التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اللعان

          ░25▒ (بَابُ اللِّعَانِ، وَقَوْلِ اللهِ ╡: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ...} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6].
          فَإِذَا قَذَفَ الأَخْرَسُ امْرَأَتَهُ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِإِيْمَاءٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ كَالْمُتَكَلِّمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَدْ أَجَازَ الْإِشَارَةَ فِي الْفَرَائِضِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأْهِلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]: إِشَارَةً. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الطَّلَاقَ بِكِتَابٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ إِيْمَاءٍ جائزٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ فَرْقٌ، فَإِنْ قَالَ: القَذْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْكَلَامِ، قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ الطَّلَاقُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْكَلَامِ، وَإِلَّا بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْقَذْفُ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ يُلَاعِنُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، تَبِيْنُ مِنْهُ بِإِشَارَتِهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيْمُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ الطَّلَاقَ بِيَدِهِ لَزِمَهُ، وَقَالَ حَمَّادٌ: الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ إِنْ قَالَ بِرَأْسِهِ جَازَ).
          الشرح: اللِّعانُ مصدرُ لَاعَنَ يُلَاعِنُ لِعَانًا، وإطلاقُ اللِّعان في جانب المرأة مِن مجاز التَّغليب، فإنَّ الغضبَ أشدُّ مِن اللَّعن؛ لأنَّ اللَّعنَ الإبعاد، وقد يبعُد مَن لا يغضبُ عليه، وهو مشتقٌ مِن اللَّعن: وهو الطَّردُ والإبعادُ، لبُعدهما مِن الرَّحمة، أو لبُعْدِ كلٍّ منهما عن الآخر فلا يجتمعان أبدًا، والمغلَّب على اللِّعان حكمُ اليمين عندنا على الأصحِّ.
          وهو في الشرع: كلماتٌ معلومةٌ جُعلت حُجَّةً للمُضَطرِّ إلى قذْفِ مَن لُطخ فراشُه وأُلحقَ به العار، والأصل فيه الآية المذكورة بطولها، نزلت في شَعْبانَ سنةَ تسعٍ في عُوَيمرٍ العَجْلَانيِّ مُنْصَرفَهُ مِن تَبُوكَ، أو في هلالِ بن أُمَيَّة، وعليه الجمهور، وخالفَ ابنُ أبي صُفْرَةَ فقال: إنَّه خطأٌ، وإنَّما هو عُوَيمِرٌ، قال: وأظنُّ الغلطَ فيه من هِشَام بن حسَّانَ، وكذا قاله الطَّبريُّ، ولعلَّهُما تقاربتا فنزل فيهما أو تكرَّر النُّزول ورماها عُويمر بن الحارثِ بن زيدِ بن الجدِّ بن العَجْلَان الأُحُدِيُّ بِشَريكِ بن السَّحمَاءِ _وهي أُمُّه قيل لها ذلك لسوادها_ قاله ابن المنذر، وقال غيره: هي بنت عبد الله اللُّتْبِيَّة، وقال آخرون: هي يمانيَّةٌ، وهو شَرِيكُ بن عبد الله بن مُغِيثِ بن الجدِّ بن العَجْلانِ، ولم يكن بالمدينة بعدَ رسول الله صلعم لعانٌ إلَّا في أيَّام عُمَر بن عبد العزيز. وليس لنا يمينٌ متعددةٌ إلَّا هو والقَسَامة، ولا يمينَ في جانب المدَّعي إلَّا فيهما.
          وقد اختلف العلماء في لِعَان الأخرس، فقال الشَّافعيُّ ومالكٌ وأبو ثورٍ: يلاعِنُ الأخرسُ إذا عَقَل الإشارةَ وفهم الكتابةَ وعُلِم ما يقوله وفُهم، وكذلك الخرساء تُلاعِن أيضًا بالكتاب. وقال الكوفيُّون: لا يصحُّ قذفُه ولا لِعَانُه، فإذا قذَفَ الأخرسُ امرأتَه بإشارةٍ لم يُحدَّ ولم يُلاعَن، وكذلك لو قذَفَ بكتابٍ، ورُوي مثلُه عن الشَّعبيِّ، وبه قال الأوزاعيُّ وأحمد وإسحاقُ، واحتجُّوا / بأنَّ هذه المسألةَ مبنيَّةٌ لهم على أصلٍ، وهو أنَّ صِحَّة القذفِ تتعلَّق بصريح الزِّنا دونَ معناه، أَلَا ترى أنَّ مَن قذفَ آخر فقال له: قد وطئتَ وطأً حرامًا، أو وطئت بلا شُبهةٍ لم يكن قاذفًا، فإن أتى بمعنى الزِّنا كان قاذفًا، فبان أنَّ المعتبَرَ في هذا الباب صريح اللَّفظ، وهذا المعنى لا يحصلُ مِن الأخرس ضرورةً، فلم يكن قاذفًا ولا يتميَّزُ بالإشارة الزِّنا مِن الوطء الحلال والشُّبهة، وأيضًا فإنَّ إشارتَه لَمَّا تضمَّنت وجهين لم يَجُز إيجابَ الحدِّ بها كالكتابة والتَّعريض.
          قالوا: واللِّعان عندنا شهادةٌ، وشهادةُ الأخرس عندنا لا تُقبل بالإجماع، وردَّ بالمنع فهو باطلٌ كسائر الألسنة ما عدا العربيَّة فإنَّها كلُّها قائمةٌ مقامها، ويصحُّ بكلِّ واحدٍ منها القذف، فكذلك إشارة الأخرس.
          وقولُهم: إنَّه لا يتميَّز بالإشارة الزِّنا مِن الوطء الحلال والشُّبهة باطلٌ، إذا أقرَّ بقتلٍ عَمْدٍ فإنَّه مقبولٌ منه بالإشارة، وصورتُه غير صورة قتْلِ الخطأ، وما حكوه مِن الإجماع في شهادته غلطٌ، وقد نصَّ مالكٌ أنَّ شهادته مقبولةٌ إذا فُهمت إشارته، وإنَّما تقوم مقامَ اللَّفظ في الشَّهادة، وأمَّا مع القُدْرة فلا تقع منه إلَّا باللَّفظ، وعلى أنَّهم يصحِّحون لِعَان الأعمى ولا يُجِيزون شهادته، فقد فرَّقوا بينهما، ولأنَّ إشارته إذا فُهمت قامت مقامَ النُّطق بما احتجَّ به البخاريُّ مِن الإشارة في الآية، فعرفوا بإشارتها ما يعرفون مِن نطقها، وبقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]، أي إيماءً وإشارةً، فلولا أنَّه يُفهم منها ما يُفهم مِن النُّطق لم يقل تعالى: ألَّا تُكلِّمه إلَّا رمزًا، فجعل الرَّمزَ كلامًا.
          وأيضًا فإنَّه ◙ كبَّر للصَّلاة وذكر أنَّه لم يَغْتَسل، فأشار إليهم أن اثبتوا مكانَكم، وكذلك أشار إلى الصِّدِّيق في الصَّلاة، والأحاديث فيه أكثرُ مِن أن تُحصَر.
          وصحَّ أنَّه يَعْقِل مِن الإشارة ما يَعْقِل مِن النُّطق، وقد تكون الإشارة في كثيرٍ من أبواب الفقه أقوى مِن الكلام مثل قوله ◙: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ))، ومتى كان يبلُغُ البيان ما بَلَغَت إليه الإشارة والإعراب بما بينهما بمقدار زيادة الوُسْطى على السَّبَّابة، والمراد أنَّ ما بيني وبين السَّاعة مِن مستقبل الزَّمان بالقياس إلى ما مضى منه مِقْدارُ فَضْل الوُسْطى على السَّبَّابة، ولو كان أراد غيرَ هذا لكان قيام السَّاعة مع بعثه في زمنٍ واحدٍ، وقيل: معناه أنَّه ليس بينه وبين السَّاعة أمَّةٌ غير أُمَّته.
          وفي إجماع العقول على أنَّ العَيان أقوى مِن الخبر دليلٌ أنَّ الإشارةَ قد تكون في بعض المواضع أقوى مِن الكلام، قال ابنُ المنذر: والمخالفون يُلْزمون الأخرسَ الطَّلاقَ والبُيوعَ وسائرَ الأحكام، فينبغي أن يكون القَذْفُ مثل ذلك، واتَّفق مالكٌ والكوفيُّون والشَّافعيُّ أنَّ الأخرسَ إذا كتب الطَّلاق بيده لَزِمَه، وقال الكوفيُّون: إذا كان الرَّجلُ أُصْمِتَ أيَّامًا فكتَبَ لم يَجُز مِن ذلك شيءٌ.
          قال الطَّحاويُّ: الخَرَسُ مُخَالفٌ للصَّمت، كما أنَّ العَجْزَ عن الجِمَاع العارضِ بالمرض ونحوه يومًا أو نحوه مخالفٌ للعجز المأيوس منه الجِمَاع، نحو الجنون في باب خِيَار المرأة في الفُرْقَة. قال المهلَّب: وأمَّا الأصمُّ فإنَّ في أمرِه بعضُ إشكالٍ ولكن قد يستبرئ إشكالُ أمره بترداد الإشارة على الشَّيء حتَّى يرتفع الإشكال، فإذا فُهِم عنه ذلك جاز جميعُ ما أشار به، وأمَّا المتكلِّم فإذا كتب الطَّلاقَ بيده فله أن يقول: إنَّما كتبتُ مراوضًا لنفسي لأستخير الله في إنفاذه؛ لأنَّ لي درجةً في البيان بلساني هي غايتي فلا يُحَال بيني وبين غاية ما لي مِن البيان، والأخرسُ لا غاية له إلَّا الإشارة.
          ثمَّ ذكر البخاريُّ في الباب أحاديثَ دالَّةً على ما ذكَرَه مِن الإشارة:
          5300- أحدُها: حديث يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ عن أنسٍ: قال النَّبيُّ صلعم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ؟...) الحديث.
          ولمَّا رواه التِّرمذيُّ مِن حديثِ قَتَادَة عن أنسٍ قال: عن أبي أُسيدٍ السَّاعديِّ ثمَّ قال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، فعلى هذا حديثُ أنسٍ مرسلٌ.
          5301- ثانيها: حديث سَهْل بن سَعْدٍ السَّاعديِّ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ، أَوْ كَهَاتَيْنِ، وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى).
          5302- ثالثها: حديث ابن عُمَر السَّالف في الصَّوم [خ¦1900]: (الشَّهْرُ هَكَذَا...) إلى آخره.
          5303- رابعها: حديث أبي مسعودٍ عُقْبةَ بن عَمْرٍو: (أَشَارَ النَّبِيُّ صلعم بِيَدِهِ نَحْوُ الْيَمَنِ: الْإِيْمَانُ هَاهُنَا مَرَّتَيْنِ، أَلَا وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِيْنَ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ).
          5304- خامسها: حديث سَهْلٍ قال: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا).
          وقد ظهر لك أنَّ المرادَ ببعض النَّاس أبو حنيفة، وخالفَه مالكٌ والشَّافعيُّ، واحتجاجُ البخاريِّ عليه بيِّنٌ، ومَن اعتلَّ له بأنَّ الحدودَ تُدرَأُ بالشُّبهات فليس ببيِّنٍ؛ لأنَّ هذا لا شُبهة فيه إذا كان يَعْقِل الإشارةَ ويَعْلمُ ما يقوله، وقول الشَّعبيِّ وقَتَادَة: إذا قال: أنتِ طالقٌ، وأشار بأصابعه تَبِينُ منه بإشارته، يريد أنَّه أشار بثلاثة أصابعٍ، فكأنَّه عبَّر عن نيَّته بما أشار به بأصابعه.
          وقولُ إبراهيمَ في الكتابة سلفَ أنَّه لم يفتقر في غير الأخرس إلى نيَّةٍ، ويقع الطَّلاقُ بنفس الكتابة إذا كان عازمًا وإن لم يُخرِج الكتابَ من يده، وإن كتبه لينظرَ في ذلك فإن أخرجَه عن يده بقي على ذلك.
          واختُلِف إذا أخرج الكتابَ عن يده ولم يُعلَم هل كان عزَمَ أم لا؟ فقال ابن القاسم في «المدوَّنة»: له أن يردَّه ما لم يبلُغها الكتاب، وقال محمَّدٌ: ذلك له ما لم يخرج الكتاب عن يده، ويحلف فإنْ خرجَ عن يده كان كالنُّطقِ به والإشهادِ، قاله مالك، وسواءٌ كان الكتاب: أنتِ طالقٌ، أو: إذا جاءكِ كتابي فأنتِ طالقٌ، ولا ينوي إذا خرج الكتاب مِن يده وإن لم يَصِل إليها.
          فَصْلٌ: الفَدَّادُونَ جمع فَدَّادٍ، وهو الشَّديد الصَّوت مِن الفَدِيد، وذلك مِن دأب / أصحابِ الإبل ومَن يُعَالجها مِن أهلها، هذا على رواية تشديد الدَّال، وزنه فَعَّالًا، عينُه دالٌ ولامُه دالٌ مِن فدَّ يفدُّ إذا رفع صوته، فجمعُه فعَّالون، وقيل: هو جمع فَدَّانٍ، وهو آلة الحَرْث والسِّكَّة وأعوادُه على رواية التَّخفيف، يريد أهلَ الحرث، وإنَّما ذمَّ ذلك لأنَّه يشتغل عن أمر الدِّين ويُلهى عن الآخرة، فيكون معها قساوةُ القلب، فالجمع على الأوَّل فعَّالين الياء والنُّون زائدتان، الياء حرف إعراب والنُّون مفتوحةٌ عِوَضٌ مِن الحركة والتَّنوين عند أكثر النُّحاة، وعلى الثَّاني جمعُه فعاليل، النُّون منه مِن نفس الكلمة، وهي لامه، وهي مكسورةٌ لأجل حرف الجرِّ.
          وقال أبو عبدِ اللهِ القزَّاز: (الْفَدَّادِيْنَ) مِن أهل الوَبَرِ أصحاب الإبل الَّذين تبلُغُ إبلَ أحدهم المائتين فأكثر إلى الألف، فإذا بلَغَ ماله ذلك فهو فَدَّادٌ، وهم مع ذلك جُفَاةٌ ذوو إعجابٍ بأنفسهم. وقال ابن فارسٍ: هم أهلُ الحرْثُ والمواشِي.
          فَصْلٌ: وقوله: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا) يريد أنَّ منزلتَه قريبٌ مِن منزلته ليس بينهما منزلةٌ.