التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التفريق بين المتلاعنين

          ░34▒ (بَابُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلاَعِنَيْنِ)
          5313- ذكر فيه حديثَ نافعٍ: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ☻ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا وَأَحْلَفَهُمَا).
          5314- وعنه: (لَاعَنَ رَسُولَ اللهِ صلعم بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا).
          قد أسلفنا اختلافَ العلماء متى تقع الفُرقة باللِّعان؟ وقد ذكر ابن المنذر عن ابن عبَّاسٍ أنَّ بانقضائه تقع وإن لم يُفرِّق الحاكم، وهو قول رَبِيعةَ ومالكٍ واللَّيثِ والأوزاعيِّ وَزُفَرَ وأبي ثورٍ، وقال الثَّوريُّ وأبو حنيفة وصاحباه: لا تقعُ بتمامه حتَّى يفرِّق بينهما الحاكم، وبه قال أحمد، وقال الشَّافعيُّ: إذا أكمل الزَّوجُ اللِّعانَ وقعت الفُرقة بينهما ولم يتوارثا، ولو لم تُكمل الفُرْقة ومات وَرِثَه ابنُه.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ فقال: لمَّا كان الْتِعَانُ الزَّوج يُسقطُ الحدَّ وينفي الولدَ كان يقطع العِصْمة ويرفع الفراش؛ لأنَّ المرأةَ لا دخل لها في الفِرَاق وقطع العِصْمة، ولا معنى لالْتِعَان المرأة إلَّا في درْءِ الحدِّ عنها. وقولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ...} الآيات [النور:6] خِلافه، وعلى قولِه ينبغي ألَّا تُلاعَن المرأة وهي غير زوجةٍ، وقد اتَّفقوا أنَّه مَن طلَّق امرأته وأَبَانها ثمَّ قذفها أن لا يُلاعِن لانتفاء الزَّوجية، لذلك لو بانت بلِعَانه لم يَجُز لِعَانها.
          حجَّة الثَّوريِّ ومَن وافَقَهُ حديثُ الباب، حيثُ أضاف الفُرقةَ إليه لا إلى اللِّعان، قالوا: ولمَّا اعتبر فيه حضوره فكذا تفريقُه، بخلافِ الطَّلاق قياسًا على العِنِّين أنَّه لا يفرِّق بينه وبين امرأته إلَّا الحاكم، وحجَّة مالكٍ ومَن وافقه حديث ابن عُمَر أنَّه ◙ فرَّق بين المتُلَاعِنين بلِعَانهما جميعًا، وهو دالٌ على أنَّ اللِّعان يُوجِب الفُرقة الَّتي قضى بها ◙ عند فراغهما منه، وقال: ((لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)) إعلامًا منه أنَّ اللِّعان رفع سبيله عليها، وليس تفريقه بينهما استئناف حُكمٍ وإنَّما كان تنفيذًا لِمَا أوجبَ اللهُ مِن المباعدة بينهما وهو معنى اللِّعان لغةً، وهي مفاعلةٌ بين اثنين، ولو كان النِّكاح بينهما باقيًا حتَّى يفرِّق الحاكمُ لكان إنَّما يُفرِّق بين زوجين صحيح النِّكاح غير فاسدٍ مِن غير سببٍ حدَثَ مِن أجله فساده، فإن قال ذلك خرج مِن قول جميع الأمَّة، وأجاز للحاكم التَّفريق بين مَن شاء مِن الأزواج مِن غير سببٍ حدَثَ بينهما يبطُلُ به نِكَاحهم، وقياسُه على العِنِّين خطأٌ لأنَّه يجوز لها أن تُرَاجع العِنِّين إن رضيت به، ولا يجوز لها مراجعة المُلَاعِن، فافترقا.
          قال ابن المنذر: وفي إجماعهم أنَّ زوجةَ المُلاعِن لا تحِلُّ له بعد زوجٍ إذا لم يكذِّب نفسَه دليلٌ بيِّنٌ أنَّه لم يكن مُنفَسِخًا باللِّعان، وكان طلاق العَجْلانيِّ يقع عليها، وكانت تحِلُّ له بعد النِّكاح، وجمهور العلماء أنَّ المُتَلاعِنَين لا يتناكحان أبدًا، وإن أكذبَ نفسَه جُلِد الحدَّ ولحِقَ به الولد، ولم ترجع إليه أبدًا، قال مالكٌ: وعلى هذا السُّنن الَّتي لا شكَّ فيها ولا اختلاف.
          وذكر ابن المنذر عن عَطَاءٍ: أنَّ المُلاعِن إذا أكذبَ نفسه بعد اللِّعان لم يُحَدَّ، وقال: قد تفرَّقا بلعنةٍ مِن الله. وقال أبو حنيفة ومحمَّدٌ: إذا أكذبَ نفسَه جُلد الحدَّ ولحِقَ به الولد، وكان خاطبًا مِن الخُطَّاب إن شاء، وهو قول سعيد بن المسيِّب والحسَنِ وسَعِيد بن / جُبيرٍ، ونقلَه ابن التِّين عنهم خلا الحسن، وزاد محمَّد بن الحسنِ: إذا أكذبَ نفسَه ارتفع التَّحريمُ، ثمَّ عادت زوجةً إن كانت في العِدَّة، وحجَّة هؤلاء الإجماعُ على أنَّه إن أكذبَ نفسَه جُلِدَ الحدَّ ولحِقَ به الولد، قالوا: فَيعُود النِّكاحُ حلالًا كما عاد الولد؛ لأنَّه لا فرق بين شيءٍ مِن ذلك، وحجَّة الجماعة في أنَّهما لا يجتمعان أبدًا: أنَّه ◙ فرَّق بينهما، وقال: ((لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، ولم يقل: إلَّا أن تكذِّب نفسَك، فكان كالتَّحريم المؤبَّدِ في الأمَّهات ومَن ذُكِرَ معهنَّ، وهذا شأنُ كلِّ تحريمٍ مُطلق التَّأييد، ألا ترى أنَّ المطلِّقَ ثلاثًا لمَّا لم يكن تحريمُه تأبيدًا وقع فيه الشَّرط بنكاح زوجٍ غيره، ولو قال: فإن طلَّقها فلا تحِلُّ له، لكان تحريمًا مطلقًا لا تحِلُّ له أبدًا.
          وقد أطلق الشَّارع التَّحريم في المُلَاعَنة ولم يخصَّه بوقتٍ فهو مؤبدٌ؛ فإن أكذب نفسَه لَحِق به الولد؛ لأنَّه حقٌّ جَحَده ثمَّ عاد إلى الإقرار به وليس كذلك النِّكاح، لأنَّه حقٌّ ثبتَ عليه لقوله: ((لَا سبيلَ لكَ عليها))، فلا يتهيَّأ له إبطالُه، وقد روى ابنُ إسحاقَ وجماعةٌ عن الزُّهريِّ قال: مضت السُّنَّة بأنَّهما إذا تَلَاعَنا فُرِّق بينهما فلا يجتمعان أبدًا. وأغربَ أبو عبد الله محمَّد بنُ أبي صُفرَةَ فقال: اللِّعان لا يرفعُ العِصْمةَ لقول عُوَيمرٍ: (كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا).