التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب شفاعة النبي في زوج بريرة

          ░16▒ (بَابُ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلعم فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ)
          5283- ذكر فيه حديثَ ابن عبَّاسٍ ☻: (أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِعَبَّاسٍ: يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: لَوْ رَاجَعْتِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ).
          الشرح:
          هو مطابقٌ لِمَا ترجمَ له، وهو استشفاعُ الإمام والعالِمِ والخليفةِ في الحوائج، والرَّغبةُ إلى أهلها في الإسعاف لسائلها، وأنَّ ذلك مِن مكارم الأخلاق، وقد قال ◙: ((اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، ويَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نبَيِّهِ مَا شَاءَ)).
          ثَمَّ فيه فوائدُ أُخر:
          الأُولى: أنَّ السَّاعي في ذلك مأجورٌ وإن لم تنقضِ الحاجةُ، طبقَ ما أوردناه.
          الثَّانية: لا حرجَ على الإمام والحاكم إذا ثبت الحقُّ على أحد الخصمين، إذا سأله الَّذي ثبتَ الحقُّ عليه أنْ يسألَ مَن ثبتَ ذلك له تأخيرَ حقِّه أو وضعَه عنه، وأن يشفعَ له في ذلك إليه، وذلك أنَّه ◙ شفعَ إلى بَرِيرةَ وكلَّمها بعدما خيَّرها وأعلَمَها مالها مِن القرار تحتَه أو الفراق، فقال: (لَوْ رَاجَعْتِهِ).
          الثَّالثة: أنَّه مَن يُسأل مِن الأمور ما هو غير واجبٍ عليه فعلُهُ فله ردُّ سائلِه وترك قضاء حاجته وإن كان الشَّفيع سلطانًا أو عالمًا أو شريفًا؛ لأنَّه ◙ لم يُنكِر على بَرِيرةَ ردَّها إيَّاه فيما شفع فيه، وليس أحدٌ مِن الخلق أعلى رتبةً مِن رسول الله صلعم، فغيرُه مِن الخَلْق أَحْرى أن لا يكون مُنكِرًا ردَّه فيما شفع فيه.
          الرَّابعة: أنَّ بُغض الرَّجل للرَّجل المسلم على وجه كراهة قُربِه والدُّنوِّ منه على غير وجه العداوة له، ولكن اختيارًا للبعد منه لسُوء خُلُقِه وخُبثِ عِشرته وثِقَل ظِلِّه، أو لغير ذلك ممَّا يُكرِّهُ النَّاس بعضَهم مِن بعضٍ جائزٌ، كالَّذي ذُكر مِن بُغضة امرأة ثابت بن قيسِ بن شمَّاسٍ له مع مكانه مِن الدِّين والفضل لغير بأسٍ، لكن لدمامة خَلْقه وقُبحِه، حتَّى افتدت منه وفرَّق الشارع بينهما، ولم يرَ أنَّها أتت مأثَمًا ولا ركبت معصيةً بذلك، بل عَذَرها وجعل لها مَخرَجًا مِن المقام معه وسبيلًا إلى فُراقه والبُعد منه، ولم يذمَّها على بُغضِها له على قُبحه وشدَّة سواده، وإن كان ذلك جِبلَّةً وفِطرةً خُلق عليها، والَّذي يُبغض على ما في القُدرة تركهُ مِن قبيح الأحوال ومذموم العشرة أَوْلَى بالعُذر وأبعدُ مِن الذَّمِّ.
          الخامسة: أنَّه لا بأس بالنَّظر إلى المرأة الَّتي يريد خِطبتَها وإظهارِ رغبته فيها، وذلك أنَّه ◙ لم يُنكر على زوج بَرِيرةَ _وقد اختارت نفسها وبانت منه_ اتِّباعَه إيَّاها في سِكَك المدينة باكيًا على فراقها، وإن ظنَّ أحدٌ أنَّ ذلك قبل اختيار بَرِيرةَ نفسَها، فقوله ◙ (لَوْ رَاجَعْتِيهِ) يدلُّ أن ذلك كان بعد: بينونتِها، ولو كان ذلك قبل بينونتها لقال لها: لو اخترتيه.
          ولا خِلاف بين الجميع أنَّ المملوكةَ إذا عُتقت وهي تحت زوجٍ فاختارَت نفسَها أنَّها لا ترجع إلى الزَّوج الَّذي كانت تحته إلَّا بنكاحٍ جديدٍ غيرِ النِّكاح الَّذي كان بينها وبينه قبل اختيارها نفسها، فَعُلم أنَّ قولَه ◙: (لَوْ رَاجَعْتِيهِ) معناه: غير الرَّجعة الَّتي تكون بين الزَّوجين في طلاقٍ يكون للزَّوج فيه الرَّجعة، ولو كان ذلك معناه لكان ذلك إلى زوج بَرِيرةَ دونَها، ولم يكن لزوجِها حاجةٌ أن يستشفعَ برسول الله صلعم في أن تُرَاجعَه.
          السَّادسة: أنَّه لا حرجَ على مُسلمٍ في هوى امرأةٍ مسلمةٍ وحبِّه لها ظَهَر ذلك أو خَفِي، ولا إثمَ عليه في ذلك، وإن أفرطَ ما لم يأتِ مُحرَّمًا، وذلك أنَّ مُغيثًا كان يَتْبَعها بعد ما بانت منه في سِكَكِ المدينة، مُبديًا لها ما يجدُه مِن نفسِه مِن فَرْط الهوى وشدَّة الحبِّ، ولو كان هذا قبل اختيارها نفسها لم يكن ◙ يقول لها: (لَوْ رَاجَعْتِيهِ) لأنَّه لا يُقَال لامرأةٍ في حِبَال رجلٍ ومِلْكه بِعِصْمة النِّكاح: لو راجعتيه، وإنَّما يُسأل المراجعة المفارقُ لزوجته.
          وإذا صحَّ ذلك فغير مَلومٍ مَن ظهر منه فَرْطُ هوى امرأةٍ يحلُّ له نِكَاحها، نَكَحَتْهُ بعد ذلك أم لا، ما لم يأتْ مُحرَّمًا ولم يَغْشَ مَأثمًا.
          السَّابعة: أنَّه مَن بانت منه زوجتُه بخُلْعٍ أو فِديةٍ مما تكونُ المرأةُ فيه أَوْلَى بنفسِها مِن زوجها ولا رجعةَ له عليها أنَّه يجوز له خِطبتها في عِدَّتها، ولا بأس على المرأة بإجابته إلى ذلك؛ لأنَّه ◙ شفع إلى بَرِيرَةَ وخَطَبها على زوجها / الَّذي بانت منه بصريح الخِطبة الَّتي هي محظورةٌ في العدَّة، ولو أنَّ غيرَه كان الرَّاغب فيها لَمَّا جاز له التَّصريحُ بالخِطبة.
          الثَّامنة: أنَّ أمرَه مخالفٌ لشفاعتِه، فأمرُه للوجوب بخِلافِ شفاعته.