التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القسط للحادة عند الطهر

          ░48▒ (بَابُ الْقُسْطِ لِلْحَادِّ عِنْدَ الطُّهْرِ)
          5341- ذكر فيه حديثَ أمِّ عطيَّةَ ♦: (كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ...) الحديث سلف في غُسل المحيض [خ¦313] سندًا ومتنًا.
          ثمَّ ترجم عليه:
          ░49▒ (بَابُ تَلْبَسُ الْحَادُّ ثِيَابَ الْعَصْبِ)
          5342- 5343- ثمَّ ساقَه.
          ثمَّ قال: (وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ: نَهَى النَّبِيُّ صلعم: وَلاَ تَمَسَّ طِيْبًا إِلَّا أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا طَهُرَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ).
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) البخاريُّ: و(القُسْطُ، والْكُسْتُ مِثْلُ الْكَافُورِ وَالْقَافُورِ).
          الشرح: (الْعَصْب) بسكون الصَّاد المهملة قبلها عينٌ مهملةٌ مِن البُرُود والحِبَر، لأنَّهُ يُعصَبُ غزلُهُ ثمَّ يُصبَغ قبل نسجِهِ، وربَّما سَمُّوا الثَّوبَ عَصْبًا فقالوا: عَصْبُ اليمن، و(القُسْطُ) بالقاف والكاف بخورٌ معلومٌ وهو القُسط الهِنديُّ، وهو عربيٌّ، قاله ابنُ فارسٍ في القُسط، وكذلك الأَظْفَارُ وهي شيءٌ مِن العِطْر شبيهةٌ بالظِّفر، ولا يصحُّ قُسْط أظفارٍ، ولا جَزْع أظفارٍ على الإضافة، ولا وجه له، ويقال أيضًا: قُسْطُ ظَفَارٍ، وجَزْع ظَفَارٍ منسوبٌ إلى مدينةٍ باليمن يُقَال لها: ظَفَارٌ.
          وقال ابن التِّين: قوله: (مِنْ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ) يريد: مِن قُسْط ظَفَارٍ، كما قال في البخاريِّ مِن جَزْع أظفارٍ، فقالوا: فيه جَزْعُ ظَفَارٍ.
          والنُّبْذَةُ ما نبذْتَهُ وطرحتَهُ مِن الكُسْتِ في النَّار قَدْرَ ما يتبخَّرُ به، وهو اليسيرُ مِن كلِّ شيءٍ، وقال الدَّاوديُّ: يُسحق الكُسْتُ فيُلْقَى في الماء الَّذي يُغْسل به مِن آخر الغُسْلِ ليُذهب رائحة الحيضِ.
          وقوله: (وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ) يريد محمَّدَ بنَ عبد الله بن المثنَّى قاضي البصرة شيخَه، ولعلَّه أخذَه عنه مذاكرةً، فلهذا لم يأتِ عنه بصيغة التَّحديث.
          قال ابن المنذر: أجمع العلماءُ غيرُ الحسَنِ على منْعِ الطِّيب والزِّينة للحادَّة، إلَّا ما ذُكر في حديثِ أمِّ عطيَّةَ ممَّا رخصَّ لها عند الطُّهْر مِن المحيض مِن النُّبذة مِن القُسط؛ لأنَّ القُسطَ ليس مِن الطِّيب الَّذي مُنعت منه، وإنَّما تستعمل القُسْطَ على سبيل المنفعة ودفعِ الرَّوائح الكريهة والنَّظافة، وقد رُخِّص لها في الدُّهن بما ليس بطِيبٍ، هذا قول عطاءٍ والزُّهريِّ ومالكٍ والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ، وقال مالكٌ: تَدَّهِنُ المتوفَّى عنها زوجها بالزَّيت والشِّبْرِقِ وما أشبه ذلك إذا لم يكن فيه طِيبٌ. قال مالكٌ: وَبَلَغني أنَّ أمَّ سَلَمَة أمَّ المؤمنين كانت تقول: تجمع المرأة الحادَّة رأسَها بالشِّبْرِقِ والزَّيت، وذلك ليس بطِيبٍ. وقال عطاءٌ: تمتشط بالحِنَّاءِ وَالكَتَمِ. وقال مالكٌ: لا تمتشِطُ بهما ولا بشيءٍ ممَّا يختمِرُ، وإنَّمَا تمتشِطُ بالسِّدرِ ونحوه مما لا يختمِرُ في رأسها. ونهى عن الامتشاطِ وكَرِهَ الخِضَاب ابنُ عُمَر وأمُّ سَلَمَة وعُرْوةُ وسعيدُ بن المسيِّب.
          وقال ابن المنذر: لا يُحفَظ عن سائر أهل العِلْم في ذلك خِلافًا، والخِضَاب داخلٌ في جملة الزِّينة المنهيِّ عنها، قال: وأجمعوا أنَّه لا يجوز لها لباس المُصبَّغة والمُعَصْفَرة إلَّا ما صُبغ بالسَّواد، وقد رَخَّص في السَّواد عُرْوةُ بن الزُّبير ومالكٌ والشَّافعيُّ، وكره الزُّهريُّ لُبْسَه، وكان عُرْوةُ يقول: لا تلبسوا مِن الحُمرة إلَّا العَصْبِ. وقال الثَّوريُّ: تتَّقِى المصبوغَ إلَّا ثوبَ عَصْبٍ. وقال الزُّهريُّ: لا تَلْبَسُ العَصْب. وهو خِلاف الحديث، وكان الشَّافعيُّ يقول: كلُّ صِبغٍ يكون زينةً ووُشِيَ في الثَّوب كان زينةً أو تلميعٍ مثل العَصْبِ والحِبَرَة والوَشْيِ وغيرِه، فلا تلبسُه الحادُّ غليظًا كان أو رقيقًا.
          وعن مالكٍ: تجتنبُ الحِنَّاء والصِّباغ إلَّا السَّواد، فلها لُبْسه وإن كان حريرًا، ولا تلبس الملوَّنَ مِن الصُّوف وغيره ولا أدكنَ ولا أخضرَ، وقال في «المدوَّنة»: إلَّا أن لا تجدَ غيرَه فيجوز لها لُبْسه، قال: ولا تَلْبَسُ رَقِيقَ ولا عَصْبَ اليمنِ، ووسَّع في غليظه، وتَلْبَسُ رَقِيقَ البياض وغليظَه مِن الحرير والكتَّان والقُطْنِ.
          والأصحُّ عندنا عدمُ تحريم الإِبْرَيْسَم، قال ابنُ المنذر: رخَّص كلُّ مَن أحفظُ عنه في لباس البياض. قال الأَبْهَريُّ: وهذه الثِّياب الَّتي أُبيحت لها لا زينة فيها، وإنَّما هي ممنوعةٌ مِن الزِّينة والطِّيب دون غيرِها مِن اللِّباس.
          والأصحُّ عندنا / أنَّه لا يحرُمُ ما صُبغ غزْلهُ ثمَّ نُسِج كالبُرُود، وأجابوا عن قوله: (إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ) على ما يُبَاح مِن المصبوغ على أنَّ في روايةٍ للبيهقيِّ: ((ولا ثوبَ عَصْبٍ))، لكن قال: إنَّها ليست بمحفوظةٍ.
          ويحرُمُ عندنا حُلِيُّ الذَّهب والفِضَّة للنَّصِّ فيه في «سُنن أبي داودَ» والنَّسائيِّ بإسنادٍ حَسَنٍ، وكذا لُؤلُؤ في الأصحِّ، وسلف عن الحسَنِ البصريِّ مِن بين سائر أهل العِلْم أنَّه كان لا يرى الإحداد، وقال: المطلَّقة ثلاثًا والمتوفَّى عنها زوجها تَكْتَحلانِ وتَمْتَشطانِ وتَنْتَعلانِ وتَخْتَضبانِ وتَتطيَّبانِ وتَصْنَعانِ ما شاءا.
          قال ابنُ المنذر: وقد ثبت الإخبار عن رسول الله صلعم بالإحداد، وليس لأحدٍ بَلَغَته إلَّا التَّسليمُ لها، ولعلَّه لم تَبْلُغه أو بَلَغَته وتأوَّل حديثَ أسماء بنت عُمَيسٍ، روى حمَّاد بن سَلَمَة، عن الحجَّاج، عن الحسن بن سعْدٍ... وساق الحديث السَّالف، قال: وقد دفَعَ أهلُ العِلْم هذا الحديثَ بوجوهٍ، وكان أحمدُ يقول: هذا الشَّاذ مِن الحديث لا يُؤخَذ به، وقاله إسحاق.
          وقال أبو عُبَيدٍ: إنَّ أُمَّهات المؤمنين اللَّواتي رُوي عنهنَّ خِلافُه أعلمُ برسول الله صلعم، ثمَّ كانت أمُّ عطيَّة تحدِّث به مفسَّرًا فيما تَجْتَنبه الحادُّ في عدَّتِها، ثمَّ مضى عليه السَّلف، وكان شُعْبة يحدِّث به عن الحَكَم ولا يُسْنده.
          فَصْلٌ: قولُها في الحديث الأوَّل: ((وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ)) سلف بحكمه في الجنائز، قال ابن التِّين عن ابن القُرْطبيِّ: لا بأس أن يتَّبعها النِّساءُ ما لم يُكْثِرن التِّردادَ، وفي «المدوَّنة»: لا باس أن تتَّبع النِّساءُ الجنائزَ وإن كانت شابَّةً، فتخرجَ على الزَّوج والأخ والوالد والولد، ويُكْرَه لها الخروج على غيرهم، وكرهَه ابنُ حبيبٍ لجميعهم بهذا الحديث.