التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام

          ░7▒ (بَابُ مَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.
          قَالَ الحَسَنُ: نِيَّتُهُ) هذا ذكره عبد الرَّزَّاق، عن مَعْمَرٍ، عن عَمْرٍو عنه قال: إذا نوى طلاقها فهو طلاقٌ، وإلَّا فهو يَمينٌ، وهو قول ابن مسعودٍ وابن عُمَر.
          ثمَّ قال: (وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَسَمَّوهُ حَرَامًا بِالطَّلَاقِ وَالْفِرَاقَ، وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لِطَعَامِ الْحِلِّ حَرَامٌ، وَيُقَالُ لِلْمُطَلَّقَةِ حَرَامٌ)، وسيأتي بيانُ ما ذكرَه.
          (وَقَالَ تَعَالَى فِي الطَّلَاقِ ثَلَاثًا: {لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]).
          5264- وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: (كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا، قَالَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَنِي بِهَذَا، فَإِنْ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ).
          هذا التَّعليق أخرجه مُسْلمٌ عن يحيى وغيره، عن اللَّيثِ.
          وقوله: إنَّه (أَمَرَنِي بِهَذَا) إشارةٌ إلى أمرِه بالمراجعة لأجل الحيض، وإن طلقت ثلاثًا لم تكن لك مراجعةٌ لأنَّها لا تحلُّ لك إلَّا بعد زوجٍ، وكذا جاء مفسرًا في روايةٍ أخرى كما نبَّه عليه القُرْطبيُّ، وأمَّا روايةُ مَن روى عن ابن عُمَر: طلَّق ثلاثًا، فوَهَمٌ، وكأنَّ البخاريَّ أراد بإيراد هذا أنَّ فيه لفظة: حرُمت عليك، وإلَّا فلا مناسبةَ له في الباب.
          وفي قوله: (مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) دلالةٌ على أنَّه لا بِدعةَ في ذلك.
          5265- ثمَّ ذكر حديثَ عَائِشَة ♦ في ذوق العُسَيلَةِ، ولعلَّه أوردَهُ لأنَّه فيه: (لَا تَحِلِّينَ لِزَوْجِكِ الأَوَّلِ)، وقد سلف [خ¦5260].
          وقولُها: (لَمْ يَقْرَبْنِي إِلَّا هَنَةً وَاحِدَةً) أي لم يطأها إلَّا مرَّةً، يقال: هَنَى، بمعنى أتى إذا غَشِيَ امرأتَه، يقولون: ذهبت فهنت، كنايةً عن الجماعة.
          وقد أسلفنا مذاهبَ العلماء فيمَن قال لامرأته: أنت عليَّ حرامٌ، في سورة التَّحريم، ووصلناها إلى أربعة عشر مذهبًا، واقتصر ابن بطَّالٍ منها على ثمانية أقوالٍ سوى اختلاف قول مالكٍ:
          قالت طائفةٌ: هي ثلاث، ولا يُسئَل عن نيَّته، رُوي عن عليٍّ وزيد بن ثابتٍ وابن عُمَر، وبه قال الحسنُ البصريُّ في رواية، والحكم بن عُتَيْبَةَ وابن أبي ليلى ومالكٌ، ورُوي عن مالكٍ وأكثر أصحابه فيمَن قال لامرأته قبل الدُّخول ذلك أنَّها ثلاثٌ، إلَّا أن يقول: نويت واحدةً. وقال عبد العزيز بن أبي سَلَمَة: هي واحدةٌ إلَّا أن يقول: أردتُ ثلاثًا. وقال عبد الملك: لا ينوي فيها، وهي ثلاثٌ على كلِّ حالٍ كالمدخول بها. وقال سُفْيَان: إن نوى ثلاثًا فثلاثٌ، وإن نوى واحدةً فواحدة بائنةٌ، وإن نوى يمينًا فهو يمينٌ يُكفِّرُها، وإن لم ينوِ فُرقةً ولا يمينًا فهي كِذبةٌ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابُه، غير أنَّهم قالوا: إن نوى اثنتين فهي واحدةٌ، فإن لم ينو طلاقًا فهو يمينٌ، وهو مُوْلٍ. وقال ابن مسعودٍ: إن نوى طلاقًا فهي تطليقةٌ وهو أملك بها، وإن لم ينوِ طلاقًا فهي يمينٌ يُكفِّرها، وعن ابنِ عُمَرَ مثلَه، وبه قال النَّخَعيُّ وطَاوُسٌ.
          وقال الشَّافعيُّ: ليس قوله: أنت حرامٌ، بطلاقٍ حتَّى ينويه، فإذا أراد الطَّلاق فهو ما أراد مِن الطَّلاق، وإن قال: أردت تحريمًا بلا طلاقٍ، كان عليه كفَّارةُ يمينٍ، قال: وليس بمُولٍ. وقال ابن عبَّاسٍ: يلزمُه كفَّارة ظِهَارٍ، وهو قول أبي قِلَابَةَ وسعيد بن جُبَيرٍ، وبه قال أحمد، واحتجَّ ابن عبَّاسٍ بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ...} الآية [التحريم:1]، ثمَّ قال: عليه أغلظُ الكفَّارات، عِتق رقبةٍ. وقيل: إنَّها يمينٌ تُكَفَّر، رُوي عن الصِّديق وعُمَر وابن مسعودٍ وعَائِشَة وابن عبَّاسٍ وسعيد بن المسيِّب وعطاءٍ وطاوسٍ وجماعةٍ، وبه قال الأوزاعيُّ وأبو ثَورٍ، واحتجَّ أبو ثَورٍ بأنَّ الحرامَ ليس مِن ألفاظ الطَّلاق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ...} الآية [التحريم:1] ولم يُوجِب به طلاقًا، وكان حرَّم على نفسه مَاريَّة، ثمَّ قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2].
          وقيل: لا شيء فيه ولا كفَّارة لتحريم الماء لقوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة:87] رُوي عن الشَّعبيِّ ومسروقٍ وأبي سَلَمَة، قال مسروقٌ: ما أُبالي حَرَّمتُ امرأَتي أو جَفنَةً من ثَرِيدٍ، وقال الشَّعبيُّ: أنت عليَّ حرامٌ أهونُ مِن نَعْلي، وقال / أبو سَلَمَة: ما أُبالي، حرَّمتُها أو حرَّمتُ الفراتَ، وهو شذوذٌ كما قال ابنُ بطَّالٍ، وعليه بوَّب البخاريُّ هذا الباب، وذهب إلى مَن حرَّم زوجتَه أنَّها ثلاثٌ، كإجماع العلماء على مثله في الطَّلاق الثَّلاث، وإليه أشار البخاريُّ في حديث رِفَاعَةَ لأنَّه بتَّ طلاقَها، فلم تحِلَّ له إلَّا بعد زوجٍ فحَرُمَت عليه مراجعتُها، فكذلك مَن حرَّم، ومَن قال: تلزمه كفَّارة الظِّهار، فليس بالبيِّن؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما جعل كفَّارة الظِّهار للمُظاهِر خاصَّةً، وقال الطَّحاويُّ: مَن قال: تلزمه كفَّارة الظِّهار كان محمولًا على أنَّه إن أراد الظِّهارَ كان ظِهارًا، وإن أراد اليمين كان يمينًا مُغلَّظةً على ترتيب كفَّارة الظِّهار: عتق رقبةٍ، أو صيام شهرين مُتَتَابعين، أو إطعام سِتِّين مسكينًا، وقال أبو حنيفة وأبو يُوسُف ومحمَّدٌ: لا يكون ظِهارًا وإن أراده.
          وأمَّا قول الحسن: لَهُ (نِيَّتُهُ) فهي روايةٌ أخرى، ذكرها عبد الرَّزَّاق كما سلف.