التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}

          ░39▒ (بَابُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]).
          5318- ذكر فيه حديثَ أمِّ سَلَمَة ♦: (أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهَا: سُبَيْعَةُ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا، تُوُفِّيَ عَنْهَا وَهْيَ حُبْلَى، فَخَطَبَهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَنْكِحَهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِي حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ، فَمَكَثَتُ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ، ثُمَّ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلعم فَقَالَ: انْكِحِي).
          5319- وحديثَ اللَّيث عن يزيدَ: (أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الأَرْقَمِ أَنْ يَسْأَلَ سُبَيْعَةَ / الأَسْلَمِيَّةَ كَيْفَ أَفْتَاهَا النَّبِيُّ صلعم؟ فَقَالَتْ: أَفْتَانِي إِذَا وَضَعْتُ أَنْ أَنْكِحَ).
          5320- وحديثَ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: (أَنَّ سُبَيْعَةَ الأَسْلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صلعم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ).
          حديث سُبَيْعَةَ سلف في التفسير [خ¦4909].
          وقولُ اللَّيث: حدَّثني يَزِيدُ، عن ابن شِهَابٍ. وهو يزيدُ بن أبي حبيبٍ كما ذكره أبو مسعودٍ في «أطرافه» وغيرُه، وصرَّح به أبو نُعَيمٍ والطَّبرانيُّ، ورواه النَّسائيُّ مِن حديثِ يزيدَ بن أبي أُنَيْسةَ، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن محمَّد بن مُسْلمٍ به، وأمَّا الدِّمياطيُّ فقال: يزيدُ هذا هو ابن عبد الله بن أسامةَ بن الهَادِ فَيُنْظَر.
          ولحديث سُبَيعة طريقٌ آخرُ أخرجه أحمد في «مسنده» عن إسحاقَ بن عيسى، حدَّثنا ابنُ لَهيعَة، عن بُكَيرٍ، عن بُسرٍ، عن أُبيِّ بن كعبٍ: أنَّ امرأتَه أمَّ الطُّفيل قالت لِعُمَرَ ☺: قد أمرَ رسولُ الله صلعم سُبَيْعَةَ أنْ تَنْكِحَ إذا وضَعَت.
          فَصْلٌ: الَّذي عليه أكثر العلماء كما قاله القاضي إسماعيلُ، والَّذي مضى عليه العملُ: أنَّها إذا وَضَعت حملَها فقد انقَضَت عِدَّتها، وذهبوا إلى أنَّ الآية قد عمَّت كلَّ معتدَّةٍ مِن طلاقٍ أو وفاةٍ إذ جاءت مجملةً، فلم يذكر فيها أنَّها للمطلَّقة خاصَّةً، ولا للمتوفِّي عنها خاصَّةً، فكانت عامَّةً في كلِّ معتدَّةٍ فوجب أن تكون الأقراءُ والشُّهور الثَّلاثة للمطلَّقة إذا لم تكن حاملًا على ما جاء فيه مِن النَّصِّ، فوجب أن تكون الأربعة أشهرٍ والعشر للمتوفَّى عنها إذا لم تكن حاملًا، ووجب أن تكون كلُّ ذات حمْلٍ مات عنها زوجها أو طلَّقها فأجلُها أن تَضَع حملَها.
          وحديثُ الباب شاهدٌ له، وعليه علماء الحجاز والعراق والشَّام منهم: عُمر وابنهُ وابن مسعودٍ وأبو هُرَيْرَةَ، ولا أعلم فيه مخالفًا مِن السَّلف إلَّا ابن عبَّاسٍ وروايةٌ عن عليٍّ فإنَّهما قالا: عِدَّتها آخرُ الأجلين؛ الأشهر أو الوضْعُ.
          ورُوي أيضًا عن سَحُنونٍ، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ الرُجوع عن ذلك، وتصحيح ذلك أنَّ أصحابَه عَطَاءً وعِكْرمةَ وجابرَ بن زيدٍ قالوا كقول الجماعة، وقال حمَّادُ بن أبي سُلَيْمَان: لا تخرج مِن العِدَّة حتَّى ينقضيَ نِفَاسها وتغتسل منه، ورُوي أيضًا عن الحسنِ وإبراهيمَ والشَّعبيِّ.
          قال ابن القصَّار: وهو قياس قول أبي حنيفة؛ لأنَّه يقول: الأقراء هي الحيض، فإذا مضت ثلاث حِيَضٍ لم تخرج مِن العِدَّة حتَّى تغتسل.
          وقال ابن مسعودٍ في قول عليٍّ: مَن شاءَ لاعَنَتهُ أنَّ هذه الآية الَّتي في سورة النِّساء القُصْرَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد الَّتي في البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة:234] الآية.
          ولولا حديث سُبَيعةَ وهذا البيان مِن رسول الله صلعم في هاتين الآيتين لكان القول ما قاله عليٍّ وابن عبَّاسٍ؛ لأنَّهما عِدَّتان مجتمعان فلا تخرج منهما إلَّا بيقينٍ، واليقينُ في ذلك آخر الأجلين، ألَّا ترى إلى قول فقهاء الحجاز والعراق في أمِّ الولد يموت عنها زوجها ويموت سيِّدها، ولا تدري أيُّهما مات أولًا أنَّ عليها عِدَّتين أربعة أشهرٍ وعشرًا، فيها حيضةٌ عند الشَّافعيِّ، وذلك لها آخرُ الأجلين، وعند أبي حنيفة لا حيضةَ فيها، وعند أبي يُوسُفَ ومحمَّدٍ فيها ثلاث حِيَضٍ. إلَّا أنَّ السُّنَّة وردت مِن ذلك في الحامل المتوفَّى عنها في سُبَيعة، ولو بلغت السُّنَّة عليًّا ما تركها، وأمَّا ابن عبَّاسٍ فقد رُوي عنه أنَّه رجع إلى حديث سُبَيعةَ بعد المنازعة منه كما سلف.
          فَصْلٌ: سُبَيْعةُ هذه بنت الحارثِ الأَسْلميَّةُ، وزوجُها سعْدُ بن خَوْلةَ مولى بني عامر بن لؤيٍّ، كان مِن اليمن، وقيل: مِن عَجَم الفُرس، هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرًا وما بعدها، وتوفي بمكَّة في حجَّة الوداع، ورثى له رسول الله صلعم أنْ ماتَ بمكَّة، ووضعَت زوجُهُ سُبَيْعة بعد وفاته بليالٍ، قيل: خمسٌ وعشرون ليلةً، وقيل: أقلُّ مِن ذلك.
          فَصْلٌ: و(أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ) هو ابنُ الحارثِ بن السَّبَّاق بن عبد الدَّار بن قُصيٍّ بن كلابِ بن مُرَّةَ، قيل: اسمُه حبَّة، وقيل غير ذلك كما سلف، أسلَمَ يومَ الفتح وكان شاعرًا، ومات بمكَّة وكان أُسِر يوم بدرٍ.
          فَصْلٌ: (ابْنُ الأَرْقَمِ) هو عبد الله بن الأرقمِ بن عبد يَغُوثَ بن وَهْبِ بن عبد مَنَاف بن زُّهَرة، أسلم عام الفتح، وكتب لرسول الله صلعم ثمَّ لأبي بكرٍ ثمَّ لعُمَرَ، واستعمله على بيت المال عُثْمانُ سنتين، ثمَّ استعفاه فاعفاه، قال عُمَرُ: ما رأيتُ أخشى لله منه.
          فَصْلٌ: قولُها: (فَمَكَثَتُ قَرِيبًا مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ) تريد بعدَ أن ولدت، وفي «الموطَّأ» ولدت بعد وفاةِ زوجِهَا بنصف شهرٍ فخَطَبها رجلان: أحدُهما شابٌّ، والآخر كهْلٌ، فمالت إلى الشَّاب فقال الكهل: لم تَحِلِّي، وكان أهلُها غُيَّبًا، فَرَجَا أن يُؤثِرَه أهلُها إذا جاءوا، فجاءت إلى رسول الله صلعم فقال: ((انْكِحِي مَنْ شِئْتِ)).
          فَصْلٌ: وقولُه: (فَقَالَ: وَاللهِ مَا يَصْلُحُ أَنْ تَنْكِحِي حَتَّى تَعْتَدِّي آخِرَ الأَجَلَيْنِ) هذا هو الصَّواب، ووقع عند الشَّيخ أبي الحسنِ: <فقالت>، وهو تحريفٌ لأنَّ أبا السَّنابِلِ خاطبَهَا بذلك.
          وقوله: (نُفِسَتْ) هو بضمِّ النُّون وفتحها، وإن كان الهَرَويُّ قال: نُفست بهما: إذا ولدت، فإذا حاضت فالفتح لا غير.
          فَصْلٌ: فيه جوازُ المكاتبة بالعِلْمِ، وبه أخَذَ مَن جوَّزها.