التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من أجاز طلاق الثلاث

          ░4▒ (بَابُ مَنْ أَجَازَ طَلاَقَ الثَّلاَثِ لقولِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]).
          كأنَّ البخاريَّ ☼ أراد بأنَّ الطَّلقة الثَّالثة قولُه تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وقد جاء كذلك مفسَّرًا في حديث أنسٍ: قال رجلٌ للنَّبيِ صلعم: إنِّي أسمعُ اللهَ يقول: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] فأينَ الثَّالثةُ؟ قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]. رواه الدَّارقطنيُّ وصوَّب إرسالَه، وقال ابنُ القطَّان: هما عندي صحيحان. ثمَّ بَرْهَنَ.
          وقد طلَّق عُوَيْمِرٌ العَجْلَانيُّ بحضرتِهِ ثلاثًا ولم يُنكر عليه صدورَ هذا اللَّفظ كما أوردَه في الباب، وإن كان وقع بعد اللِّعان وَبَانَت.
          ثمَّ قال البخاريُّ: (وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي مَرِيْضٍ طَلَّقَ: لَا أَرَى أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ).
          وهذا أخرجه أبو عُبيدٍ، عن يحيى القطَّان، حدَّثنا ابن جُرَيجٍ، عن ابن أبي مُلَيْكَةَ: أنَّه سأل ابنَ الزُّبير عن المَبْتُوتة في المرضِ، فقال: طلَّق عبدُ الرَّحمن بن عوفٍ / ابنةَ الأصبَغِ الكلبيَّة فبتَّها، ثمَّ مات وهي في عِدَّتها فَوَرَّثَها عُثْمانُ، قال ابنُ الزُّبير: وأمَّا أنا فلا أرى أن تورَّثَ المَبْتُوتةُ. ولابن أبي شَيْبَة عن عُمَرَ ☺ في المطلِّق ثلاثًا في مرضهِ: تَرِثُهُ مادامت في العِدَّةِ ولا يَرِثُها، وورَّث عليٌّ أمَّ البنين مِن عُثَمان لمَّا طلَّقها لَمَّا حُصِرَ، وقال إبراهيم: تَرِثُهُ مادامت في العِدَّة، وقال طَاوُسٌ وعُرْوة بن الزُّبير وعَائِشَةُ وابن سِيرينَ بقوله، كانوا يقولون: مَن فرَّ مِن كتاب الله رُدَّ إليه، يعني في الرَّجل يطلِّق امرأتَه وهو مريضٌ، وقال عِكْرِمَةُ: لو لم يبقَ مِن عِدَّتها إلَّا يومٍ واحدٍ ثمَّ ماتَ وَرِثت واستأنفَتْ عدَّة المتوفَّى عنها زوجها، وقال شُرَيحٌ فيما رواه عنه الشَّعبيُّ: يريد مادامت في العِدَّة، ونقل البخاريُّ عن الشَّعبيِّ أنَّها تَرِثُه.
          وروى ابن أبي شَيْبَة، عن وكيعٍ، عن زكريَّا، عن عامرٍ قال: بابٌ في الطَّلاق جسيمٌ إذا وَرِثَتِ اعتَدَّت، ومِن حديثِ رجلٍ مِن قُرَيشٍ، عن أُبَيِّ بن كعْبٍ: إذا طلَّقها وهو مريضٌ ورَّثْتُها منه، ولو مضى سنةٌ لم يبرأ أو يموت.
          وعن الحسن بن أبي الحسَنِ في رجلٍ طلَّق امرأته ثلاثًا في مرضه فمات وقد انقضت عِدَّتها قال: تَرِثه، وقال عطاءٌ: لو مَرِض سنةً ورَّثتُها منه، والَذي أجاب به الشَّافعيُّ في الحديث: أنَّه لا إرثَ.
          ثمَّ نقل البخاريُّ عن ابن شُبْرُمَةَ: (تَزَوَّجُ إِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَاتَ الزَّوجُ الآخَرُ؟ فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ).
          5259- ثمَّ ساق البخاريُّ في الباب حديثَ سَهْل بن سَعْدٍ السَّاعديِّ، وموضعُ الشَّاهد منه ما قدَّمتُه، ويأتي في بابه [خ¦5308].
          وحديثَ عَائِشَةَ في امرأة رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ، وسلف في الشَّهادات [خ¦2639]، والمقصود منه هنا: (فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي).
          وحديثَها أيضًا: (أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ، فَسُئِلَ صلعم: أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الأَوَّلُ)، وهو مفسِّرٌ لقوله: (فَبَتَّ طَلَاقِي).
          فَصْلٌ: ساق البخاريُّ هذه الأحاديث عَقِب هذه التَّرجمة للرَّدِّ على المخالف، وفي الأوَّل: إرسالُ الثَّلاث دفعةً، وفي الثَّاني: إرسالُ البَتَات، وفي الثَّالث: إرسالُ الثَّلاث مِن غير بيانٍ لذكر الكيفيَّة، هل هي مُجْتَمِعَاتٌ أو متفرِّقاتٌ؟
          ولمَّا قام عنده الدَّليل على تساوي الصُّور كفاه الدَّليلُ في بعضها دليلًا على الجميع كما نبَّه عليه ابنُ التِّين، وكأنَّه أثبت حكمَ الأصل بالنَّصِّ وألحق الفَرعَ به بقياس نفي الفارقِ.
          قلتُ: لكن في البخاريَّ في باب التَّبَسُّمِ وَالضَّحِكِ مِن كتاب الأدب [خ¦6084]: أنَّ رِفَاعَة طلَّقني آخرَ ثلاثٍ. فبانَ به أنَّها كانت متفرِّقاتٍ ولم يكن في كلمةٍ، فلا حجَّة فيه هنا، وكذلك ما ذكرَه عن ابنِ الزُّبير فمُحتملٌ أن يكون في كلمةٍ أو أكثرَ أو أن يكون خُلْعًا.
          فَصْلٌ: اتَّفق أئمَّةُ الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثَّلاث في كلمةٍ واحدةٍ، وهو قول جمهور السَّلف، ومَن خالف فهو شاذٌّ مخالفٌ لأهل السُّنَّة، وإنَّما تعلَّق به أهل البِدَع ومَن لا يُلتفت إليه لشذوذه عن الجماعة الَّتي لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسُّنَّة، وإنَّما يُروى الخِلاف في ذلك عن السَّلف: الحجَّاج بن أَرْطَأة ومحمَّد بن إسحاقَ، وقد أسلفنا ذلك واضحًا والجوابَ عمَّا ظاهرُه التَّخالُف.
          قال أبو يُوسُف القاضي: كان الحجَّاجُ بنُ أَرْطَأة يقول: ليس طلاقُ الثَّلاث بشيءٍ، وكان ابن إسحاق يقول: يردُّ الثَّلاث إلى واحدةٍ. وقد أسلفنا عن الطَّحاويِّ نكارة حديث رُكَانَة وابن عبَّاسٍ، وأنَّه خالفهما ما هو أَوْلَى منهما، روى سعيد بن جُبيرٍ ومجاهِدٌ ومالكُ بن الحويرث ومحمَّد بن إِيَاسِ ابن البُكَير والنُّعمان بن أبي عيَّاشٍ، كلُّهم عن ابن عبَّاسٍ فيمَن طلَّق امرأتَه ثلاثًا أنَّه عصى ربَّه، وبانت منه امرأته، ولا يَنْكِحُها إلَّا بعد زوجٍ.
          ورُوي هذا عن ابن عُمر وأبيه وعليٍّ وابن مسعودٍ وأبي هُرَيْرَةَ وعِمْرَانَ بن حُصَينٍ، كما أسنده الطَّحاويُّ عنهم، وروى ابن أبي شَيْبَة عن وكيعٍ، عن سُفْيَانَ، عن عَمْرِو بن مرَّة، عن سعيد بن جُبيرٍ قال: جاء رجلٌ إلى ابن عبَّاسٍ فقال: إنِّي طلَّقت امرأتي ألفًا _أو قال: مئةً_ قال: بانت منك بثلاثٍ، وسائرُها اتَّخذت بها آيات الله هُزوًا.
          وما رواه الأئمَّة عن ابن عبَّاسٍ ممَّا يُوافق الجماعة يدلُّ على وَهَنِ رواية طَاوُسٍ عنه، وما كان ابنُ عبَّاسٍ ليخالف الصَّحابةَ إلى رأي نفسِه، وقد روى مَعْمَرٌ، عن ابن طاوسٍ عن أبيه قال: كان ابنُ عبَّاسٍ إذا سُئِل عن رجلٍ طلَّق امرأتَه ثلاثًا قال: لو اتَّقيتَ الله جعل لك مَخرَجًا.
          وهذه الرِّواية لطاوسٍ عن ابن عبَّاسٍ تعارضُ روايةَ ابنِ جُرَيجٍ، عن ابن طاوسٍ عن أبيه؛ لأنَّ مَن لا مَخرجَ له قدْ لزمه مِن الطَّلاق ما أوقعَهُ، فسقطت رواية ابن جُرَيجٍ، وأيضًا فإن أبا الصَّهباء الَّذي سأل ابنَ عبَّاسٍ عن ذلك لا يُعرَف في موالي ابن عبَّاسٍ، لكن في هذا نظر كما سلف هناك، وليس تُعارِضِ روايةُ ابنِ جُرَيجٍ عن ابن عبَّاسٍ روايةَ مَن ذكرنا عن ابن عبَّاسٍ فصار في هذا إجماعًا، وحديث ابن إسحاقَ خطأٌ منكرٌ.
          وأمَّا طلاق رُكَانَة زوجتَه البتَّة لا ثلاثًا، كذلك رواة الثِّقات مِن أهل بيت رُكَانَة، رواه أبو داودٍ عن أبي ثَورٍ وغيرِه، عن الشَّافعيِّ: حدَّثني عمِّي محمَّدُ بن عليِّ بن شافعٍ، عن عبد الله بن عليِّ بن السَّائبِ، عن نافعِ بن عُجَيْرِ، عن عبد الله بن يزيد بن رُكَانَة: أن رُكَانَةَ طلَّق امرأتَه سُهَيْمَة البتَّةَ، فأُخبِرَ رسولُ الله صلعم بذلك فقال: واللهِ ما أردتُ إلَّا واحدةً، فردَّها عليه رسول الله، فطلَّقها الثَّانية في زمن عُمَر، والثَّالثة في زمن عُثْمَانَ. قال أبو داودَ: وهذا أصحُّ ما رُوي في حديث رُكَانَة.
          وحجَّة الفقهاء حديثُ الباب أنَّه طلَّقَها ثلاثًا قبل أن يأمرَهُ الشَّارع بذلك، وقبل أن يُخبرَه أنَّها تَطْلُقُ عليه باللِّعان، ولو كان ذلك محظورًا عليه لنهاه عنه كما سلف، وأعلمَه أنَّ إيقاعَ الثَّلاث مُحرَّمٌ ومعصيةٌ، فصحَّ أنَّ إيقاعَ الثَّلاث مباحٌ ولولا ذلك لم يُقرَّه.
          فَصْلٌ: اختلف العلماءُ في قولِ الرَّجل: أنت طالقٌ البتَّة، فذكر ابنُ المنذر عن عُمَرَ وسعيد بن جُبَيرٍ أنَّها واحدةٌ، وقال عَطَاءٌ والنَّخَعِيُّ: يُدَيَّنُ، فإن أراد واحدةً فهي واحدةٌ، وإن أراد ثلاثًا فهي ثلاثٌ، وهو قول أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، وقالت طائفةٌ في البتَّة: هي ثلاثٌ، ورُوي ذلك عن عليٍّ وابن عُمَر وسعيد بن المسيِّب وعُرْوة والزُّهرِيِّ وابن أبي ليلى ومالكٍ والأوزاعيِّ وأبي عُبَيدٍ، واحتجَّ الشَّافعيُّ بحديث رُكَانَة السَّالف، واحتجَّ مالكٌ بحديث ابن عُمَر: أَبَتُّ الطَّلاق طلاقُ السُّنَّة.
          قال ابن المنذر: وقد دفع بعضُ العلماء حديثَ رُكَانَة، وقال: عبدُ الله بن عليِّ بن يزيد بن رُكَانَةَ عن أبيه عن جدِّه لا يُعرَف سماعُ بعضِهم مِن بعضٍ.
          فَصْلٌ: وقد اختُلِف في طلاق المريض يموتُ في مرضِه، وقد أسلفناه، وحاصل الخِلاف فيه: أنَّ فِرقةً قالت: تَرِثُه ما دامت في العِدَّة، رُوي عن عثمان بن عفَّانَ أنَه وَرَّث امرأةَ عبد الرَّحمن بن عوفٍ منه وكانت في العِدَّة، / وبه قال النَّخَعيُّ والشَّعبيُّ وابن شُبرمة وابن سِيرينَ وعُرْوَة، وهو قول الثَّوريِّ والكوفيِّين والأوزاعيِّ وأحد قولي الشَّافعيِّ، وأنَّ فِرقةً قالت: تَرِثُه بعد العِدَّة ما لم تَزَوَّج، رُوي عن عَطَاءٍ والحسنِ وابنِ أبي ليلى، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ وأبو عُبَيدٍ، وأنَّ فِرقةً قالت: تَرِثُه وإن تزوَّجت، هذا قول ربيعةَ ومالكٍ واللَّيثُ وهو الصَّحيح عن عُثْمانَ، رواه مالكٌ في «الموطَّأ» عن ابن شِهابٍ، وأنَّ فِرقةً قالت: لا تَرِث مَبتوتَةٌ بحالٍ وإن مات في العِدَّة لقولِ ابنِ الزُّبير، وهو أحدُ قولي الشَّافعيِّ، وبه قال أبو ثورٍ وأهل الظَّاهر.
          احتجُّوا لقول ابن الزُّبير بالإجْمَاع على أنَّ الزَّوج لا يَرِثُها وإن ماتت في العِدَّة ولا بعد انقضائها إذا طلَّقها ثلاثًا وهو صحيحٌ أو مريضٌ، فكذلك هي لا تَرِثُه، ومَن قال: لا تَرِثُه إلَّا في العِدَّة استحالَ عندَه أن تَرِثَ المبتوتةُ في حالٍ لا تَرِث فيه الرَّجعيَّة؛ لأنَّه لا خِلاف بين المسلمين أنَّ مَن طلَّق امرأتَه صحيحًا طلقةً يملِكُ فيها رجعتَها ثمَّ انقضَت عدَّتُها قبل موتِه أنَّها لا ترثه لأنَّها أجنبيةٌ ليست منه ولا هو منها، فلا تكون المبتوتة المُختلَف في ميراثها في العدَّة أقوى مِن الرَّجعيَّة المجمَع على توريثها في العِدَّة.
          وأمَّا مَن قال: تَرِثُهُ بعدَها ما لم تنكح، فإنَّهم اعتبروا إجماعَ المسلمين أنَّه لا ترث امرأةٌ زوجين في حالٍ واحدٍ، وقولهم غير صحيحٍ لأنَّه لا يخلو أن تكون له زوجةٌ بعد انقضاء العِدَّة أو لا تكون، فإن كانت فلا يحلُّ لها نكاح غيره، وإلَّا فمحالٌ أن تَرِثه وهي زوجةٌ لغيره، وبمثل هذه العِلَّة يُلزم مَن قال: تَرِثُهُ بعدها وإن تزوَّجت.
          وأهلُ هذه المقالة اتَّهمت المريضَ بالفِرار مِن ميراث الزَّوجة، والمريضُ محجورٌ عليه في الحكم في ثُلُثَي ماله بأن يُنقِص ورثتَهُ بأن يُدْخِل عليهم وارثًا، فكذلك هو ممنوعٌ مِن أن يُخْرِج عنهم وارثًا، كما منع الشَّارع الَّذي قتل وليَّهُ ميراثَهُ بسبب ما أحدثَ مِن القتل، فكذلك لا ينبغي أن يكون المريض مانعًا زوجتَه الميراث بسبب ما أحدثَه مِن الطَّلاق، لأنَّ الميراثَ حقٌّ ثبتَ لها بمرضِه.
          فَصْلٌ: قيل: العَسَلُ يذكَّر ويؤنَّث، فمَن صغَّره مؤنَّثًا قال: عُسَيْلَةٌ، كهُنَيْدَةٌ في هندٍ، وقيل: أراد قِطعةً مِن العسل، وقيل: على معنى النُّطفة، شَبه اللَّذة بالذَّوق، واستعارَه لها.
          فَصْلٌ: في حديث رِفَاعَةَ أنَّ المطلَّقة ثلاثًا لا تَحِلُّ لمطلِّقها إلَّا بنكاحٍ فيه جِماعٌ، وهو مفسِّرٌ لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهو مِن التَّفسير المسنَد، وذلك أنَّ القرآن كلَّه إذا ذُكر فيه النِّكاح أُريد به العَقْد لا الوطء إلَّا هُنَا، وإلَّا في قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] على قولٍ، والسُّنَّة بيَّنتْهُ بقولِه: (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ)، وهي الوَطْءِ.
          وانفرد ابنُ المسيِّب فاكتفى بالعَقْد كما أسندَه سعيدُ بن منصورٍ في «سُننه» قولَه، ولا نعلمُ أحدًا وافقه إلَّا طائفةٌ مِن الخوارجِ ولا التفاتَ إليهم، ولعلَّه لم يبلغه الحديث، وقيل: إنَّه رجع عنه، حكاه في «القُنيَة» للزَّاهديِّ، قال: ولو قضى به قاضٍ لا ينفُذُ قضاؤه، فإن أفتى به أحدٌ عُزِّر، وإن كان المبرِّد حكى عن أهل الحجاز أنَّهم يرون النِّكاحَ العَقْدَ دون الفعل، ولا يُنكرونه في الفعل، ويحتجَّون بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ويكون هو الجِمَاع، وهو في الأصل كنايةٌ، وهي تقع عن هذا الباب كثيرًا، والأصل ما ذكرناه، قال ◙: ((أَنَا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ))، ومقابل قول سعيدٍ في الغرابة قولُ الحسَنِ البصريُّ: لا تحلُّ حتَّى يطأها الثَّاني وطئًا فيه إنزالٌ، وزعَمَ أنَّه معنى العُسَيْلَةُ، وخالفَه سائر الفقهاء فاكتفوا بالإلتقاء كما في سائر الأحكام.
          وأغربَ ابنُ المنذر فقال: إذا أتاها نائمةً أو مُغمًى عليها لا تشعُرُ لا تحلُّ للأوَّل حتَّى يذوقا جميعًا العُسَيْلَةَ، إذ غيرُ جائزٍ أن يسوِّي الشَّارع بينهما في ذوقهما، وتَحِلُّ بأن يذوقَها أحدُهما، وهذا قولُ عليٍّ وابن عبَّاسٍ وجابرٍ وعَائِشَة وابن عُمَر، وهو قول جماعة العلماء لا خِلاف في ذلك إلَّا ما رُوي عن ابن المسيِّب، وهو قوله في هذا الحديث: ((أَوْ يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ))، لا يُوجِب ذوقَ أحدهما لها دون صاحبه، و((أَوْ)) هنا بمعنى الواو، وذلك مشهورٌ في اللُّغة، وقد بيَّن ذلك رواية مَن روى: ((وتذوق)) بالواو كما ذكره في الباب، وفي باب: مَن قال لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ، كما سيأتي [خ¦5265].
          فَصْلٌ: واختلفوا في عَقْدِ نكاح المحلِّل، فقال مالكٌ: لا يُحِلُّها إلَّا نكاحُ رَغْبَةٍ، فإن قصد التَّحليل لم يُحلَّها، سواءٌ عَلِم بذلك الزَّوجان أو لم يعلما، ويُفسخ قبل الدُّخول وبعده، وهو قول اللَّيث وسُفْيَان والأوزاعيِّ وأحمدَ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والشَّافعيُّ: النِّكاحُ جائزٌ، وله أن يقيم على نِكاحه أوَّلًا، وهو قول عطاءٍ والحكم. وقال القاسمُ وسالمٌ وعُرْوَةُ والشَّعبيُّ: لا بأس أن يتزوَّجها ليُحِلَّها إذا لم يَعْلَم بذلك الزَّوجان، وهو مأجورٌ بذلك، وهو وقول ربيعَةَ ويحيى بن سعيدٍ.
          حجَّة مالكٍ الأحاديث الواردة في لعنِه، منها حديث ابن مسعودٍ: لعَنَ رسولُ الله صلعم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. حديثٌ صحيحٌ أخرجه النَّسائيُّ والتِّرمذيُّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ. قلتُ: وهو على شرط الشَّيخين، وقال ابن حزمٍ بعد أن ساقَه مِن طريق النَّسائيِّ إليه: إنَّه خبرٌ لا يصحُّ في الباب سواه. قلتُ: أعلَّه ابنُ القطَّان بأبي قيسٍ، وفيه أيضًا عن عُقبَةَ بن عامرٍ وأبي هُرَيْرَةَ وجابرٍ وابن عبَّاسٍ ♥.
          أمَّا حديث عُقْبَةَ فمداره على مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عنه مرفوعًا: ((لَعَنَ اللهُ المُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ))، أخرجه الدَّارقطنيُّ، وقال عبد الحقِّ: إسنادُه حسنٌ. واعترضَه ابنُ القطَّان بأبي صالحٍ كاتبِ اللَّيث الَّذي في إسناده لأنَّ حاله مختلفٌ فيها، رواه عنه إبراهيمُ بن الهيثم البَلَديُّ، وقد أنكر عليه حديث الثَّلاثة الَّذين في الغار، وقال أبو زَرْعَةَ فيما حكاه ابن أبي حاتمٍ: ذكرتُ هذا الحديث ليحيى بن بُكَيرٍ وأخبرتُه برواية عبد الله بن صالِحٍ وعثمان بن صالِحٍ له عن اللَّيث، فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا وقال: لم يسمع اللَّيثُ عن مِشْرَحٍ شيئًا ولا روى عنه شيئًا، وإنَّما حدَّثني اللَّيثُ بهذا الحديث عن سُلَيْمانَ بن عبد الرَّحمن: أنَّ رسول الله صلعم... قال أبو زُرْعة: والصَّواب عندي قول يحيى هذا.
          وأمَّا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ فأخرجه ابنُ أبي شَيْبَة بإسنادٍ جيدٍ عنه: لَعَنَ رَسُولُ الله صلعم المُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. /
          وأمَّا حديثُ جابرٍ فأخرجه أيضًا عن ابن نُمَيرٍ، عن مُجَالِدٍ، عن عامِرٍ، عن جابرٍ، عن عليّ مثلَه سواءٌ، قال التِّرمذيُّ: ووَهَم فيه ابنُ نُمَيرٍ.
          وأمَّا حديثُ ابن عبَّاسٍ فأخرجه ابنُ ماجه مِن حديثِ زَمْعَةَ بن صَالحٍ، عن سَلَمَةَ بن وَهْرَامَ _وفيهما مقالٌ وقد وُثِّقا_ عن عِكْرِمَة، عن عبد الله: لَعَنَ رَسُولُ الله صلعم المُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ.
          قال ابن حزمٍ: وذهب مالكٌ أيضًا إلى آثارٍ بمعناه، إلَّا أنَّها هالكةٌ إمَّا مِن طريق الحارثِ الأعورِ الكَذَّابِ أو مِن طريق إسحاقَ الفَرْوِيِّ، ولا خيرَ فيه، رُوي عن إبراهيمَ بن إسماعيلَ، عن داودَ، عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ يرفعُه: سئل عن المُحَلِّلِ فقال: ((لَا نِكَاحَ إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ)) ثلاثًا، ومِن طريق وكيعٍ، عن الثَّوريِّ، عن المسيِّب بن رافعٍ، عن قَبِيصَةَ بن جابرٍ: قال عُمَرُ بن الخطَّاب: لا أُوتَى بمُحِلٍّ ولا بمُحَلَّلٍ إلَّا رَجَمته.
          وحمل هذا الطَّحاويُّ على التَّشديد والتَّغليظ لنحوِ ما همَّ به الشَّارع مِن التَّحريق على مَن تخلَّف عن الجماعة بيوتَهم، وكذا ما رُوي عن أبيه، وقد صحَّ عنه أنَّه درأ الحدَّ عن رجلٍ وطئ غير امرأتِه وهو يظنُّها امرأتَه، وإذا بطَلَ الحدُّ بالجهالة فالتَّأويل أولى؛ لأنَّ المتأوِّل عند نفسه مصيبٌ وهو في معنى الجاهل.
          قال ابن حزمٍ: ومِن طريق ابنِ وَهْبٍ: أخبرني يزيدُ بن عِيَاضِ بن جُعْدُبَة، سَمِع نافعًا يقول: إنَّ رجلًا سأل ابن عُمَرَ عن التَّحليلِ، فقال له عبدُ الله: عرفتَ عُمَر، لو رأى شيئًا مِن ذلك لرجَمَ فيه. قال أبو محمَّد بن حزْمٍ: ابنُ جُعْدُبَةَ كذَّابٌ مذكورٌ بالوضْعِ.
          وعن عبد الرَّزَّاق، عن الثَّوريِّ، عن عبدالله بن شَريكٍ العَامِرِيِّ: سمعتُ ابنَ عُمَر يُسأَلُ عمَّن طلَّق امرأته ثمَّ ندم، فأراد رجلٌ أن يتزوَّجها يحلِّلُها له، فقال ابن عُمَر: كِلَاهما زانٍ ولو مكثا عشرين سنةً. قلتُ: وعبد الله ذكرَه ابن حبَّان في «ثقاته»، وكذا ابنُ شاهينٍ وابنُ خَلْفُون، وقال الدَّارقطنيُّ: لا بأس به. وقال أحمدُ: ما علمتُ به بأسًا. وقال يَعْقُوب بن سُفْيَان: ثقةٌ يميلُ إلى التَّشيُّع.
          ثمَّ قال: وعن وكيعٍ، عن أبي غسَّانَ المدَنِيِّ، عن عُمَرَ بن نافعٍ عن أبيه: أنَّ رجلًا سأل ابن عُمَر ☻ عمَّن طلَّق امرأتَه ثلاثًا، فتزوَّجها هذا السَّائلُ عن غير مؤامرةٍ منه: أَتَحِلُّ لمطلَّقها؟ قال ابن عُمَرَ: لا، إلَّا بنكاحِ رَغبةٍ، كُنَّا نعدُّ هذا سِفَاحًا على عهد رسول الله صلعم. قلتُ: رواته كلُّهم ثقاتٌ.
          ثمَّ قال: ومِن طريق ابنِ وَهْبٍ: أخبرني اللَّيثُ، عن محمَّد بن عبد الرَّحمن المُراديِّ أنَّه سمع أبا مروانَ التُّجِيِبيَّ يقول: إنَّ رجلًا طلَّق امرأتَه ثلاثًا، وكان له جارٌ فأرادَ أن يُحلِّل بينهما بغير علمِهما، فسألتُ عن ذلك فقال: لَا إلَّا نِكاح رغبةٍ في غير مُدَاهنةٍ.
          ومِن طريق عبد الرَّزَّاق، عن سُفْيَان ومَعْمَرٍ، عن الأعمش، عن مالكِ بن الحارثِ، عن ابن عبَّاسٍ: مَن يُخادِعْ الله يَخدَعْهُ. قلتُ: وصحَّ عن قَتَادَة وإبراهيمَ والحسنِ أنَّهم قالوا: إن نوى واحدٌ مِن النَّاكحِ أو المُنْكَحِ والمرأةِ التَّحليلَ فلا يصلُحُ، فإن طلَّقها فلا تحلُّ للَّذي طلَّقها ويُفرَّق بينهما إذا كان نِكَاحُه على وجه التَّحليل. وعن سعيد بن جُبيرٍ وابن المسيِّب وطاوسٍ: المُحَلِّلُ ملعونٌ.
          قلتُ: وروى ابن أبي شَيْبَة، عن هُشيمٍ، عن مغيرة عن إبراهيمَ، وعن يُونُسَ عن الحسن قالا: إذا همَّ أحدُ الثَّلاثة فَسَد النِّكاح. وحدَّثنا غُنْدَرٌ، عن شُعْبَة: سألتُ حمَّادًا عن رجلٍ تزوَّج امرأةً ليُحِلَّها لزوجها، فقال: أحبُّ إليَّ أن يُفَارقها. وحدَّثنا أبو داودَ، عن حَبيبٍ، عن عُمَرَ وعن جابر بن زيدٍ في رجلٍ تزوَّج امرأةً ليُحِلَّها لزوجها وهو لا يعلم، قال: لا يصلُحُ ذلك إذا كان تزوَّجها ليُحِلَّها. وحدَّثنا عائذُ بنُ حَبيبٍ، عن أشعثَ، عن ابن سِيرينَ قال: لُعِنَ الْمُحِلُّ وَالْمُحَلَّلُ. وحدَّثنا حُميد بن عبد الرَّحمن، حدَّثنا موسى بن أبي الفُرَاتِ، عن عَمْرِو بن دِينارٍ: أنَّ رجلًا طلَّق امرأته، فأخرج رجلٌ مِن ماله شيئًا يتزوَّجها به ليُحلَّها، فقال: لا، ثمَّ ذكر أنَّ النَّبيَّ صلعم سُئِلَ عن مِثْل ذلك فقال: ((لَا، حتَّى يَنْكِحَهَا مُرتَغِبًا لِنَفْسِهِ، حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا مُرتَغِبًا لِنَفسِه، وَإذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ)). وحدَّثنا معاذٌ، حدَّثنا عبَّاد بن منصورٍ: جاءَ رجلٌ إلى الحسن فقال: إنَّ رجلًا مِن قومي طلَّقَ امرأتَه ثلاثًا، فَنَدِمَ ونَدِمَت، فأردتُ أن أنطلقَ فأتزوَّجها لتَحِلَّ له، فقال له الحسنُ: اتَّقِ الله ولا تَكُنْ مِسْمَارًا لحدُودِ الله ╡.
          ثمَّ قال ابن حزمٍ: أمَّا احتجاج المالكيِّين بما ذكرنا فهو كلُّه عليهم لا لهم، أمَّا عُمَرُ فلم يأتِ عنه بيانُ مَن هو المُحلِّلُ الملعونُ الَّذي يستحقُّ الرَّجمَ، فليسوا أَوْلَى بهم مِن غيرهم، ثمَّ إنَّهم قد خالفوا عُمرَ في ذلك، فلا يرون فيه الرَّجم، على أنَّا رُوِّينا عن عُمَرَ إجازةَ طلاق التَّحليل فبطَلَ تعلُّقُهم به، وكذلك الرِّوايةُ عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ ليس فيها عنهما أيُّ المحلِّلين هو الملعونُ، ونحنُ نقول: إنَّ الملعون الَّذي يعقدُ نِكَاحُه معلَّقًا بذلك فقط، وأمَّا الحديثُ المرفوعُ: ((لَعَنَ الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ))، فهو حقٌّ إلَّا أنَّا وسائرَ خصومنا لا نختلفُ أنَّ هذا اللَّفظ منه ◙ ليس عامًّا لكلِّ مُحلٍّ، ولو كان كذلك _وأعوذ بالله_ كان كلُّ واهبٍ وكلُّ موهوبٍ له، وكلُّ بائعٍ وكلُّ مُبتاعٍ، وكلُّ ناكحٍ وكلُّ مُنْكِحٍ، داخلًا في هذا؛ لأنَّ هؤلاء كلُّهم محلُّون لشيءٍ كان حرامًا ومُحِلٌّ لهم أشياءَ كانت حرامًا عليهم، هذا ما لا شكَّ فيه، فصحَّ يقينًا أنَّه ◙ إنَّما أراد بعضَ المُحِلِّين وبعض المّحلَّل لهم.
          والعجبُ في المخالفين لنا يقولون فيمَن تزوَّج امرأةً وفي نيَّته أن لا يُمسِكَها إلَّا شهرًا ثمَّ يطلِّقَها إلَّا أنَّه لم يذكر ذلك في نَفْسِ العَقْدِ فإنَّه نكاحٌ صحيحٌ، وهو مخيَّرٌ، إن شاء طلَّقها وإن شاء أمسكَها، وأنَّه لو ذكر ذلك في نفس العَقْدِ لكان عَقْدًا فاسدًا مفسوخًا، فأيُّ فرقٍ بين ما أجازوه وبين ما منعوا منه؟ لا سيَّما وفي حديث رِفَاعَةَ ((أتُريدينَ أن تَرجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟))، فلم يَجْعَلْ إرَادَتَها الرُّجوع إلى الَّذي طلَّقها ثلاثًا مانعًا مِن رجوعِها إذا وَطِئَها الثَّاني، فصحَّ أنَّ المُحلَّ الملعون هو الَّذي تزوَّجها ليُحِلَّها ثمَّ يطلِّقَهَا ويعقدان النَّكاح على هذا، فهو حرامٌ مفسوخٌ أبدًا لأنَّهما تشارطا شرطًا يلتزمَانه، ليس في كتاب الله إباحةُ التزامه، فلو أخذ لذلك أجرةً فهي أجرةٌ حرامٌ وفرضٌ ردُّها. قال: ورُوِّينا عن الشَّعبيِّ أنَّه قال: لا بأس بالتَّحليل إذا لم يأمر به الزَّوجُ.
          قلتُ: وعند ابن أبي حاتمٍ مِن حديثِ مُوسى بن مُطَيرٍ عن أبيه، عن رجلٍ مِن الصَّحابة: أنَّ رجلًا طلَّق امرأتَه ثلاثًا ثمَّ تزوَّجَت زوجًا غيره ليُحِلَّها، فدخل بها الزَّوج الثَّاني وطلَّقها، فلمَّا انقضت عدَّتُها ذكروا ذلك لرسول الله صلعم لمَّا أرادَ زوجُها الأوَّل / أن يتزوَّجها، فقال: ((أليس سمَّى لها صَدَاقًا؟)) قالوا: بَلَى، قال: ((أَلَيْسَ تَزَوَّجَهَا بِوَلِيٍّ؟)) قالُوا: بَلَى، قال: ((أَلَيْسَ تَزَوَّجَهَا بِشُهُودٍ؟))، قالُوا بَلَى، قال: ((أَلَيْسَ قَدْ دَخَلَ بِهَا حَتَّى ذَاقَ عُسَيْلَتَهَا وَذَاقَتْ عُسَيْلَتَهُ؟))، قالُوا: بَلَى، فقال: ((ذَهَبَ الخِدَاعُ، ذَهَبَ الخِدَاعُ)). قال أبو زُرْعَة: هذا حديثٌ واهٍ ضعيفٌ باطلٌ، غير ثابتٍ ولا صحيحٍ، ولا أعلمُ خِلافًا بين أهل العِلْم بالحديث أنَّه حديثٌ واهٍ ضعيفٌ، ولا تقومُ بمثلهِ حجَّةٌ.
          قال ابن حزمٍ: وإلى قول الشَّعبيِّ ذهب الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ، وقال: المُحَلِّلُ الَّذي يَفسد نِكَاحُه هو الَّذي يعقد عليه في نَفْس عَقْد النِّكاح أنَّه إنَّما تزوَّجها لتحِلَّ ثمَّ يطلِّقها، وأمَّا مَن لم يشترط ذلك في العَقْد فهو صحيحٌ لا داخلةَ فيه، سواءٌ اشترطَ ذلك عليه قبلَ العَقْد أو لم يشترط، نوى ذلك في نفسه أو لم ينوِ، قال أبو ثورٍ: وهو مأجورٌ بذلك. وأمَّا أبو حنيفةَ وأصحابُه، فروى بِشْرُ بنُ الوليد، عن أبي يُوسُفَ، عن أبي حنيفةَ مثلَ قول الشَّافعيِّ سواءً، وروى أيضًا عن محمَّد عن يَعْقُوبَ، عن أبي حنيفةَ أنَّه: إذا نوى الثَّاني تحليلَها للأوَّل لم تحِلَّ له بذلك، وهو قول أبي يُوسُفَ ومحمَّدٍ. وروى الحسنُ بن زِيَادٍ، عن زُفَرَ، عن أبي حنيفة أنَّه وإن اشترط عليه في نفس العَقْدِ أنَّه إنَّما تزوَّجها ليُحِلَّها للأوَّل فإنَّه نكاحٌ صحيحٌ ويُحْصَنان به ويَبطُلُ الشَّرطُ، وله أن يُمسِكَها، فإن طلَّقَها حلَّت للأوَّل.
          وفي «القُنيَة»: إذا أتاها الزَّوجُ الثَّاني في دُبُرها لا تَحِلُّ للأوَّل، وإن أولَجَ في مكان البَكَارة حلَّت للأوَّل، والموتُ لا يقوم مقامَ التَّحليل وكذا الخَلْوة.
          فَصْلٌ: تعلَّق بحديث تَمِيمةَ بنت وَهْبٍ زوجِ رِفَاعَةَ _كما قال أبو عُمَر_ قومٌ شذُّوا عن طريق السَّلف والخَلَف مِن العلماء في تأجيل العِنِّين فأبطلوه، منهم: ابنُ عُليَّة وداودُ، وقالوا: قد شَكَت لرسول الله صلعم أنَّ زوجَها ليس معه إلَّا مثلُ هُدْبَةِ الثَّوب _وهي طرفُه وحاشيتُهُ_ فلم يُؤجِّله، ولا حالَ بينه وبينها. قالوا: وهو مرضٌ مِن الأمراض لا قيام للمرأة به، فخالفوا جماعةَ الفقهاء والصَّحابة برأيٍ متوهَّمٍ، وتركوا النَّظرَ المؤدِّي إلى المعرفة بأنَّ البُغيَةَ مِن النِّكَاح الوطءُ وابتغاءُ النَّسل، وأنَّ حكمَها في ذلك كحُكمِه لو وجدَها رَتْقَاءَ، وإذا صحَّ طلاقُ عبد الرَّحمن لتَمِيمةَ بطَلَت النُّكتَةُ الَّتي فرَّعوا عليها، وقد قضى بتأجيل العِنِّين عُمَرُ وعُثْمَانُ والمغيرةُ بن شُعْبةَ.
          فَصْلٌ: سواءٌ في زواج المرأة بالثَّاني قويُّ النِّكاح وضعيفُه _كما قال أبو عُمَر_ والصَّبيُّ الَّذي يطأُ مثلُه، والمراهِقُ والمَجنونُ والخَصِيُّ الَّذي بقي معه ما يُغَيِّبه في الفرج، يُحِلِّون المطلَّقةَ لزوجِها، وتحِلُّ الذِّميَّة لمسلمٍ بوطء زوجٍ ذميٍّ لها بنكاحٍ صحيحٍ، وكذا لو أصابَها مُحرِمةً أو حائضًا أو صائمةً ولكنَّه يعصي.
          وذهب ابن الماجِشُون وطائفةٌ مِن أهل المدينة مِن أصحاب مالكٍ وغيرِهم إلى قول أبي حنيفة، فإن تزوَّجها وشرط التَّحليل فالشَّافعيُّ يرى أنَّه ضربٌ مِن المُتعَة، فإن تزوَّجها تزويجًا مُطلَقًا إلَّا أنَّه نواه، فله قولان، أحدُهما كقول مالكٍ، والآخر كقول أبي حنيفةَ، ولم يختلف قولُه في الجديد أنَّ النِّكاح صحيحٌ إذا لم يشترط في العَقْد.
          فَصْلٌ مُنعطِفٌ على ما مضى:
          ذكر ابنُ المنذر في «الإجماع» أنَّهم أجمعوا أنَّه مَن طلَّق زوجتَه المدخول بها طلاقًا يملِكُ رَجْعَتَها وهو مريضٌ أو صحيحٌ، فمات أو ماتت قبل أن تنقضي عدَّتُها أنَّهما يتوارثان، وأنَّ مَن طلَّق زوجتَه وهو صحيحٌ كلَّ قُرءٍ طلقةً ثمَّ مات أحدُهما ألَّا ميراثَ للحيِّ منهما مِن الميِّتِ. قال ابنُ المُرَابِطِ: لم يختلف أحدٌ أنَّ طلاقَ المريض جائزٌ ونافِذٌ عليه، وإنَّما وَرِثَتْ منه لهربِه بالميراث عنها في العلَّة، وكذا حكمُ كلِّ هاربٍ مِن الشَّرائع والأحكام.
          تَنْبِيهاتٌ تقدَّمت لا بأس بذكرها:
          لا بِدعةَ عندنا في جمع الثَّلاث خِلافًا له كما سلف، وأجاز ابنُ مسعودٍ تفريقَها على الأقراء، وبه أخذ أبو حنيفة وأشهبُ، وإذا أوقع الثَّلاثَ بكلمةٍ وَقَعَت خِلافًا لداودَ ولبعضِهم حيث قال: تقع واحدةً، وعند مالكٍ في طلاق الفَّارِّ في مرض الموت: تَرِثُ وإن تزوَّجت أزواجًا، وولدَت أولادًا خِلافًا للشَّافعيِّ.
          فَصْلٌ: وقول عُوَيْمرٍ: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ...) إلى آخره، دالٌّ على وجوب قتْلِ مَن قتَلَ رجلًا وادَّعى أنَّه وجدَه مع امرأته، وبه قال عامَّة فقهاء الأمصار.
          وقوله: ((قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ)) دالٌّ أنَّه أوَّلُ لِعَانٍ نزل فيه ذلك، وقد سلف الخُلفُ فيه وفي لِعَانِ هِلال بن أُميَّةَ.