التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من خير نساءه

          ░5▒ (بَابُ مَنْ خَيَّرَ نِسَاءَهُ، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ...} الآية [الأحزاب:28])
          5262- ثمّ ساق حديثَ مَسْرُوقٍ: (عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: خَيَّرَنَا النَّبِيُّ صلعم فَاخْتَرْنَا اللهَ وَرَسُولَهُ، فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا).
          5263- وعنه أيضًا سألتُها عن الخِيَرَةِ فقالت: (خَيَّرَنَا رَسُولُ اللهِ صلعم أَفَكَانَ طَلاَقًا؟! قَالَ مَسْرُوقٌ: لاَ أُبَالِي خَيَّرْتُهَا وَاحِدَةً أَوْ مِائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي).
          وقد رُوي مثلُ قول مَسْرُوقٍ عن عُمَرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وزيدِ بن ثابتٍ وابنِ عبَّاسٍ وعَائِشَةَ ♥، ومِن التَّابعين عَطَاءٌ وسُلَيمانُ بن يَسَارٍ وربيعةُ والزُّهريُّ، كلُّهم قالوا: إذا اختارت زوجَها فليس بشيءٍ، وهو قول أئمَّة الفتوى، ورُوي عن عليٍّ وزيد بن ثابتٍ: إن اختارت زوجَها فواحدة، وهو قول الحسن البصريُّ، والأوَّل هو الصَّحيح لحديث عَائِشَة ♦، وقد أوضحنا ذلك في تفسير سورة الأحزاب بزيادةٍ.
          والتَّخيير _كما سلف_ هو أن يجعلَ الطَّلاق إلى المرأة، فإن لم تمتثل فلا شيءَ عليها كغيرها، والفرْقُ بين التَّخيير والتَّمليك عند مالكٍ أنَّ قولَ الرَّجل: قد ملَّكتُك، أي قد ملَّكتُكِ ما جعلَ اللهُ لي مِن الطَّلاق واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا، فلمَّا جاز أن يملِّكَها بعضَ ذلك دون بعضٍ وادَّعى ذلك كان القول قوله مع يمينه.
          وقال في الخِيَار: إذا اختارَتْ نفسَها المدخولُ بها فهو الطَّلاق كلُّهُ، وإن أنكر زوجُها / فلا يكره له وإن اختارت واحدةً فليس بشيءٍ، وإنَّما الخِيَارُ البَتَاتُ إمَّا أخذته وإمَّا تركته؛ لأنَّ معنى التَّخيير: التَّسريح، قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ...} الآية [الأحزاب:28]، فمعنى التَّسريح البَتات؛ لأنَّ الله تعالى قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}، والتَّسريح بإحسانٍ هي الثَّالثة كما سلف، وقال جماعةٌ: أمرُك بيدِكِ، واختاري، سواءٌ. قال الشَّعبيُّ: هو في قولُ عُمَر وعليٍّ وزيدِ بن ثابتٍ سواءٌ، وهو قول النَّخَعِيِّ وحمَّادٍ والزُّهريِّ وسُفْيَانَ والشَّافعيِّ وأبي عُبيدٍ.
          فَصْلٌ: اختلفت المالكيَّة: هل له أن يُناكرها في التَّخيير؟ فقال مالكٌ وأكثر أصحابه: لا مُنَاكرةَ له إذا طلِّقت ثلاثًا، وقال ابن الجَهْم وسَحْنُون: له أن يُنَاكرها، واختلفا ما الَّذي يكون عليه، فقال سُحْنُون: واحدةٌ رجعيةٌ كالتَّمليك، وقال ابنُ الجَهْم: بائنةٌ، قال ابنُ سَحْنُون: وأكثرُ أصحابنا يقولون به، ومثله حكى ابن خُوَيْزَمَنْدَادٍ في الخِيَار عن مالكٍ أن يحملَهُ على ذلك.
          فَرْعٌ: فإن خيَّرها فاختارت دون الثَّلاث، فقال مالكٌ: ليس بشيءٍ، وذلك إبطالٌ لحقِّها، وقال عبد الملك: إنَّه اختيار الثَّلاث. وقال: في كتاب محمَّدٍ نحوه: إذا قضت بواحدةٍ كانت البتَّة، فإن أرادت بعد ذلك أن تقضي على قول مَن أسقط ما اختارته، فالجماعة على أنَّ ليس لها ذلك إلَّا أشهبَ قال: لها أن ترجع فتقضي بالثَّلاث فحصل مِن هذا أنَّ التَّخييرَ عند مالكٍ ثلاثٌ ولا يُنَاكرها، والتَّمليك له أن يُنَاكرها ويحلف إذا أراد رجعتَها، هذا الصَّحيح.
          وقال محمَّدٌ: يحلِفُ مكانه، وقال ابن سَحْنُون: هما سواءٌ يُنَاكرها فيهما، وقال الدَّاوديُّ: قال قومٌ في التَّخيير: هما سواءٌ، لقول مالكٍ في التَّمليك، وقالوا في التَّمليك كقوله في التَّخيير.
          فَصْلٌ: وقول مَسْروقٌ: (لَا أُبَالِي...) إلى آخره، فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وذلك أنَّه قال: لا أبالي بعد أن تختارني أكنتُ خيَّرتُها واحدةً أو مئةً، ذكره ابن التِّين.
          فائدة: الخِيَرَة بكسر الخاء وفتح الياء، وهو مِن الخِيَار.