التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اللعان، ومن طلق بعد اللعان

          ░29▒ (بَابُ اللِّعَانِ وَمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ اللِّعَانِ)
          5308- ذكر فيه حديثَ سهلِ بن سعدٍ السَّاعديِّ ☺: (أَنَّ عُوَيْمِرًا العَجْلَانِيَّ جَاءَ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ لَهُ: يَا عَاصِمُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا؟...) الحديث بطوله، وفي آخره: (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلعم، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وكَانَتْ سُنَّةَ المُتَلَاعِنَيْنِ).
          قد أسلفنا قريبًا عن الجمهور أن آية اللِّعان نزلت في عُويمرٍ عند الجمهور، وأنَّ ابنَ أبي صُفرةَ خالف فيه وَتَبِعَهُ الطَّبريُّ حيث قال: يُستنكر قولُه في الحديث: هلال بن أُميَّة، وإنَما القاذف عُوَيمرٌ، وقد أسلفنا الجمعَ، وقصَّةُ هلالٍ وقذْفُهِ زوجتَه بِشَريكٍ سلفت في الشَّهادات [خ¦2671] والتّفسيرِ [خ¦4745] مِن هذا الصَّحيح كما مرَّ بك.
          وفي «صحيح مُسْلمٍ» مِن حديثِ أنسٍ: أنَّ هلالَ بنَ أُميَّةَ قذف امرأتَهُ بشَرِيك بن سَحْمَاءَ فَتَلاعَنا، وذلك أوَّلُ لِعَانٍ كان في الإسلام.
          ودعوى المهلَّب أظنُّه غلطًا من هِشَامٍ غير جيِّدٍ، فإنَّ التِّرمذيَّ لمَّا ذكرَه قال: سألتُ محمَّدًا عنه وقلتُ: روى عبَّادُ بن منصورٍ هذا الخبر عن عِكْرِمةَ عن ابن عبَّاسٍ مثلَ حديث هِشَامٍ، وروى أيُّوبُ عن عِكْرمةَ: أنَّ هلالَ بنَ أُميَّة... مرسلًا، فأيُّ الرَّوايات أصحُّ؟ قال: حديثُ عِكْرمةَ عن ابن عبَّاسٍ هو محفوظٌ، ورآه حديثًا صحيحًا.
          قلتُ: وحديث عبَّادٍ أخرجه أبو داود، وفيه: فنزلت آيةُ اللِّعان، فقال: ((أَبشِرْ يا هِلالُ))، وسُئِلَ أحمد فقال فيما حكاه الخلَّال عنه: حديثُ عبَّادٍ منكرٌ، قال مُهنَّا: فقلتُ: أَيْش مِن مُنكرَاته؟ فقال: حديث المتلاعِنَين كان يقول: عن عِكْرمَةَ، ثمَّ جعله عن ابن عبَّاسٍ. قال أحمدُ: وكان يحيى بن سَعِيدٍ يقول: كان عبَّادٌ يحدِّث بحديثِه هذا مرسَلًا ليس فيه ابنُ عبَّاسٍ ولا النَّبيُّ صلعم، ومرادُه أنَّه ◙ لاعَنَ بالحَمْل، فإنَّه لمَّا ذكره بعدَ كلامه الأوَّل قال: هو باطلٌ، إنَّما قال: ((إنْ جاءَتْ بِه كذا وكذا))، قال أحمد: أخبرناه محمَّدٌ، حدَّثنا وكيعٌ قال: وبلغني أنَّ ابنَ أبي شَيْبَة أخرجه في كتابه أنَّه ◙ لاعَنَ بالحَمْل، وهذا خطأٌ بيِّنٌ، وجعل يتعجَّب مِن إخراجه ومِن خطئه في هذا، ثمَّ قال: إنَّما الأحاديث الَّتي جاءت عنه أنَّه قال: ((لعلَّه أَنْ تَجِيءَ بِهِ كَذَا وكَذَا، فإنْ جَاءَتْ به كَذَا وكَذَا فهُو كَذَا)).
          وروى ابنُ مَرْدَوَيهِ في «تفسيره» عن أبي الرَّبيع عن حمَّادِ بن زيدٍ، عن أيُّوب، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ ☻: لمَّا نزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] قال سعدُ بن عُبَادةَ: يا رسولَ الله، إن أنا رأيتُ لَكَاعِ قد تفخَّذها رجلٌ فلا أجمعُ الأربعة حتَّى يقضيَ منها حاجَتَه، فابتُلِي ابن عمِّه هلالُ بنُ أُميَّة... الحديث.
          ثمَّ ساق بإسناده عن عَطَاءٍ وعِكْرمةَ، عن عبد الله: أنَّ النَّبيَّ صلعم فرَّق بين هلال بن أميَّةَ وبين امرأته بعد المُلاعَنةِ، ومِن حديثِ عاصم بن حبيبٍ، عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلعم فقَذَفَ امرأتَه فقال: ((أَلَكَ بيِّنةٌ؟)) فقال: لا، فنزلت آية الملاعنَةِ.
          قال ابنُ أبي صُفرةَ: وممَّا يدلُّ على أنَّها قصَّةٌ واحدةٌ توقُّفُ الشَّارع فيها حتَّى نزلت الآية، ولو كانت مُتَعددةً لم يتوقَّف عن الحكم فيها، ولحَكَمَ في الثَّانية بما أُنزل في الأُولى، وقد أسلفنا قُرْب نزولهما. وكذا قال الخطيب الحافظ: إسنادُ كلٍّ مِن القصَّتين صحيحٌ، ولعلَّهما اتَّفقَ كونُهما كانا معًا في وقتٍ واحدٍ أو في مَقَامين، فنزلت الآية في تلك الحال، لا سيَّما وفي حديث عُويمرٍ: (فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلعم الْمَسَائِلَ)، يدلُّ على أنَّه كان سبق بالمسألة مع ما رُوي في حديث جابرٍ أنَّه قال: ما نزلت آيةُ اللِّعَانِ إلَّا لكثرة السُّؤال.
          وتَبِع ابنُ التِّين ابنَ أبي صُفرة والطَّبريَّ وقال: إنَّه الصَّحيح، ونقله المَاوَرْدِيُّ في «حاويه» عن الأكثرين، وأنَّ قصَّته أسبقُ مِن قصَّة عُويمرٍ.
          وقال ابنُ الصَّبَّاغ أيضًا في «شامله»: قصَّة هلالٍ تُبيِّن أنَّ الآية نزلت فيه أوَّلًا، وقوله لِعُوَيمرٍ: (قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ) يعني ما نزل في قصَّة هلالٍ؛ لأنَّ ذلك حكمٌ عامٌ لجميع النَّاس. قال ابن أبي صُفرة: وقد روى ابن القاسم عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ العَجْلَانيَّ قذفَ امرأتَه كما روى ابنُ عُمَر وسهل بن سعدٍ، وأظنُّه غلطٌ مِن هِشَام بن حسَّانَ، وقد سلف ما فيه.
          وفي مُسْلمٍ مِن حديثِ اللَّيث بن سعدٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عبد الرَّحمن بن القاسم عن أبيه، عن ابن عبَّاسٍ قال: ذُكِر التَّلاعُنُ عندَ رسول الله صلعم، فقال عاصِمُ بن عَدِيٍّ في ذلك قولًا ثمَّ انصرفَ، فأتاه رجلٌ يشكو إليه أنَّه وجدَ مع امرأته رجلًا... الحديث. فهذه الرِّاوية الصَّحيحة عن ابن عبَّاسٍ ليس فيها معارضةٌ لِمَا رواه هِشَامٌ، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ هلالًا قذفَ امرأتَه بِشَريكٍ، لأنَّه روى القصَّتين جميعًا، فروى لعِكْرمة قصَّة هلالٍ أنَّه قذف امرأتَه بِشَريكٍ، وروى القاسمُ بن محمَّدٍ قصَّةَ عاصمٍ ولم يُعيِّن فيها المقذوف، ويتأيَّد حديثُ هِشَامٍ بما أسلفناه.
          وروى الشَّافعيُّ عن إبراهيمَ بن سعدٍ عن أبيه، عن ابن المسيِّب وعبيد الله بن عبد الله: أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إِنْ جَاءَتْ بِه أشقرَ _وفي روايةٍ: أمْعَرَ_ سَبِطًا فهو لزَوجِها، وإنْ جَاءَتْ بِهِ أَدْعَجَ جَعْدًا فهو للَّذي يتَّهِمُه))، قال: فجاءت به أدْعَجَ.
          فَصْلٌ: قال الشَّافعيُّ: في حديث ابنِ أبي ذئبٍ دليلٌ / على أنَّ سهلَ بن سعدٍ قال: فكانت سُنَّة المُتَلَاعِنَيْنِ. وفي حديث مالكٍ وإبراهيم بن سَعْدٍ كأنَّه قولُ ابن شهابٍ، وقد يكون هذا غير مختلفٍ، بقوله مرَّةً ابن شِهَابٍ ولا يذكر سَهْلًا، وبقوله مرَّةً أخرى ويذكرُ سَهْلًا.
          وروى ابن إسحاقَ وتفرَّد به: عن ابن شِهَابٍ فيما ذكره الدَّارقطنيُّ عن سهلٍ: لاعَنَ رسول الله صلعم بينهما بعد العصر، فلمَّا تَلَاعنَّا قال: يا رسول الله، ظلمتُها إن أمسكتُها فهي الطَّلاقُ، فهي الطَّلاقُ، فهي الطَّلاقُ.
          وعند مُسْلمٍ: فلمَّا فرغا طلَّقها ثلاثًا قبل أن يأمرَه رسولُ الله صلعم. وفي لفظٍ: فقال ◙: ((ذَاكُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ))، وللدَّارقطنيِّ بإسنادٍ جيِّدٍ: ففرَّق النَّبيُّ صلعم بينهما وقال: ((لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا))، وقال أبو داودَ عن سهلٍ: مضت السُّنَّةُ بَعْدُ في المتلاعِنَين أن يُفرَّق بينهما ثمَّ لا يجتمعان أبدًا. وفي لفظٍ: قال ◙ لعاصمٍ: ((أَمْسِكِ الْمَرْأَةَ عِنْدَكَ حَتَّى تَلِدَ))، ولأبي داودَ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ في قصَّة هلالٍ: ففرَّقَ ◙ بينهما وقضَى ألَّا يُدعى ولَدُها لأبٍ ولا يُرمَى ولا تُرمَى، ومَن رَمَاها أو رَمَى ولَدَها فعليه الحدُّ، وقضَى أنْ لا بيتَ لها عليه ولا قُوتَ، لأنَّهما يَفْتَرِقان مِن غير طلاقٍ ولا متوفَّى عنها، وقال: ((إِنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أُرَيْصِخَ أُثَيْبِجَ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِه))، قال عِكْرَمةُ: فكان ولدُها بعدَ ذلك أميرًا على مِصْرَ ولا يُدعى لأبٍ.
          قلت: ذكر ابن سعدٍ أنَّ المولود عاش سنتين ثمَّ مات، وعاشَت أمُّهُ بعدَه يسيرًا، ولم يذكره الكِنْديُّ وغيرُه في أمراء مِصْرَ، فليُتأمَّل.
          قال أبو عبد الله فيما رواه الخلَّال عنه: سُفْيَانُ بن عُيَيْنَةَ في قِلَّة ما روى عن الزُّهريِّ أخطأ في نحو أحدَ عشر حديثًا، منها حديث المُتَلاعنين، يقول سُفْيَانُ في حديث الزُّهريِّ: ففرَّق بينهما، وإنَّما قال الزُّهريُّ: هي الطَّلاقُ، إنْ أمسكتُها فقد كذبْتُ عليها. وصحَّح التِّرمذيُّ مِن حديثِ مالكٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَر: أنَّه ◙ لاعَنَ بين رجلٍ وامرأته وألحقَ الولدَ بأمِّه. وقال أبو داودَ: قال أبو عبد الله: روى مالكٌ عن نافعٍ أشياءَ لم يَرْوِها غيرُه، منها: أنَّ عُمَرَ ألحقَ ولدَ المُلاعنة بأمِّهِ.
          وقال الدُّوريُّ عن يحيى في اللِّعان وألحقَ الولد بأمِّه: ليس يقول هذا إلَّا مالكٌ. وعند مُسْلمٍ عن ابن مسعودٍ قال: فَذَهَبت المرأةُ تَلْتَعِن، فقال لها ◙: ((مَهْ))، فأبت فَلَعَنَتْ.
          فَصْلٌ: روى الواقدِيُّ عن الضَّحَّاك بن عُثْمانَ، عن عِمْرَانَ بن أبي أنسٍ، عن عبد الله بن جَعْفرِ بن أبي طالبٍ في حضورِه ◙ حين لاعَنَ بين عُويمرٍ وامرأته، وأنكر حمْلَها الَّذي في بطنها، وقال: هو مِن ابن السَحْمَاءِ. وللنَّسائيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ عن ابن عبَّاسٍ: أنَّه ◙ أمر رجلًا حين أمرَ المتَلاعِنَين أن يضَعَ يده عند الخامسة على فيه، وقال ((إِنَّهَا مُوجِبَةٌ)).
          وأوضحه مُقَاتِلٌ في «تفسيره» وساقه أحسنَ سياقٍ، وسمَّى المرأة، فقال: لمَّا قرأ ◙ على المنبر يومَ الجُمُعة هاتين الآيتين، يعني: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، قال عاصِمُ بن عَدِيٍّ: يا رسول الله، لو أنَّ رجلًا منَّا وَجَد على بَطْنِ امرأتِه رجلًا فيتكلَّمُ يُجلَد ثمانين ولا تُقبلُ له شهادةٌ في المسلمين ويُسمَّى فاسقًا، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعةِ شُهداءَ، إلى أن يلتمس أحدُنا أربعةَ شهداءَ فرغ الرَّجلُ مِن حاجته، فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ...} الآيات الثَّلاث[النور:46-48]، فابتلى الله عاصمًا بذلك يومَ الجُمُعة الأخرى، أتاه ابن عمِّه عُوَيمرٌ وتحتَه ابنةُ عمِّه أخي أبيه خَوْلة بنت قيسٍ فرماها بابن عمِّه شَرِيكٍ، وكلُّهم مِن بني عَمْرو بن عَوْفٍ، وكلُّهم بنو عمِّ عاصمٍ، فجاءَ عاصِمٌ رسولَ الله صلعم فقال: يا رسول الله، أرأيت سؤالي عن هذه الآية؟ قد ابْتُلِيتُ بها في أهل بيتي، فأرسل ◙ إلى الزَّوج والخليل والمرأة، فقال لِعُوَيمرٍ: ((اتَّقِ الله في حَلِيلتِكَ وابنةِ عمِّك))، فقال: أُقسم بالله إنِّي رأيتُه معها على بطنها وإنَّها لحُبْلَى منه، وما قربتُها منذ أربعة أشهرٍ، فقال ◙ لخولةَ بنت قيسٍ: ((وَيْحَكِ مَا يَقُولُ زَوْجُكِ؟)) فقالت: أحلِفُ بالله لكاذبٌ ولكنَّه غارَ، ولقد رآني معه نُطِيل السَّمر باللَّيل والجلوسَ بالنَّهار، فما رأيت ذلك في وجهه ولا نهاني عنه قطُّ، فقال ◙ للخليل: ((وَيْحَكَ مَا يَقُولُ ابْنُ عَمِّكَ؟)) فَحَداه بمثل قولِها؛ فقال للزَّوج والمرأة: ((قُوْمَا فاحلفا))، فقام الزَّوجُ عند المِنْبَرِ في دُبُر صلاة العصر يومَ الجُمُعة، فقال: أشهد بالله أنَّ فلانةَ _يعني خولَةَ_ زانيةٌ، ولقد رأيتُ شَرِيكًا على بطنها، وإنِّي لمن الصَّادقين، ثمَّ قال: أشهدُ أنَّ فلانةً زانيةٌ، وإنِّي لمن الصَّادقين، ثمَّ قال: أشهدُ بالله أنَّ خولَةَ زانيةٌ وإنَّها لحُبلى مِن غيري، وإنِّي لمن الصَّادقين، ثمَّ قال: أشهدُ بالله أنَّ خَولةَ زانيةٌ وما قرُبتها مِن منذُ أربعة أشهرٍ، وإنِّي لمن الصَّادقين، ثمَّ قال: لعنةُ الله على عُوَيمرٍ إن كان مِن الكاذبين عليها في قوله.
          وقامت خولَةُ بنت قيسٍ مقامَ زوجها فقالت: إنِّي أشهد بالله ما أنا بزانيةٍ، وإنَّ زوجي لمن الكاذِبين، ثمَّ قالت: أشهد بالله ما أنا بزانيةٍ، وما رأى شَرِيكًا على بطني، وإنَّ زوجي لمن الكاذبين، ثمَّ قالت: أشهدُ بالله ما أنا بزانيةٍ وإنَّ الحبلَ لمنْهُ، وإنَّه لمن الكاذبين، ثمَّ قالت: أشهد بالله ما أنا بزانيةٍ وما رأى عليَّ زوجي مِن ريبةٍ ولا فاحشةٍ، وإنَّه لمن الكاذبين، ثمَّ قالت: غَضِبَ الله على خولَةَ إن كان عُوَيمرٌ مِن الصَّادقين في قوله، ففرَّق النَّبيُّ صلعم بينهما، وكان الخليلُ رجلًا أسودَ مِن حَبشيَّةٍ، وقال ◙: ((إذا ولدَت فلا تُرضِعْ ولدَها حتَّى تأتُوني بِه))، فأَتَوهُ بولدِها فإذا هو أشبهُ النَّاس بالخليلِ، فقال: ((لَولَا مَا قَدْ مَضَى لَكَانَ لِي وَلَها أَمْرٌ)).
          قال مُقَاتلٌ: إن صَدَّقت المرأةُ زوجَها لم يُلَاعنها، وإن كان زوجُها جامَعَها رُجِمت ويرِثُها زوجها، وإن كان لم يُجَامعها جُلدت مئةَ جلدةٍ وهي امرأته، وإن رجعَ الزَّوج عن قوله قبل أن يَفْرَغا مِن المُلاعَنةِ جُلد ثمانين جلدةً وكانت امرأتُه / كما هي.
          فائِدَةٌ: خَوْلةُ هذه قد صرَّح مُقَاتلٌ بأنَّها الملاعِنَةُ، وسمَّاها بنت قيسٍ، وأمَّا ابنُ مَنْدَه وأبو نُعيمٍ فقالا: إنَّ الذي لاعَنَها هِلالٌ: خولَةُ بنت عاصمٍ، وخولةُ بنت قيسٍ لم أجد أحدًا ممَّن ألَّف في الصَّحابة ولا المبهمات ذكرَها.
          فَصْلٌ: في «المستدرك» على شرط البخاريِّ مِن حديثِ ابن عبَّاسٍ ☻: كان شَرِيكٌ أخا البراء بن مالكٍ _أخي أنس بن مالكٍ_ لأمِّه، وكانت أمُّهما أَمَةً سوداءَ، كان شَرِيكٌ يأوي إلى منزل هلال بن أُميَّة ويكون عندَه.
          فَصْلٌ: في «تفسير ابن مَرْدَوَيه» مِن حديثِ ابن إسحاقَ، عن العبَّاس بن سهلٍ، عن أبيه: لَمَّا تَلَاعَنا قال ◙ لعاصمٍ: ((اقبِضْها حتَّى تَلِدَ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرٌ مثلُ الينعة فهو الَّذي انتفَى منه، وإن تَلِدْهُ قَطَطَ الشَّعرِ أَسْوَدَ اللِّسَانِ فَهُو الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ))، قال عاصمٌ: فلمَّا ولدته أَتَتْ به واللهِ لكأنَّ رأسَه فَرْوةُ جملٍ أسودَ، فأخَذْتُ بِفُقْمَيهِ فاستقبلني لسانُهُ مثل التَّمرة السَّوداء، فقلت: صَدَقَ اللهُ ورسوله. وفي حديث أنسٍ: ((إنْ جاءَتْ بِهِ آدمَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقين فهو لشَرِيكٍ، وإنْ جاءَتْ به أبيضَ قصيرَ العِرْنَين سَبِطَ الشَّعر فهو لهلالٍ))، وفي حديث محمَّد بن عَلْقمةَ، عن الهيثم بن حُمَيدٍ، عن ثور بن يزيدَ، عن عَمْرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه عن جدِّه: أنَّ رجلًا مِن بني زُرَيْقٍ قذَفَ امرأتَه، فأتى النَّبيَّ صلعم، فردَّ ذلك على رسول الله صلعم أربع مرَّاتٍ، فأنزل الله آيةَ الملاعَنَة، فقال ◙: ((أينَ السَّائلُ، فقد نزلَ فيكَ مِن اللهِ أَمْرٌ عَظيمٌ؟))، فأبى الرَّجلُ إلَّا أن يُلَاعنَها، وأبَتْ هي إلَّا أن تدرأَ عن نفسها العذَابَ، فتَلَاعَنَا، فقال ◙: ((إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْفَرَ أُخَيْنِسَ مَنْشولَ العِظَامِ فهو للمُلاعِن، وإنْ جاءَت بِه أَسْوَدَ كالجَمَلِ الأَوْرَقِ فهُو لغَيره))، فجاءت به أَوْرقَ، فدعا به ◙ فجعله لِعَصَبَةِ أمِّه.
          فَصْلٌ: في «عِلل الخَلَّال» عن ابن إسحاقَ قال: ذكر عَمْرو بن شُعَيبٍ، عن أبيه عن جدِّه قال: قضى رسول الله صلعم في ولدِ المُتلاعِنَين أنَّه يرِثُ أمَّه ويرِثُه ورثةُ أمِّه، ومَن نفاها جُلِدَ ثمانين. قال أبو عبد الله: هذا حديثٌ مرسلٌ، وقال في موضعٍ آخر: ابنُ إسحاقَ إذا قال: وَذُكِرَ، فلم يَسمعه.
          فَصْلٌ: ذكر ابنُ عَسَاكِر في كتاب «مَن وافقت كُنيته كنيةَ زوجتِه» مِن حديثِ الفضل بن دَلْهَمٍ، عن الحسنِ، عن قَبِيصَةَ بن حُرَيْثٍ، عن سَلَمَة بن المُحَبِّقِ قال: قيل لأبي ثابتٍ سعدِ بن عُبَادةَ حينَ نزلت آيةِ الحُدُود، وكان رجلًا غيورًا: أرأيتَ لو رأيتُ مع أمِّ ثابتٍ رجلًا أَيْش كنتَ تصنعُ؟ قال: كنتُ ضارِبَها بالسَّيف، أنتظرُ حتَّى آتي بأربعةِ شُهداءَ، أو أقولُ: رأيتُ كذا فتضربُوني الحدَّ ولا تقبلوا لي شهادةً أبدًا؟! قال: فَذُكر ذلك للنَّبيِّ صلعم فقال: ((كَفَى بالسَّيفِ شَاهِدًا))، ثمَّ قال: ((لَا، إنِّي أخافُ أن يَتَتَابَعَ في ذلك السَّكرَانُ والغَيرَانُ)).
          وروى أبو عَوَانةَ عن حُصَينٍ، عن الشَّعبيِّ، عن عاصمِ بن عَدِيٍّ قال: كنَّا عندَ رسولِ الله صلعم فنزلت {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، قلتُ: يا رسولَ الله: إلى أنْ أَجِيءَ بالأربعة خرج الرَّجل، فما قام مِن مكانه حتَّى أتى ابنُ عمِّه وامرأتُه معها صبيٌّ تحمِلُهُ، يقول: ليس هو منِّي، وتقول: هو منه، فنزلت آية المُلاعَنَة، قال عاصمٌ: فأنا أوَّل مَن تكلَّم وأوَّل مَن ابتُلِي به.
          وأخرجه الحاكم وقال: على شرط مُسلمٍ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ سمعَ النَّبيَّ صلعم حين نزلت آية المُلاعَنَة... الحديث.
          وأخرجه البزَّار مِن حديثِ حُذَيفةَ، قال رسولُ الله صلعم: ((لَو رَأَيْتَ مَعَ أمِّ رُومانَ رجلًا ما كُنتَ فَاعِلًا به؟)) قال: كنتُ واللهِ فَاعِلًا بهِ شرًّا، قال: ((فأنتَ يا عُمَرُ)) قال: واللهِ كنتُ قاتِلَه، فنزلت الآية. وهذا والَّذي قبلَهُ نمطٌ آخر، قال البزَّار: لا أعلم أحدًا أسندَه إلَّا النَّضْرُ بن شُمَيلٍ، عن يُونُسَ بن أبي إسحاقَ عن أبيه، عن زيد بن يُثَيْعٍ، عن حُذَيفةَ، ثمَّ ساقه بإسقاط حُذَيفةَ.
          وروى الواحدِيُّ مِن حديثِ عَلْقمةَ عن عبد الله قال: إنَّا ليلةَ الجُمُعة في المسجد إذ دخل رجلٌ مِن الأنصار فقال: لو أنَّ رجلًا وجدَ مع امرأته رجلًا؛ فإن تكلَّم جَلَدْتُموه، وإن قَتَل قَتَلْتُموه، وإن سكتَ سكتَ على غيظٍ، والله لأسألنَّ عنهُ رسولَ الله صلعم، فلمَّا كان مِن الغَدِ أتى رسولَ الله صلعم فسأله فقال: ((اللَّهُمَّ افتح))، وجعل يدعو، فنزلت آية اللِّعان... الحديث، وهو في «صحيح مُسْلمٍ» أيضًا.
          وقال مُهنَّا: سألت أحمدَ عنه أنَّه ◙ لاعَنَ بين رجلٍ وامرأتِه، وقال: ((عَسَى أَنْ تَأْتِيَ بِهِ أَسْودَ جَعْدًا))، فجاءَتْ به أسود جَعْدًا، فقال أحمدُ: ليس بصحيحٍ، إنَّما هو عن عبد الله مُرسلًا ليس فيه عن رسول الله صلعم.
          قال البيهقيُّ في «معرفته»: وهذا الحديثُ وإن كان مختصرًا مِن حديثٍ رواه عَبْدةُ وغيرُه عن سُلَيْمَانَ في قصَّة المتلاعِنَين، ففي مبسوطها دليلٌ على أنَّه قصدَ به نفيَ الحَمْل خِلاف قولِ مَن زعَمَ أنَّه لم يقصده.
          وذكر الفرَّاء في «معانيه» أنَّها نزلت في عاصِم بن عَدِيٍّ لمَّا أَنزل اللهُ الشُّهود الأربعة قالوا: يا رسول الله، إن دخلَ أحدُنا فرأى على بطنِها _يعني امرأتَهُ_ رجلًا احتاج إلى أن يَخْرجَ فيأتي بأربعةٍ، فابتُلي بها عاصمٌ مِن بين النَّاس، فدخل على امرأتِه وعلى بطنها رجلٌ، فلاعَنَ رسول الله صلعم بينهما وذلك أنَّها كذَّبَتْه الحديثَ.
          وروى ابن ماجه مِن حديثِ ابن إسحاقَ: ذكر طَلْحة بن نافعٍ، عن سعيد بن جُبَيرٍ، عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: تزوَّج رجلٌ مِن الأنصار امرأةً فبات عندها، فلمَّا أصبح قال: ما وجدتُها عَذْراءَ، فرُفِع شأنها إلى رسول الله صلعم فدعا الجاريةَ، فسألَها فقالت: بَلَى قد كنتُ عَذْراءَ، فأمرَ بهما فَتَلاعَنا وأعطاها المَهْر.
          فَصْلٌ: في قول عُوَيمرٍ المقالةَ السَّالفةَ وسكوت الشَّارع على ذلك ولم يقل له: لا تقتله دليلٌ على أنَّ مَن قتلَ رجلًا وجده مع امرأته أنَّه يُقتل به إن لم يأتِ ببيِّنةٍ تشهدُ بزناه بها، وبه حكم عليٌّ أيضًا، إن لم يعطِ بأربعة شُهداءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ.
          فإن قلت: قد رُوي عن عُمَرَ وعُثْمانَ أنَّهما أهدرا دمَهُ؟ قيل: إن صحَّ عنهما ذلك، فإنَّهما أهدرا دَمَه لأنَّ البيِّنة قامت عندهما بصحَّة ما ادَّعاه القاتل على الَّذي قتلَهُ، وستأتي أقوال العلماء فيه.
          فَصْلٌ: فيهِ أنَّ التَّلاعُنَ لا يكون إلَّا عند السُّلطان أو عند / مَن استخلفَهُ مِن الحكَّام، وليس كالطَّلاق، وهو إجماعٌ.
          فَصْلٌ: في قول عُويمرٍ: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا) دِلالة أنَّ اللِّعانَ يجري بين كلٍّ مِن الزَّوجين؛ لأنَّه لم يخُصَّ رجلًا مِن رجلٍ ولا امرأةً من امرأةٍ، ولذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] ولم يخصَّ زوجًا مِن زوجٍ، ففي هذا حجَّةٌ للشَّافعيِّ ومالكٍ في أنَّ العبدَ كالحرِّ في قذفهِ ولِعَانهِ، غيرَ أنَّه لا حدَّ على مَن قذَفَ مملوكًا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] وهنَّ الحرائر المسلمات، والأَمَةُ المسلمة والحرَّة اليَهُوديَّة أو النَّصرانيَّة تلاعِنُ الحرَّ المسلم، وكذلك للعبد وإن تزوَّج الحرَّة المسلمة أو الأَمَة المسلمةَ أو الحُرَّة اليَهُوديَّة أو النَّصرانيَّة لاعَنَها، وبه قال الشَّافعيُّ.
          وقال أبو حنيفةَ والثَّوريُّ: إذا كان أحد الزَّوجين مملوكًا أو ذِمِّيًّا، أو كانت المرأة ممَّا لا يجِبُ على قاذفها الحدُّ، فلا لِعَان بينهما إذا قَذَفها.
          فَصْلٌ: واختلف العلماء في صِفة الرَّمي الموجب للِّعان، فقال مالكٌ في المشهور عنه: أنَّ اللِّعان لا يكون حتَّى يقول الرَّجل لامرأته: رأيتُها تزني، أو ينفي حملانَها أو ولدا منها، وحديث سَهْلٍ هذا وإن لم يكن فيه تصريحٌ بالرُّؤية فإنَّه قد جاء التَّصريحُ بذلك في حديث ابن عبَّاسٍ وغيرِه في قصِّة هلال بن أُميَّةَ: أنَّه وجد مع امرأته رجلًا فقال: يا رسول الله، رأيتُ بعيني، وسمعتُ بأذني، فنزلت آية اللِّعان، ذكرَه الطَّبريُّ وغيره.
          وقال الثَّوريُّ والكوفيُّون والأوزاعيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ وأبو عُبَيدٍ وداود وأصحابه، وهو قول جمهور العلماء وعامَّة الفقهاء وجماعة أصحاب الحديث أنَّه مَن قال لزوجته: يا زانيةُ، وجَبَ اللِّعان إن لم يأتِ بأربعة شُهَداءَ، وسواءٌ قال لها: يا زانية، أو: زنيتِ ولم يدَّعِ رؤيةً، وقد رُوي هذا القول عن مالكٍ أيضًا، وحُجَّتهم عُمُوم {يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُم} [النور:6] كما قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] فأوجب بمجرَّد القذفِ الحدَّ على الأجنبيِّ إن لم يأتِ بأربعة شُهداءَ، وأوجب على الزَّوج اللِّعان إن لم يأتِ بأربعة شُهداءَ، فسوَّى بين الذِّمِّيِّين بلفظٍ واحدٍ.
          وقد أجمعوا أنَّ الأعمى يُلاعِنُ، ولا تصحُّ منه الرُّؤية، وإنَّما يصحُّ لِعَانهُ مِن حيث يصحُّ وطؤه لزوجته، وذكر ابنُ القصَّار عن مالكٍ أنَّ لِعَانَهُ لا يصحُّ إلَّا أن يقول: لمستُ فرجَه في فرجها.
          فَصْلٌ: ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ بتمام اللِّعان منهما تقع الفُرْقة بينهما، منهم مالكٌ والشَّافعيُّ إلَّا أنَّ مالكًا يقول بِلِعَانهما جميعًا، والشَّافعيُّ وسَحْنُون بِلِعَانِ الرَّجل وحدَهُ، وقال أبو حنيفة ومحمَّدٌ وعُبَيد الله بن الحسنِ: هو واحدةٌ، وحكاه ابن أبي شَيْبَة عن ابن المسيِّب وإبراهيمَ، وقال مالكٌ والشَّافعيُّ: هو فسخٌ.
          لنا أنَّها تحصل بغير لفظٍ، فأشبهتِ الفُرقة بالرَّضاع والرِّدَّة، وتظهر فائدة الخِلاف بيننا وبينه كما قال المتولِّي فيما إذا علَّق طلاقَ امرأةٍ أخرى بوقوع طلاق هذه، ولاعَنَ هذه.
          وشذَّ قومٌ مِن أهل البصرة منهم عُثْمانُ البتِّيُّ فقالوا: لا تقع الفُرقة ولا تأثيرَ للِّعان فيها، وإنَّما يسقط النَّسب والحدُّ وهما على الزَّوجيَّة كما كانا حتَّى يُطلِّق الزَّوج. وذكر الطَّبريُّ أنَّه قول أبي الشَّعثاء جابرِ بن زيدٍ، واحتجَّ أهل هذه المقالة بقول عُوَيمرٍ: (كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا) قالوا: ولم يُنكر النَّبيُّ صلعم ذلك عليه، ولم يقل له: لِمَ قلتَ وأنت لا تحتاج إليه؟ لأنَّها باللِّعان قد طُلِّقت. فقال لهم مخالفوهم: لا حجَّةَ لكم في حديث عُوَيمرٍ؛ لأنَّ قولَه ذلك وطلاقَه إنَّما كان منه؛ لأنَّه لم يظنَّ أنَّ الفُرقة تحصل باللِّعان، ولو كان عنده أنَّ الفُرقةَ تحصل بها لم يقل هذا، وقد جاء في حديث ابن عُمَر وابن عبَّاسٍ بيانُ هذا أنَّه ◙ فرَّق بينهما، وقال: ((لا سبيلَ لكَ عَلَيْهَا))، فطلاقُ عُوَيمرٍ لها لغوٌّ، ولم يُنكر ذلك الشَّارعُ لأنَّه يحتمل أن يكون العَجْلَانيُّ أراد التَّأكيد، أي إنَّها لو لم تقع الفُرقة وأمسكَها فهي طالقٌ ثلاثًا.
          فإن قال مَن يذهب إلى قول البتِّيِّ: قولُ ابنِ عُمَر وابن عبَّاسٍ أنَّه ◙ فرَّق بين المتلاعِنَين إنَّما كان في قصَّة عُوَيمرٍ، وكان طلاقُها بعد اللِّعان، فكذلك فرَّق بينهما، وقد روى ابنُ شِهابٍ عن سَهْل بن سعدٍ قال: فطلَّقها العَجْلانيُّ ثلاثَ تطليقاتٍ، فأنفذَهُ رسول الله صلعم.
          قال الطَّبريُّ: يحتمل أنَّه فرَّق بينهما بعد اللِّعان ثمَّ طلَّقها ثلاثًا حتَّى يكون تفريقُه ◙ واقعًا موقعَهُ على ما روى ابن عُمَر، وقد قال الأكثرون: لا يجوز أن يُمْسِكها ويُفرَّق بينهما، وقد استحبَّ الشَّارع الطَّلاق بعد اللِّعان ولم يَسْتحبَّهُ قبلَهُ، فعلم أنَّ اللِّعان قد أحدَثَ حُكمًا.
          فَصْلٌ: وقد احتجَّ مَن قال: إنَّ الثَّلاث لا بِدعَةَ فيها بقصَّة عُويمرٍ ولم يُنكر الشَّارع عليه، ولو كانت بِدعةً لبيَّنه وأنكره، وقال: لا يجوز ذلك.
          فَصْلٌ: ذكر في حديث سَهْلٍ في الباب بعدَه [خ¦5309]: ((إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كأَنَّهُ وَحَرَةٌ...)) إلى آخره، وذكر فيه أوصافًا أُخرَ بعدُ، وفي لفظٍ: ((إنْ جَاءَتْ بِهِ أسْحَمَ))، وهو بالسِّين والحاء المهملتين، وهو الأسود كلونِ الغُراب، يقال للَّيل: أسحْمُ، وللسَّحاب الأسود: أَسْحَم.
          ومنها: أَدْعَجُ، وهو شديدُ سَوَاد الحَدَقة، قال أبو موسى المَدِينيُّ: هو عند العرب السَّواد في العين وغيرِها، وعند العامَّة سَوَادُ الحَدَقةِ فقط، والأُدَيْعِج تصغيرُ أَدْعَجَ، والدَّعْجَاءُ اللَّيلةُ الثَّامنة والعشرون، سُمِّيت بذلك لشدَّة سوادِها. والخَدَلَّجُ: العظيم السَّاقين، وامرأةٌ خَدَلَّجَةٌ ضَخْمةُ السَّاقين والذِّراعين، والأُحَيْمِرُ تصغير أحمرَ، والأحمرُ الأبيضُ لأنَّ الحُمْرةَ تبدو في البياض ولا تبدو في السَّواد، ومنه الحديث: ((بُعثْتُ إلى الأَسْودِ والأَحْمرِ))، قال أبو موسى المَدِينيِّ: سُئلَ ثعلبٌ: لِمَ خُصَّ الأحمر دون الأبيض، قال: لأنَّ العرب لا تقول رجلٌ أبيضُ مِن بياض اللَّون، إنَّما الأبيض عندهم الطَّاهر النَّقيُّ مِن العيوب.
          والوَحَرَةُ بفتح الواو والحاء المهملة، والمراد دُوَيبةٌ حمراءُ كالعَظَاءة تلزَقُ بالأرض، وقيل: هي الوَزَغَة، وقيل: نوعٌ مِن الوَزَغ يكون في الصَّحاري.
          فَصْلٌ ينعطِفُ على ما مضى في عدم بِدْعة الثَّلاث:
          قال الشَّافعيُّ: يَحتمِل طلاقُه ثلاثًا أن يكون بما وجد في نفسه لعِلمه بصدقه وكَذِبَها وجرأتها على اليمين طلَّقَها ثلاثًا جاهلًا بأنَّ اللِّعان فُرقةٌ، فكان كمن طلَّق مَن طُلِّق عليه بغيرِ طلاقه، وكمن شرطَ العُهْدة في البيع والضَّمانَ في السَّلف، وهو يلزَمُه شَرَطَ أو لم يَشْرطْ، وتفريقُ الشَّارع غيرُ فُرقة الزَّوج إنَّما هو تفريق حُكمٍ.
          فَصْلٌ: وقوله ◙: (أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ) هو مِن باب الحُكمِ بالظَّاهر، والله وليُّ ما غاب عنه.
          فَصْلٌ: قال بعضُ النَّاس: لا يُلَاعِن بالحَمْلِ، ولعلَّه ريحٌ، وزعم أنَّه لا ينفي الولد بعد الولادة، يعني إذا لاعَنَ وهي حاملٌ، وقد سلف الحديث الوارد فيه بما فيه وستعلمه أيضًا.
          فَصْلٌ: قال الشَّافعيُّ: فلمَّا تَلَاعنا حكم ◙ / على الصَّادق والكاذب حكمًا واحدًا فأخرجهما مِن الحدِّ. وقال في رواية ابن عبَّاسٍ: ((لَولا مَا مَضَى مِن كتابِ اللهِ لكانَ لِي وَلَهَا شأنٌ)): فأَخْبَرَ بصِفتين في إحداهما دَلالة صدقِ الزَّوج، ولم يستعمل الدَّلالة وأنفذ عليها ظاهرَ حكم الله، ولو جاءت دَلالة كَذِب الزَّوج لكان لا يستعمل الدَّلالة أيضًا وأنفذَ ظاهرَ الحُكم، لكنَّه _والله أعلم_ ذكر غَلَبة الأشباهِ الدَّالة على صدقِ أحدِهما حتَّى إذا لم تكن حجَّةٌ أقوى منها يستدلُّ بها في إلحاق الولد بأحد المُتَلاعِنَين عند الاشتباه، وأخبرَ بأنَّه إنَّما منعَه مِن استعمالها هنا ما هو أقوى منها، وهو حُكم الله باللِّعان؛ لا أنَّها لو أتَتْ به على الصِّفة الأولى كان يُلحقه بالزَّوج.
          وكيف يجوز أن يُسوِّي الأخبارَ على مذهبه وهو ذا لا يستوي أن يستدلَّ بهذا على أنَّه لم يكن مقصود الزَّوج نفي الحَمْل، وفيما ذكرنا مِن الأخبار أنَّها كانت حاملًا وأنَّه أنكرَ حَمْلها، وأنَّ الشَّارع لاعَنَ بينهما قبل وضع الحَمْل، ثمَّ ألحقه بأمِّه ونفاه عنه، وعندَه الولد في مثل هذا مُلحَق به بكلِّ حالٍ، أَشْبَهَهُ أولم يُشبِهْهُ، ونحن لا نرى خِلافًا للحديث أَبْيَنَ مِن هذا، والله المستعان.
          فَصْلٌ: فيه دليلٌ أيضًا على أنَّ الزَّوجَ إذا التعَنَ لم يكن للرَّجل الَّذي رماهُ بامرأته عليه حدٌّ، قال الشَّافعيُّ: إذا أكملَ الزَّوجُ الشَّهادةَ والالْتِعَانَ فقد زال فراشُ امرأته ولا تحِلُّ له أبدًا بحالٍ، وإن أكذبَ نفسَه لم تَعُد إليه، وإنَّما قلتُ هذا لأنَّ سيِّدنا رسولَ الله صلعم قال: ((الوَلَدُ للفِراشِ))، وكانَتْ فِراشًا، فلم يَجُزْ أنْ ينفيَ الولدَ عنِ الفراش إلا بأن يزولَ الفُراش ولا يكون فراشًا أبدًا، وكان معقولًا في حكم رسول الله صلعم إذا ألحق الولدَ بأمِّه أنَّه نفاه عن أبيه، وأنَّ نفيَه عن أبيه بيمينه والْتِعَانه لا بيمين أمِّه على كذبِه بنفيه.
          ولَمَّا قال له ◙: ((لَا سبيلَ لكَ عليْهَا)) استدلَلْنا به على أنَّ المُتَلاعنين لا يجتمعان أبدًا إذ لم يقل: إِلَّا أَنْ يُكذِّبَ نفسَهُ أو يفعل كذا، كما قال في المطلِّق الثَّالثة: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
          وروى الَّذين خالفونا في هذا حديثًا عن عُمَرَ وعليٍّ وابن مسعودٍ أنَّهم قالوا في المُتَلاعِنَين: لا يجتمعان أبدًا، ورجع بعضُهم إلى قولنا، وفيه أَبَى بعضُهم الرُّجوع إليه وقال: لا يجتمعان أبدًا ما داما على لِعَانهما.
          قال الشَّافعيُّ: فقلتُ له: أَوَتَعلمُ حديثًا لا يحتمل أن يوجِّه وجوهًا إلَّا قليلًا، وإنَّما الأحاديث على ظاهرها حتَّى تأتيَ دلالةٌ تُخبر عن الَّذي حمل الحديث عنه، أو إجماعٌ مِن النَّاس على توجيهها، وظاهر السُّنَّة وما رُوِّيتم عن عُمَرَ وصاحبيه على ما قلنا.
          وممَّن قال: إنَّه إذا أكذبَ نفسَه له أن يتزوَّجها. ابنُ المسيِّب والشَّعبيُّ وحمَّادٌ، ذكرَه ابن أبي شَيْبَة بأسانيدَ جيِّدةٍ، زاد أبو عُمَرَ بن عبد البرِّ: إبراهيمَ وابنَ شِهَابٍ على اختلافٍ عنهما، والحسنَ والضَّحَّاك.
          فإن قلتَ: في الحديث: ((لَا سَبِيلَ لَكَ علَيها))، قيل: ظنَّ المُلَاعِن أنَّ له المطالبة بالمهْرِ، يدلُّ عليه قوله بعدُ: يا رسول الله، مَالِي؟ قال: ((لَا مَالَ لكَ)).
          قال ابن عبد البرِّ: ومِن حجَّة أبي حنيفة قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، فلمَّا لم يُجْمِعوا على تحريمِها دخلت تحتَ عُمُوم هذه الآية، ومِن جهة النَّظر لَمَّا لَحِق الولدُ وجب أن يعودَ الفراش لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يقتضيه عَقْدُ النِّكاح ويُوجبُه.
          فَصْلٌ: تأوَّلَ ابنُ نافعٍ المالكيُّ قولَه: (فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ) على استحباب إظهار الطَّلاق بعد اللِّعان، والجمهورُ على أنَّ معناه حصول الفُرقة بنفس اللِّعان.
          وقوله: ((ذَلِكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ)) تأوَّله مالكٌ والشَّافعيُّ وغيرهما، على أنَّ الفُرقةَ تحصل بنفس اللِّعان بينهما، وقيل: معناه تحريمها على التَّأبيد، وأبو حنيفة ومَن تابعَهُ _وهو مذهب الثَّوريِّ وأحمدَ_ استدلُّوا على أنَّ الفُرقة لا تقع إلَّا بحكم حاكمٍ، لقوله: إنَّه ◙ فرَّق بينهما، ولو كانت الفُرقة واقعةً باللِّعان لاستحالَ التَّفريق بعدها، وبقوله: (كَذَبْتُ عَلَيْهَا... إِنْ أَمْسَكْتُهَا) لأنَّ فيه إخبارًا بأنَّه ممسِكٌ لها بعد اللِّعان، إذ لو كانت الفُرقة وقعت قبل ذلك لاستحال قوله: (كَذَبْتُ عَلَيْهَا)، وهو غير ممسكٍ لها بحضرة الشِّارع، ولم يُنكِرْ عليه.
          قال الرَّازيُّ: فدلَّ على أنَّ الفُرقةَ لم تقع بنفس اللِّعان، إذ غيرُ جائزٍ أن يُقرَّه على الكذب ولا على استباحةِ نكاحٍ بطَلَ.
          فَصْلٌ: قوله في الباب الآتي: (ثمَّ جَرَتِ السُّنَّةُ فِي مِيْرَاثِهَا أَنَّها تَرِثُهُ ويَرِثُ مِنْهَا ما فَرَضَ الله لَهَا) أي وهو الثُّلث في حالةٍ عند عدم الفرع والإخوة، والسُّدس أحرى عند وجود ذلك، ثمَّ إذا دفع إلى أمِّه فرضَها أو إلى أصحاب الفروض وبقي شيءٌ فهو لموالي أُمِّه؛ فإن لم يكن لها موالي فلبيت المال، قاله الشَّافعيُّ ومالكٌ وأبو ثورٍ، وقبلهم الزُّهريُّ وجماعةُ الفقهاء. وقال الحكمُ وحمَّادٌ: يَرِثه ويَرِثُ أُمَّه، وقال آخرون: عَصَبته عَصَبة أُمِّه، رُوي هذا عن عليٍّ وابن مسعودٍ وعَطَاءٍ وأحمد، قال أحمد: فإن انفردت الأمُّ أخذت جميع ماله بالعُصوبة. وقال أبو حنيفة: إذا انفردت أخذت الجميع، الثُّلث بالفرض والباقي بالرَّدِّ على قاعدتِهِ.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا أنَّ المَرمِيَّ به شَرِيكُ بن سَحْمَاءَ، وهو ابنُ عَبَدَةَ بن مُغيثِ بن الجدِّ بن العَجْلَانِ، وعَبَدَةُ _بفتح العين والباء الموحدة المفتوحة أيضًا_ شهد بدرًا، ووالدُ عَبَدَة مُغِيثٌ بغينٍ معجمةٍ وثاءٍ مثلَّثة، كذا عند الدَّارقطنيِّ وابنِ مَاكُولا، وضبطه النَّوويُّ بعينٍ مهملةٍ ثمَّ مثنَّاةٍ فوق ثمَّ موحَّدةٍ، والْجَدُّ بفتح الجيم وتشديد الدَّال، ابن العَجْلَانِ بن حارِثَةَ _بحاءٍ مُهملةٍ_ ابنِ ضُبَيْعَةَ البَلَوِيُّ العَجْلَانيُّ. شهد شَرِيكٌ مع أبيه أُحُدًا، وقال الكلبيُّ: أبوه الَّذي شهد أُحُدًا، وأمَّا هو فلم يشهدها. قال ابن سعدٍ: وكان شَرِيكٌ عند الناَّس بحال سُوءٍ بعدُ، ولم يبلغنا أنَّه أحدث توبةً ولا نزعَ. وقال أبو نُعَيمٍ الحافظ: لم يكن اسمُه شَرِيكًا إنَّما كان بينه وبين ابن السَّحْمَاء شِرْكةٌ.
          فَصْلٌ: نقل القرطبيُّ عن الشَّافعيِّ أنَّه لا حدَّ للرَّامي زوجتَه إذا سمَّى الَّذي رماها به ثمَّ الْتَعَن، ورأى أنَّه الْتَعَن لهما، وعند مالكٍ أنَّه يحدُّ ولا يكتفي بالْتِعَانه؛ لأنَّه إنَّما الْتَعَن للمرأة ولم يكن له ضرورةٌ إلى ذكرهِ بخِلاف المرأة؛ فهو إذًا قاذفٌ فيُحدُّ، قال: واعتذر بعضُ أصحابنا عن حديث شَرِيكٍ بأنَّه كان يَهُوديًّا، وأيضًا فلم يطلب شيئًا مِن ذلك وهو حقُّه فلا متعلَّق في الحديث. قلت: الأوَّل باطلٌ كما عرفته.
          قال الرَّازيُّ: كان حدُّ قاذفِ الأجنبيَّات والزَّوجات الجَلْدَ، والدَّليل عليه قولُه في الحديث: ((البيَّنةَ وإلَّا حدٌّ في ظهرِك))، فثبتَ بذلك أنَّ حدَّ قاذف الزَّوجات كان كحدِّ قاذف الأجنبيَّات، وأنَّه نُسِخَ عن الأزواج الجَلْدُ باللِّعان لهذا الحديث.
          فَصْلٌ: / جاء في الحديث أنَّها موجبةٌ، أي تُوجِب العذاب، وجاء أنَّها تَلَكَّأت، أي أبطأت عن إتمام اللِّعان، وأنَّها نَكَصَت، أي رَجَعت.
          فَصْلٌ: نقل أبو بكرٍ الرَّازيُّ عن ابن المسيِّب ومالكٍ والحسنِ بن صالحٍ واللَّيث والشَّافعيِّ: أيٌّ منهما نكَلَ حُدَّ إن كان الزَّوج للقذف، وإن كان المرأة للزِّنا، وعن مكْحُولٍ والضَّحَّاك والشَّعبيِّ: إذا أبت رُجِمَت، وعن أبي حنيفة وأصحابِه: أيُّهما نكَلَ حُبسَ حتَّى يُلاعِن، لأنَّ اسمَ العذاب لا يختصُّ بنوعٍ مِن الإيلام، قال تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النحل:21]، قالوا: بحبسِهِ مع غير جنسِهِ، وقال ◙: ((السَّفرُ قطعةٌ مِن العذابِ)).
          وزعم أصحابُ أبي حنيفة أن لا لِعَان بنفي الحمْلِ، لأنَّه يجوز ألَّا يكون حملًا لأنَّ ما يظْهَرُ مِن المرأة ممَّا يُوهِم أنَّها حاملٌ لا يُعلم أنَّه حمْلٌ حقيقةً، إنَّما هو توهُّمٌ، ونفيُ التَّوهُّمِ لا يوجِب اللِّعان، وقد سلف الرَّدُّ عليهم مِن كلام الشَّافعيِّ، قالوا: فإن قيل: قد رُوي أنَّه ◙ لاعَنَ بالحمل، قيل له: هذا حديثٌ مختصرٌ اختصره راويه فغلَطَ فيه، وأصله حديثُ عُوَيمرٍ المذكور قبلُ، وهو عجيبٌ منهم.
          قالوا: فإن قيل: قولُه ◙: ((إنْ جاءَتْ بِه كذا فهو لزوجها وإن جاءَت به كذا فهو لفلانٍ)) دليلٌ على أنَّ الحَمْلَ هو المقصود بالقذْفِ واللِّعان؟ قالوا: قيل له: لو كان اللِّعان بالحمل لكان منفيًّا عن الزَّوجِ غير لاحقٍ به أشبه أو لم يُشبه، أَلَا ترى أنَّها لو كانت وضعته قبل أن يقذِفَها بنفى ولدها، وكان أشبه النَّاس به أنَّه يُلَاعِنُ بينهما ويُفرَّقُ، ويُلزم الولد أمَّه ولا يَلحَقُ بالمُلَاعن لِشَبَهه، وفي هذا دليلٌ على أنَّ اللِّعانَ لم يكن ينفي الولد حال كونه حملًا، وهذا أعجب مِن الأوَّل.
          قالوا: وقد سلف حديثُ: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسودَ وإنِّي أُنكرتُه، فلمَّا لم يُرَخَّص له في نفيه لبعد شبهه منه، وكان الشَّبهُ غيرَ دليلٍ، ثبت أن جعلَه ◙ ولد المُلاعَنَة مِن زوجها إن جاءت به على شَبَهه دليلٌ على أنَّ اللِّعان لم يكن نفاه.
          قلتُ: ذاك الحديث لا لِعَان فيه والفراشُ قائمٌ.
          ثمَّ قالوا: فإن قيل: قوله ◙: ((الوَلَدُ للفِرَاشِ)) فيه دِلالةٌ على أنَّ نفي الولد لا يُوجِب اللِّعان؟ قيل: قد سلف التَّفريق بينهما وإلزام الولدِ أُمَّه، قالوا: وهي سنَّةٌ لا يُعلم شيئًا نسخها ولا عارَضَها، قال: وعلى هذا إجماع الصَّحابة ومَن بعدهم.
          فَصْلٌ: قوله: (فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلعم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا) يحتمل أن تكون الكراهةُ لكثرة المسائل، ويحتمل أن تكون لقُبح هذه المسألة، أو كَرِهَ السُّؤالَ عمَّا لا حاجةَ إليه، فأمَّا ما كان سؤالًا على وجه التَّبيين والتَّعليم مِن أمر الدِّين فلا بأس بها، وقد كان ◙ يُسأل عن الأحكام فلا يَكرهُ ذلك، وقيل: كره قذف الرَّجل امرأتَه ورميها مِن غير بيِّنةٍ.
          فَصْلٌ: وفيه الاستفهام بـ(أَرَأَيْتَ) عن المسائل وكان قديمًا، وفيه قَبول خبر الواحد.
          فَصْلٌ: قوله: (أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ) يلزم منه أنَّه إن قتلَهُ لم يكن فيه قِصَاصٌ ولا غيره، وقد عضَّده قول سعْدٍ: لو رأيته ضربته بالسِّيف، ولم يُنكِر ◙ بل صوَّبه بقوله: ((تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سعدٍ))، ولهذا قال أحمدُ: يُهدَر دَمُهُ إذا جاء القاتل بشاهدَين، واختلف أصحابُ مالكٍ في ذلك، فقال ابن القاسم: يُهدَر دمهُ إن قتلَه إذا قامت البيِّنة مُحصَنًا كان أو غيرَ مُحصَنٍ، واستحبَّ الدِّية في المُحصَن، وقال ابنُ حبيبٍ: إن كان مُحصَنًا فهو الَّذي يُنجِي قاتله البيِّنة، وقد اختلف عن عُمَرَ في هدْرِ دمِ مَن قُتل هكذا، وقد سلف ما فيه، وعن عليٍّ يُقادُ منه، فأمَّا إذا لم يأتِ ببيِّنةٍ فإنَّه يُقتل به ولا يُقبل قولُه عند الجمهور.
          وقال الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ: يَسَعُه فيما بينه وبين الله إذا كان مُحصَنًا، والبيِّنة أربع عُدولٍ، فيشهدون على نفس الزِّنا، وقيل: يجب على كلِّ مَن قتلَ زانيًا مُحصَنًا القِصَاصُ ما لم يأمر السُّلطان بقتله.
          فَصْلٌ: اختلفوا في العبد تكون تحتَه الحرَّة، أو الحرِّ تكون تحته الأَمَةُ، هل بينهما تَلَاعُنٌ؟ فقال إبراهيمُ والشَّعبيُّ فيما ذكره ابن أبي شَيْبَة: إذا كانت أَمَةٌ تحت حُرٍّ فقذفَها لا يُضرَب ولا يُلَاعَن، وإذا كانت الحرَّة تحت العبد فقذفها، قال الحكم وحمَّادٌ: ليس بينهما تَلَاعُنٌ ويُجلَد، وقاله أيضًا عطاءٌ وعامرٌ بزيادةِ: ويلزق به الولد، وهو قول أبي حنيفة.
          فَصْلٌ: وإذا قذفَ زوجتَه ثمَّ مات قبل المُلَاعَنة، فقال عطاءٌ وإبراهيمُ: يتوارثان ما لم يَلْتَعِنا، زاد عطاءٌ: ويُجلَد، وقال عِكْرمةُ: إن كذَّب نفسَه جُلد وورثَها، وإن أقام شهودًا وَرِث، وإن حلف لم يَرِث. وقال أبو الشَّعثاء: إذا مات أحدُهما قبل المُلَاعَنة إن أقرَّت المرأةُ رُجمت وصار إليها الميراث وإن الْتَعَنت ورِثَت، وإن لم تقرَّ بواحدٍ منهما فلا ميراثَ لها ولا عِدَّة عليها، وعن الزُّهريِّ: إذا قذفها ثمَّ مات يَرِثها زوجُها ولا مُلَاعنة بينهما، وعن الشَّعبيِّ: إذا قذفَها ثمَّ ماتت قبل أن يُلَاعنها فإن شاء أكذبَ نفسه وَوَرِثَ، وإن شاء لاعَنَ ولم يرث، وقال الحسن: إذا قذف امرأتَه وهي صغيرةٌ فلا حدَّ ولا لِعَانَ.
          ولمَّا سأل حَنْبلُ أبا عبد الله عن حديث سُفْيَان، عن خالدٍ، عن عِكْرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ في النَّصرانيَّة إذا أسلمت تحتَ نَصْرانيٍّ قال: يُفرَّق بينهما، ولا يُلَاعن نصرانيٌّ مُسلمةً، قال أبو عبد الله: اضربْ على: لا يُلَاعِن نَصْرانيٌّ مسلمةً، فإنِّي أراه مِن كلام سُفْيَان، ليس هو مِن الحديث. قلتُ: فالَّذي تراه؟ قال: أرى أنَّه يُلاعِنها لأنَّها زوجةٌ وإليه ذهب أبو حنيفة.
          قال أبو عُمَر: وله في ذلك حججٌ لا تقومُ على ساقٍ، منها حديث عَمْرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا: ((لَا لِعَانَ بينَ مملوكَين ولَا كَافِرَين))، وليس دون عَمْرٍو مَن يحتجُّ به.
          فَصْلٌ: صحَّ عن عُمَرَ ☺ أنَّه كان يحدُّ في التَّعريض بالقَذْف، وهو قول مالكٍ وعنده: إذا قذفَ امرأةً برجلٍ سمَّاه ليس على الإمام أن يعلَمَ المقذوف، وهو أحدُ قولي الشَّافعيِّ محتجِّين بقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]؛ ولأنَّ العَجْلانيَّ رمى امرأته بشَرِيكٍ فلم يَبْعَثْ الشَّارع له ولا أعلَمَه، وقد أسلفنا عن مُقَاتلٍ خِلافُ ذلك.
          وقالت طائفةٌ: عليه أن يعلمَه، لأنَّه حقُّ آدميٍّ حكاه أبو عُمَر وعَزَاه للشَّافعيِّ لقوله ◙: ((وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا))، وقال مالكٌ: إن ذكر المَرْميَّ به في لِعَانه حُدَّ له، وهو قول أبي حنيفة لأنَّه قاذفٌ لمن لم يكن له ضرورةٌ إلى قذفه.
          وقال الشَّافعيُّ: لا حدَّ عليه كما سلف؛ لأنَّ الله لم يجعل على مَن رمى زوجتَه بالزِّنا إلَّا واحدًا ولم يفرِّق بين مَن ذكر رجلًا بعينه وبين مَن لم يَذْكُر، وقد رمى العَجْلانيُّ زوجتَه بشَريكٍ، وكذا هلالُ بن أميَّةَ فلم يُجلد أحدٌ منهما.
          فَصْلٌ: وفيه أنَّ في طبَاعِ البشر أن تكون الغَيرة / تَحملُ على سفك الدِّماء إلَّا أن يَعصِمَ اللهُ عن ذلك بالعِلْم والتَّثبُّت.
          فَصْلٌ: وفيه أنَّ العالِمَ إذا كره السُّؤالَ أن يَعيبَهُ ويُهَجِّنَهُ، وفيه أنَّ مَن لَقِي شيئًا مِن المكروه بسبب غيرِه أن يُؤنِّب صاحبَه الَّذي لقي المكروهَ بسببه ويُعَاتبَه، وفيه أنَّ المحتاجَ إلى المسألة مِن مسائل العِلْم لا يردَعُه عن تفهُّمها غضبُ العالِمِ وكراهتُه لها حتَّى يقفَ على الثَّلج منها، وفيه أنَّ السُّؤال عمَّا يلزمُه عِلْمُه مِن الدِّين واجبُ في المحافل وغيرها، وأنَّه لا حياءَ يلزم فيه، أَلَا ترى إلى قوله: فَأَقْبَلَ عُوَيْمِرٌ حَتَّى أَتَى وَسَطَ النَّاسِ.
          فَصْلٌ: وفيه التلَّاعُنُ في المسجد الجامع، وقد ترجمَ له بعْدُ، واستحبَّ جماعةٌ أن يكون بعد العصر، وفي أيِّ وقتٍ كان في المسجد الجامع أَحْرى، وفيه أنَّ للعالِمِ أنْ يؤخِّرَ الجواب إذا لم يحضره، وفيه أنَّ القرآنَ لم ينزل جُملةً، وأمَّا نزوله إلى السَّماء الدُّنيا فنزل كلُّه.
          فَصْلٌ: اختلف هل للزَّوج أن يُلاعِن مع شهوده؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ: يُلاعِن كان له شهودٌ أم لا؛ لأنَّ الشُّهودَ ليس لهم عملٌ في غير درْءِ الحدِّ، وأمَّا رفْع الفِراش لنفي الولد فلا بُدَّ فيه مِن اللِّعان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنَّما جعل اللِّعان للزَّوج إذا لم يكن له شهودٌ غير نفسه.
          فَصْلٌ: قال ابن القاسم عن مالكٍ: إنَّ كيفية اللَّعان أن يحلِفَ أربعَ مرَّاتٍ، يقول: أشهدُ بالله لرأيتُها تزني، وإن نفى حَمْلَها يقول: ولقد استبرأتُها وما الحمْلُ منِّي، والخامسة يذكر فيها اللَّعنة، وتقوم هي فتقول: أشهد بالله ما رآني أزني، وإنَّ حَمْلي لَمِنْهُ... إلى آخر اللِّعان.
          وقال الشَّافعيُّ: يقول: أشهد بالله إنِّي لمن الصَّادقين فيما رميتُ به زوجتي فلانةَ بنت فلانٍ، ويشير إليها إن كانت حاضرةً، يقول ذلك أربعَ مرَّاتٍ، ثمَّ يَعِظُه الإمام، فإن رآه يريدُ أن يَمضي أَمَرَ مَن يضع يدَه على فيه ويقول: إنَّ اللَّعنة موجبةٌ.
          قال أبو عُمَر: وكان مالكٌ يقول: لا يُلَاعِن إلَّا أن يقول: رأيتك تزني أو ينفي حَمْلًا أو ولدًا منها، ووافقَه يحيى بن سعيدٍ وأبو الزِّناد واللَّيثُ وعُثْمان البتِّيُّ أنَّها لا تجِبُ إلَّا بالرُّؤية أو نفي الحمل مع دعوى الاستبراء، وعندَهم إذا قال لزوجته: يا زانيةُ جُلِدَ الحدَّ، وحجَّتهم قائمةٌ مِن الآثار، منها قوله: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا)، ومنها حديث أبي داودَ عن هلالٍ: يا رسول الله: رأيتُ بعيني وسمعتُ بأذني. فلا يجوز تعدِّي ذلك.