكون في عِصْمته فأيُّ رجعةٍ له عليها؟! ثمَّ إنَّا نقولُ: لا يخلو أن يكون هذا العَقْدُ مباحًا _يعني: أخذَه منها على ألَّا تكون في عِصْمته_ أو يكون مباحًا، فإن كان مباحًا فقد لزم ما عَقَده على نفسه لأنَّ الله تعالى أباح ذلك، وإن كان غيرَ مباحٍ فهو مفسوخٌ أبدًا، مردودٌ ما أخذ منها، فبطَلَ قوله.
          فَصْلٌ: قال: وقالت طائفةٌ: الخُلْعُ تطليقةٌ، منهم عثمانُ، روِّينا مِن طريق حمَّاد بن سَلَمَة، عن هِشَامٍ عن أبيه، عن جُمْهَانَ: أنَّ أمَّ بَكْرَةَ الأسلميَّة اختلعَتْ مِن عبد الله بن أُسَيدٍ وكانت تحتَه، فندما فارتفعا إلى عُثْمانَ فأجاز ذلك، وقال: هي واحدةٌ إلَّا أن تكون سمَّت شيئًا فهو على ما سمَّته. ومِن طريق ابن أبي شَيْبَة: حدَّثنا عليُّ بن هاشمٍ، عن ابنِ أبي ليلى، عن طَلْحةَ بن مُصَرِّفٍ، عن إبراهيمَ، عن عَلْقمةَ، عن ابن مسعودٍ ☺ قال: لا تكون تطليقةً بائنةً إلَّا في فديةٍ أو إيلاءٍ. ومِن طريقٍ لا يصحُّ عن عليٍّ، وبهذا يقول الحسنُ وابنُ المسيِّب وعطاءٌ وشُرَيحٌ ومجاهدٌ والشَّعبيُّ وقَبِيصةُ بن ذُؤيبٍ وأبو سَلَمَة بن عبد الرَّحمن وإبراهيمُ النَّخَعيُّ والزُّهريُّ ومكحولٌ وابن أبي نُجَيحٍ وعُرْوةُ والأوزاعيُّ والثَّوريُّ وأبو حنيفةَ والشَّافعيُّ ومالكٌ.
          قلتُ: أثر عُثْمانَ أخرجَه ابنُ أبي شَيْبَة مِن طريق أبي مُعَاويةَ، عن هِشَامٍ عن أبيه قال: خَلَع جُمهَانَ امرأةً ثمَّ نَدِمَ ونَدِمَت، فأتَوا عُثْمانَ ☺... الحديث، وهذا اضطرابٌ فيما رُوي عن عُثْمَان، بينما جُمْهَان يَروي صارَ صاحبَ القصَّةِ، وهو دالٌ على عدم الضَّبط لا سيَّما عن غير ثقةٍ ولا حافظٍ، وما حكاه عن ابن المسيِّب قد رواه وكيعُ بن الجرَّاح: حدَّثنا إبراهيم بن زيدٍ، عن داودَ بن أبي عاصمٍ عنه: أنَّه ◙ جعل الخُلعَ تطليقةً. والَّذي في «المصنَّف» عنه مِن قوله.
          وعن أبي سَلَمَة بن عبد الرَّحمن وسعيد بن جُبيرٍ والشَّعبيِّ وعطاءٍ والنَّخَعيِّ والزُّهريِّ ومكحولٍ والحسنِ وشريحٍ أنَّهم قالوا: الخُلْع تطليقةٌ بائنةٌ، وعند أبي حنيفة: يلحقُها الطَّلاق في العِدَّة، ولا يلحقُها مُرسَل الطَّلاق وكِنايتُه، خِلافًا للشَّافعيِّ وأحمد، وقال مالكٌ: إن طلَّقها عَقِيبَ خلعِهِ مُتَّصلًا به طُلِّقت، وإن انفصلَ الطَّلاقُ عن الخُلْع لم تَطْلُق، وقيل لأحمد كما حكاه الخلَّال في «علله»: حديثُ ابن جُرَيجٍ، عن عَطَاءٍ، عن ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير أنَّهما قالا: لا يلحقها طلاقٌ، صحيحٌ هو؟ قال: نعم صحيحٌ، ثمَّ قال: زوجةٌ هي فيلحقُها طلاقٌ!
          وطريقُه الَّتي قال: لا تصحُّ، أخرجَها ابنُ أبي شَيْبَة، عن ابن إدريسَ، عن مُوسى بن مُسْلمٍ، عن مجاهدٍ، عن عليٍّ، وموسى هذا هو أبو عيسى الطَّحَّان، وثَّقَه ابنُ مَعِينٍ وغيرُه، وذكر أبو حاتِمٍ الرَّازي أنَّ مجاهدًا أدرك عليًّا، وكذا قال الضِّياءُ: وقد اتَّفق روايةُ أيُّوبَ ووُهَيْبٍ عنه قال: خرج علينا عليُّ بن أبي طالبٍ.
          فَصْلٌ:
          قال ابنُ حزمٍ: وروِّينا عن عبد الرَّزَّاق عن المُعتَمِرِ بن سُلَيْمَان، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن الحكم بن عُتَيبَة، أنَّ عليًّا ☺ قال: لا يأخُذُ _يعني: مِن المختَلِعَةِ_ فوقَ ما أعطَاها. وهذا لا يصحُّ عن عليٍّ لأنَّه منقطعٌ، وفيه ليثٌ، وذكره ابن أبي شَيْبَة في «مصنَّفه» عن عَطَاءٍ وطَاُوسٍ وعِكْرِمةَ والحسنِ والزُّهريِّ والشَّعبيِّ وعَمْرِو بن شُعَيبٍ والحكمِ وحمَّادٍ وقَبِيصةَ بن ذُؤيبٍ، قال أبو حنيفة: فإن أخذَ أكثرَ ممَّا أعطاها فليتصدَّق به. وقال ميمونُ بن مِهرَانَ فيما حكاه ابنُ حزمٍ: إن أخذَ أكثرَ ممَّا أعطاها فلم يُسرِّحْ بإحسانٍ. وقال طاوسٌ والزُّهريُّ: لا يحِلُّ له أن يأخذَ أكثر ممَّا أعطاها، وفي رواية عمَّار بن عِمْرَانَ عن أبيه عن عليٍّ: أنَّه كره أن يأخذَ أكثرَ ممَّا أعطى، ورُوي ذلك أيضًا عن الشَّعبيِّ والحكم وحمَّادٍ، وعن عبد الكريم الجَزَرِيِّ عن ابن المسيِّب: لا أحبُّ أن يأخذَ منها كلَّ ما أعطاها حتَّى يدعَ لها ما يُعيِّشُها. /
          فَصْلٌ:
          ذكر الإمامُ أبو عبد الله محمَّد بن نَصْرٍ المَروَزِيُّ في كتابه «اختلاف العلماء» عن سُفْيَانَ وأصحابِ الرَّأي ومالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ: عِدَّة المختلِعَة إن كانت ممَّن تحيض ثلاث حِيَضٍ، وإن كان قد أَيست فثلاثةُ أشهرٍ، وقال إسحاقُ وأبو ثورٍ: عِدَّتها حيضةٌ. ونقل في هذا الكتاب عن سُفْيَانَ وأصحاب الرَّأي ومالكٍ أنَّ الخُلْع تطليقةٌ بائنةٌ، وعن أحمدَ وإسحاقَ أنَّه فرقةٌ وليس بطلاقٍ إلَّا أن يسمِّي طلاقًا، فإن سمَّاه فهي بائنٌ، وإن سمَّى أكثر فهو ما سمَّى، وعن الشَّافعيِّ في آخر قوله: إن نوى الخُلْعَ طلاقًا أو سمَّاه فهو طلاقٌ إن سمَّى واحدةً فهي بائنةٌ، وإن لم ينوِ طلاقًا ولا شيئًا لم تقع فُرقةٌ. وقال أبو ثورٍ: إذا نوى الطَّلاقَ فالخُلْعُ فُرقةٌ وليس بطلاقٍ، فإن سمَّى تطليقةً فهي تطليقةٌ، والزَّوج يملِكُ رجعتَها مادامت في عِدَّتها. وقال التِّرمذيُّ: اختلفَ أهلُ العِلْم في عِدَّة المختلعةِ، فقال أكثرُ أهل العِلْم مِن الصَّحابة وغيرِهم: عِدَّتها عِدَّة المطلَّقة، وهو قولُ الثَّوريِّ وأهلِ الكوفة، وبه يقول أحمد وإسحاقُ، وقال بعضُ أهل العِلْم مِن الصَّحابة وغيرهم: عِدَّتها حيضةٌ، قال إسحاقُ: وإن ذهب ذاهبٌ إلى هذا فهو مذهبٌ قويٌّ.
          فَرْعٌ: اختلفوا هل للأبِّ أن يُخَالع عن ابنتِه الصَّغيرة بشيءٍ مِن مالها، فقالوا: لا يملِكُ ذلك، وقال مالكٌ: يملِكُ.
          فَصْلٌ: قولُ طاوسٍ: (وَلَمْ يَقُلْ قَوْلَ السُّفَهَاءِ: لَا يَحِلُّ حَتَّى تَقُولَ: لاَ أَغْتَسِلُ لَكَ مِنْ جَنَابَةٍ) أي لم يقل طَاوُسٌ قولَ السُّفهاء: لا يحِلُّ... إلى آخره، يريد أنَّ قولَ السُّفهاء: إنَّ الخُلْعَ لا يحلُّ حتَّى تقولَ المرأةُ ذلك، أي لمنعه أن يطأَها.
          وظاهر ما في البخاريِّ أنَّ قولَه: (وَلَمْ يَقُلْ...) إلى آخره، مِن كلام البخاريِّ، ونقل غيرُه نصَّ هذا الكلام عن ابنِ جُرَيجٍ، ويجوز أن يكون البخاريُّ ظهر له ما قال ابنُ جُرَيجٍ فنسبَه إلى نفسه، ذكرَه ابنُ التِّين.
          فَصْلٌ:
          الحَدِيْقَةُ أرضٌ ذاتُ شجرٍ، قاله ابن فارسٍ، وقال الهَرَوِيُّ: كلُّ ما كان أحاط به البناء، وهي البُستان، ويقال للقِطْعة مِن النَّخلِ: الحديقة.
          وأثرُ عُثْمانَ ☺ أنَّه يأخذ منها كلَّ ما تملِك دون العِقَاص، وهو الخَيطُ الَّذي يُعقص به أطراف الذَّوائب أي: يُضَفَّر به.
          فَصْلٌ: حديثُ الباب يستدلُّ به على جواز الاختلاع في الحيض؛ لأنَّه ◙ لم يسأل، وخالف فيه مالكٌ في «المختصر» وأشهبُ في «المدوَّنة».
          فَصْلٌ: قد أسلفنا أنَّ جَمِيلةَ بنتَ عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سَلُولَ، وولدت لثابتٍ محمَّدًا، قُتل مع أخيه لأمِّه أمير الحرَّة عبد الله بن حَنْظَلة الغَسِيل، ثمَّ خَلَفَ عليها بعدَ ثابتٍ مالكُ بن الدُّخْشُمِ فولدت له الفُرَيْعَةَ، ثمَّ خَلَف بعده خُبَيْبُ بن أَسَافٍ فولدت له أبا كثيرٍ عبدَ الله.