التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الظهار

          ░23▒ (بَابُ الظِّهَارِ
          وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا...} إِلَى قَوْلِهِ {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:1-4]، وَقَالَ لِيْ إِسْمَاعِيْلُ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ، فَقَالَ: نَحْوَ ظِهَارِ الْحُرِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ شَهْرَانِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: ظِهَارُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ مِنَ الْحُرَّةِ وَالأَمَةِ سَوَاءٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنْ ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا الظِّهَارُ مِنَ النِّسَاءِ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا أَيْ فِيمَا قَالُوا، أَوْ فِي بَعْضِ مَا قَالُوا، وَهَذَا أَوْلَى؛ لأَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ).
          الشرح:
          هذه المجادِلَة خَوْلَةُ عند أهل التَّفسير، وزوجُها أَوْسُ بنُ الصَّامت، وقيل: هي بنتُ خُوَيلدٍ أو دُلَيجٍ، وقيل: بنتُ ثَعْلبةَ، أنصاريَّةٌ، وقيل: بنتُ الصَّامت، وقيل: كانت أَمَةً لعبد الله بن أبيٍّ، وهي الَّتي نزل فيها: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ} [النور:33].
          وقولُه: {تَحَاوُرَكُمَا} قالت عَائِشَةُ ♦: كانت تُحاوِرُ النَّبيَّ صلعم وأنا بِقُربِها لا أسمَعُ. قال الشَّافعيُّ: سمعتُ مَن يُرضَى مِن أهل العِلْم بالقرآن يَذكُرُ أنَّ أهلَ الجاهليّة كانوا يطلِّقون بثلاثٍ: الظِّهار والإيلاء والطَّلاق، فأقرَّ اللهُ الطَّلاقَ طلاقًا، وحكمَ في الظِّهار والإيلاء بما بيَّنَ.
          و(الظِّهُار) بكسر الظَّاء مُظَاهرَةُ الرَّجل مِن امرأته إذا قال: هي كَظَهْرِ ذاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، قاله صاحبُ «العين»، وعبارة صاحبِ «المُحكَم»: ظاهَرَ الرَّجلُ امرأتَه ومنها مُظَاهرةً وظِهَارًا إذا قال: هي عليَّ كَظَهْر ذات رحمٍ مَحْرَمٍ، وقد تَظَهَّرَ منها وتظاهر. زاد المُطَرِّزيُّ: واظَّاهر، وفي «جامع القزَّاز»: ظاهَرَ الرَّجل مِن امرأته إذا قال: أنت عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي أو كذات مَحْرمٍ.
          وقولُه: (وَقَالَ لِي إِسْمَاعِيلُ...) إلى آخره، قد سلف قريبًا أنَّه أخذَه مذاكرةً، وعند ابن أبي شَيْبَةَ: حدَّثنا أبو عِصَامٍ عن الأوزاعيِّ، عن الزُّهريِّ نحوه، وفي «موطَّأ مالكٌ»: أنَّه سأل ابنَ شِهَابٍ عن ظِهَار العبدِ فقال: نحو ظِهَار الحرِّ، قال مالكٌ مرَّةً: إنَّه يقع عليه كما يقع على الحرِّ.
          (قَالَ مَالِكٌ: وَصِيَامُ الْعَبْدِ في الظِّهارِ شَهْرَانِ) كما ساقَه البخاريُّ.
          وأثرُ عِكْرِمَة ذكرَه ابنُ حزمٍ، قال: ورُوي أيضًا مثلُه عن الشَّعبيِّ ولم يصحَّ عنهما، وصحَّ عن مجاهدٍ في أحدِ قولَيه وابنِ أبي مُلَيْكَةَ، وهو قول أبي حنيفة والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأصحابهم، إلَّا أنَّ أحمدَ قال في الظِّهار: مَن مَلَك كفَّارةً ككفَّارة يمينٍ.
          وقال بعضُهم: إن كان يَطَؤُها فعليه كفَّارة الظِّهار، وإلَّا فلا كفَّارة ظهارٍ عليه، صحَّ هذا القول عن سعيد بن المسيِّب والحسنِ وسُلَيْمَانَ بن يَسَارٍ ومُرَّة الهمدانيِّ والنَّخَعيِّ وابنِ جُبَيرٍ والشَّعبيِّ وعِكْرِمَة وطَاوُسٍ والزُّهريِّ وقَتَادَةَ وعَمْرِو بنِ دِينارٍ ومنصورِ بنِ المُعْتَمر، وهو قول مالكٍ واللَّيثِ والحسنِ بن حَيٍّ وسُفْيَان الثَّوريِّ وأبي سُلَيْمَان وجميع أصحابنا.
          فَصْلٌ: مَا ذكرَه عن عِكْرمَة قال به الشَّافعيُّ وأبو حنيفة وأحمدُ، وقال عليٌّ وابنُ الزُّبير: يلزمه الظِّهارُ كالحرَّة، وبه قال سُفْيَان الثَّوريُّ ومالكٌ.
          فَصْلٌ: ولم يذكر البخاريُّ في الباب حديثًا؛ لأنَّه لم يجدْه على شرطه، وأمَّا الحاكم فما خرَّجه على شرطه وشرط مُسلمٍ كما سأذكرُه لك في الباب، وأمَّا ابنُ العربيِّ فقال: ليس في الظِّهار حديثٌ صحيحٌ يعوَّل عليه.
          فَصْلٌ: قولُه: (وَفِي الْعَرَبِيَّةِ لِمَا قَالُوا...) إلى آخره، كأنَّ البخاريَّ أخذَه مِن «المعاني» للفرَّاء، وأمَّا الأخفش فقال: المعنى على التَّقديم والتَّأخير، والَّذين يظهرونَ مِن نسائهم ثمَّ يعودون فتحرير رقبةٍ لِمَا قالوا، وهو قولٌ حسنٌ كما قاله ابن بطَّال، وفيه وجهان آخران:
          أحدُهما: أن (ما) بمعنى مَنْ، كأنَّه قال: ثمَّ يعودون لمن قالوا فيهنَّ أو لهنَّ: أنتُنَّ علينا كظُهور أمَّهاتنا.
          ثانيهما: أن تكون (ما): مع _أي يعودون لِمَا كانُوا عليه مِن الجِمَاع قبل التَّحريم_ قالوا بتقدير المصدر، فيكون التَّقدير: ثمَّ يعودون للقول، فسمَّى القولَ فيهنَّ باسم المصدر، وهو القول كما قالوا: ثوبٌ نسجُ اليمنِ، ودرهمٌ ضربُ الأميرِ، وإنما هو منسوجُ اليمن ومضروبُ الأمير.
          فَصْلٌ: اختلف العلماءُ في كفَّارة الظِّهار بماذا تجب؟ فقال قومٌ: إنَّها تجبُ بمجرَّدِ الظِّهار، وليس مِن شرطها العَوْدُ، رُوي هذا عن مجاهدٍ، وبه قال سُفْيَانُ الثَّوريُّ، وذهب جماعةٌ مِن الفقهاء إلى أنَّها تجبُ بشرطين وهما: الظِّهار، والعَوْدُ، وقال أبو حنيفة: هي غير واجبةٍ بالظِّهار ولا بالظِّهار والعَوْدِ، لكنَّها تحرُمُ عليه بالظِّهار، ولا يجوزُ وَطؤُها حتَّى يُكفِّر.
          واختلف هؤلاء في العَوْدِ على مذاهب، أحدُها: أنَّه العزْمُ على الوطء، قالَه مالكٌ، وحُكي عنه أنَّه الوطءُ بعينه، ولكن تُقدَّم الكفَّارة عليه، وهذا قول ابن القاسم، وأشار في «الموطَّأ» إلى أنَّه العزْمُ على الإمساك والإصابة، وعليه أكثرُ أصحابه، وحكاه ابنُ المنذر عن أبي حنيفةَ، وبه قال أحمدُ وإسحاقُ، وذهب الحسنُ البصريُّ وطاوسٌ والزُّهريُّ إلى أنَّه الوطءُ نفسُه، ومعناه عند أبي حنيفة كما قال الطَّحاويُّ: أن لا يستبيحَ وَطْأَها إلَّا بكفَّارةٍ يُقدِّمها. وعند الشَّافعيِّ: أن يمكنَه طلاقُها / بعد الظِّهار ساعةً فلا يطلِّقها، فإن أمسكها ساعةً ولم يطلِّقها عاد لِمَا قال، ووجبت عليه الكفَّارة ماتت أو مات، وعباراتُهم وإن اختلفت في العَوْدِ فالمعنى متقاربٌ.
          وقال أهل الظَّاهر: هو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كظهر أمِّي ثانيةً، ورُوي هذا القولُ عن بُكَيْرِ بن الأشَجِّ، وهو الَّذي أنكرَه البخاريُّ.
          قال ابنُ حزمٍ: وهو قولنا: فمَن قال مِن حرٍّ أو عبدٍ لامرأته أو أَمَتهِ الَّتي يحلُّ له وطؤُها: أنتِ عليَّ كَظَهْر أمِّي، أو أنتِ منِّي كظهرِ أُمِّي أو مثلَ ظَهْرِ أُمِّي، فلا شيءَ عليه، ولا يحرِّمُ ذلك وطؤُها عليه حتَّى يكون القول بذلك مرَّةً أخرى، فإذا قالها ثانيةً وجبت عليه كفَّارة الظِّهار، وهي عِتقُ رقبةٍ يُجزئ في ذلك المؤمنُ والكافرُ، والسَّالم والمَعِيبُ، والذَّكر والأنثى.
          وصوَّبَ ابنُ المُرابِطِ أن لا يعودَ إلى اللَّفظ، فإذا أجمعَ على إصابتها فقد وَجَبَت عليه الكفَّارةُ، لأنَّ نيَّته وإجماعَه على وطئها هو ما عَقده مِن تحريمها، والرَّبُّ جلَّ جلالُه إنَّما قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3]، ولم يقل: ما قالوا.
          وقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] فالتَّماسُ المذكور أنَّه ليس للمُظَاهِر أن يقبِّل ولا أن يتلذَّذ منها بشيءٍ، وقاله مالكٌ والزُّهريُّ وغيرهما، وهو الصَّواب أن يكون ممنوعًا مِن كلِّ ما وقع عليه اسم مسيسٍ على ظاهر الآية الكريمة؛ لأنَّ الله تعالى لم يخصَّ الوطءَ مِن غيره.
          قال ابنُ حزمٍ: وقالت طائفةٌ كقولِنا، رُوي عن بُكَيْرِ بنِ الأشجِّ ويحيى بنِ زيادٍ الفرَّاء، ورُويَ نحوه عن عَطَاءٍ، قال: ورُوِّينا مِن طريق سُلَيْمَان بنِ حربٍ وعارمٍ، كلاهما عن حمَّاد بن سلَمَةَ، عن هِشَامٍ عن أبيه، عن عَائِشَة ♦: أنَّ جميلَةَ كانتِ امْرأةَ أَوْسِ بن الصَّامت وكان به لَمَمٌ، وكان إذا اشتدَّ لَمَمُه ظاهَرَ منها، فأنزل الله ╡ فيه كفَّارة الظِّهار.
          قال ابن حزمٍ: وهذا يقتضي التَّكرارَ، ولا يصحُّ في الظِّهار إلَّا هذا الخبرُ وحدَه، وخبرٌ آخرُ ذكرَه مِن طريق النَّسائيِّ: أخبرنا الحسين بن حُرَيثٍ، أخبرنا الفضل بن موسى، عن مَعْمَرٍ، عن الحكم بن أبانَ، عن عِكْرِمةَ، عن ابن عبَّاسٍ ☻: أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلعم فقال: إنِّي ظاهرتُ مِن امرأتي فَوَقَعْتُ عليها قبل أن أُكفِّر، فقال له رسولُ الله صلعم: ((لَا تَقْرَبْهَا حتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَك اللهُ)). قال: وهذا خبرٌ صحيحٌ مِن رواية الثِّقات، ولا يضرُّه إرسال مَن أرسله، وكلُّ ما عدا هذا فساقطٌ، إمَّا مرسلٌ وإمَّا مِن رواية مَن لا خير فيه.
          قلتُ: الحديثُ أخرجه أصحابُ السُّنن الأربعة، وقال التِّرمذيُّ فيه: حديث حسنٌ غريبٌ صحيحٌ. وقال النَّسائيُّ وأبو حاتمٍ: مُرسلًا أصوب مِن المسند، ولَمَّا رواه البزَّار مِن حديثِ إسماعيل بن مُسلمٍ، عن عَمْرِو بن دِينارٍ، عن طَاوُسٍ، عن عبد الله بلفظ: فقال ◙: ((أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}؟))، قال: أعجبتي، قال: ((أمسِكْ حتَّى تُكَفِّرَ))، قال: لا نعلمُهُ يروي بإسنادٍ أحسنَ مِن هذا، على أنَّ إسماعيل قد تُكلِّم فيه، وروى عنه جماعةٌ كثيرةٌ مِن أهل العِلْم.
          وقال أبو حاتمٍ في «عِلله»: رواية الوليد عن ابن جُرَيجٍ، عن الحكم بن أبانَ خطأٌ، إنَّما هو عِكْرِمَةُ: أنَّه ◙... مرسلٌ، وفي موضعٍ آخرَ: سُئل عن حديث إسماعيلَ عن عَمْروٍ عن طَاوُسٍ، فقال: إنَّما هو طَاوُسٌ: أنَّ رسول الله صلعم... ومنهم مَن يقول: عن عَمْرو عن عِكْرِمةَ: أنَّه ◙... قال: وإسماعيل هذا مخلِّط.
          وروى التِّرمذيُّ مِن حديثِ يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سَلَمَةَ ومحمَّد بن عبد الرَّحمن: أنَّ سَلْمانَ بن صخرٍ الأنصاريَّ أحد بني بَيَاضةَ جعل امرأتَه عليه كَظَهْرِ أُمِّه حتَّى يمضي رمضان، فلمَّا مضى نِصفٌ مِن رمضانَ وقع عليها ليلًا، فأتى رسولَ الله صلعم فذكرَ ذلك له، فقال له رسول الله صلعم: ((أعتِقْ رقبةً))، قال: لا أجدُها، قال: ((صُمْ شَهرينِ متتابعَين)) قال: لا أستطيعُ، قال: ((أَطعِمْ ستِّينَ مِسكينًا))، قال: لا أجِدُ، فقال رسول الله صلعم لِفَرْوَةَ بنِ عَمْرٍو: ((أَعطِه ذلك العَرَقَ))، وهو مِكْتَلٌ يأخُذُ خمسَةَ عشَرَ صاعًا، أو ستَّة عشر صاعًا، إطعامَ ستِّين مِسكينًا. قال التِّرمذيُّ: حديثٌ حسنٌ، يُقَال: سَلْمانُ بن صخرٍ وسَلَمةُ بن صَخْرٍ البَيَاضيُّ.
          وأخرجَه الحاكم في «مستدركه» وقال: على شرط الشَّيخين، وأما أبو داود وابن ماجه فرَوَياه مِن حديثِ سُلَيْمَان بن يسارٍ عن سَلَمَة بن صخرٍ، وهو منقطعٌ، سُلَيْمَانُ لم يَسمع مِن سَلَمَة، قاله البخاريُّ، وفي إسنادهما مع ذلك عنعنةُ ابن إسحاق.
          وأمَّا الحاكم فأخرجهما وقال: صحيحٌ على شرط مُسلمٍ وله شاهدٌ، فذكر الأوَّل، وأخرجه ابن الجَارُود في «منتقاه»، وأخرج ابن حبَّان في «صحيحه» مِن حديثِ يُوسُف بن عبد الله بن سَلَامٍ _وله صحبةٌ_ عن خَوْلةَ بنت مالكِ بن ثَعْلبةَ أنَّها قالت: فِيَّ والله وفي أَوْسِ بن الصَّامت أنزل الله صدرَ سورة المجادلة، وذلك أنَّ أَوْسًا ظاهَرَ منِّي... الحديث، وفيه: إنِّي سأعينُهُ بعَرَقٍ مِن تمرٍ، قال: ((قدْ أَحْسَنْتِ اذْهَبِي فَأَطْعِمِي عَنْهُ، وَاذْهَبِي إِلَى ابْنِ عَمِّك)).
          وأخرجه ابن الجَارُود في «منتقاة»، ولمَّا رواه أبو داود قال في هذا: أنَّها كفَّرت عنه مِن غيرِ أنْ تَسْتأمره، ورواه أيضًا مِن حديثِ عطاءٍ عن أوسٍ وقال: عَطَاءٌ لم يدرك أوسًا؛ لأنَّه مِن أهل بدرٍ قديم الموت، والحديث مرسلٌ، واختلفت ألفاظُه فروي فيه: خمسة عشر صاعًا، وروي: مِكْتَلٌ تَسعُ ثلاثين صاعًا، وروي: ستِّين صاعًا.
          وروى عبد الغني بن سعيدٍ في «مبهماته» مِن حديثِ اللَّيث عن يحيى بن سعيدٍ، عن عبد الرَّحمن بن القاسم، عن محمَّد بن جَعْفَرٍ، عن عبَّاد بن عبد الله بن الزُّبير، عن عَائِشَة ♦: أنَّ ذلك كان نهارًا، وهو أصحُّ مِن رواية ابن إسحاق: ليلًا. ورواه ابن عَجْلانَ، عن بُكَير بن عبد الله، عن سعيد بن المسيِّب، عن سَلَمةَ.
          وروى البيهقيُّ مِن حديثِ سَلْمانَ، عن سَلَمةَ بن صخرٍ مرفوعًا في المُظاهِرِ يُواقِعُ قبل أن يكفِّر، قال: ((كفَّارةٌ واحدةٌ))، وخرَّجه أيضًا مِن حديثِ يحيى بن أبي كثيرٍ، عن محمَّد بن عبد الرَّحمن بن ثَوْبانَ وأبي سَلَمة بن عبد الرَّحمن: أنَّ سَلَمةَ بن صخرٍ قال... الحديث، وفيه: فأُتي بِعَرَقٍ فيه خمسة عشر صاعًا أو ستَّة عشر، فقال: ((تصدَّق بهذا على ستِّين مسكينًا))، وفي روايةٍ: ((اذهبْ إلى صاحبْ صَدَقَةِ بني زُرَيْقٍ فلعيطك وَسْقًا منها، فأَطْعِمْ سِتِّين مِسْكِينًا وكُلْ بَقِيَّتَها أنتَ وعيالُك)).
          قال البيهقيُّ: وهذا يدلُّ على أنَّه يُطعِمُ مِن الوَسْقِ ستِّين مسكينًا ثمَّ يأكُلُ هو وعيالُه بقيَّة الوَسْقِ، وهذا يشبه أن يكونَ محفوظًا، فقد روى بُكَيْرُ بن الأشَجِّ عن سُلَيْمَان بن يَسَارٍ هذا الخبر، وقال فيه: فأُتِيَ رسولُ اللهِ صلعم / بتمرٍ فأعطاه إيَّاه، وهو قريبٌ مِن خمسة عَشَرَ صاعًا، قال: ((فَتَصَدَّقْ بِهَذَا)) فقال: يا رسول الله، أعلى أفقَرَ منِّي ومِن أهلي؟ فقال: ((كُلْهُ أَنْتَ وأهلُكَ))، وهذا أَوْلَى لموافقته رواية أبي سَلَمةَ وابن ثَوْبانَ. قال: ورُوِّينا عن الأوزاعيِّ _يعني المذكور عند البخاريِّ_ حدَّثني الزُّهريُّ، عن حُميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ في قِصَّة المُجامِعِ في رمضان قال: ((أَطْعِمْ ستِّينَ مِسْكينًا)) قال: ما أجِدُ، فأُتِيَ رسول الله صلعم بعَرَقٍ فيه تمرٌ؛ خمسةَ عشرَ صاعًا قال: ((خُذْهُ وتصدَّقْ بِهِ)). وفي رواية الإسماعيليِّ: فقال: يا رسول الله، أعَلَى غَيْرِ أهْلِي؟ فوالذي نفسِي بيَدِه ما بين طُنُبَيِ المدينةِ أَحَدٌ أحوجُ منِّي، فضَحِك وقال: ((خُذْهُ واسْتَغْفِرْ رَبَّك)).
          فَصْلٌ:
          ولمَّا ذكر ابنُ عبد الحقِّ فيما ردَّه على ابن حزمٍ في «محلَّاه» الحديثَ السَّالفَ الَّذي صحَّحه ابنُ حزمٍ قال: أوردَه حُجَّةٌ له ولم ينتبه إلى أنَّه حجَّةٌ عليه، لأنَّا نقول له: إذا عجز عن الصَّوم هل يكون الإطعامُ عليه واجبًا قبل التَّماسِّ أم لا؟ فإن قال: أن يتماسَّ قبل أن يُطعم؛ لأنَّ الله تعالى لم يقيِّدُ وجوبَ الإطعام بأن يكون قبل التَّماسِّ. قال: يُقال له: متى وجبَ عليه الإطعام عند عَجْزه عن الصَّوم أو بعدَه بمهلةٍ؟ فإن أنصفَ قال: عند عَجْزه عن الصَّوم، وعَجْزُه عن الصَّوم لا يكون إلَّا قبل التَّماسِّ إن امتثلَ ما أُمر به، فقد أُمرَ بالإطعام ووجوبُه قبل التَّماسِّ، والأمر على الفور، فوجب أن يُطعم قبل التَّماسِّ، فالحديثُ نصٌّ في مسألتنا.
          فَصْلٌ: واحتجَّ مَن قال: إنَّ الكفَّارة تجب بمجرَّدِ الظِّهار، بأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه ذكرَها وعلَّل وجوبَها فقال: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، فدلَّ أنَّها وجبت بمجرَّدِ القول، قالوا: لأنَّ العَوْدَ الَّذي هو إمساكُها والعزْمَ على وطئها مباحٌ، والمباحُ لا تجب فيه كفَّارةٌ.
          وحجَّة الجماعة قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3]، فأوجبها بالظِّهارِ والعَودِ جميعًا، فمَن زعَمَ أنَّها تجبُ بشرطٍ واحدٍ فقد خالف الظَّاهر، وهذا بمنزلة قول القائل: مَن دخل الدَّار ثمَّ صلَّى فله دينارٌ، فإنَّه لا يستحقُّه إلَّا مَن فعل ذلك كلَّه؛ لأنَّهما شرْطانِ لاستحقاق الدِّينار، فلا يجوز أن يستحقَّ الدِّينار بأحدهما.
          وأجاب المخالِف عمَّا ذكره الشَّافعيُّ بأن قال: لا شكَّ أنَّ الَّذي كان مباحًا بالعَقْد هو الوطءُ، فإذا حرَّمه بالظِّهار كانت الكفَّارةُ له دون ما سواه، لأنَّ الأنكحةَ إنَّما وُضعَت له فقط، ولمَّا ثبت أنَّه لا يجوز له أن يطأ حتَّى يُكفِّر وجبَ أن يكون العَوْد هو العزْمُ على الإمساك وعلى الوطء جميعًا، ولو كان الظِّهار يحرِّمُ الإمساك حتَّى يكون العَوْدُ إليه راجعًا لكان طلاقًا؛ لأنَّ الإمساك إذا حُرِّم ارتفع العَقْد، وما يَرفعُ النكاحَ إنَّما هو الطَّلاق، ولو كان الظِّهار كذلك لكانت الكفَّارةُ لا تَدخله ولا تُصلِحُه؛ لأنَّ الفراق لا يرتفع حُكمه بالكفَّارة.
          ولمَّا صحَّ ذلك ثبتَ أنَّ الكفَّارةَ تُبيح العَوْدَ إلى ما حرَّمه الظِّهار مِن الوطءِ والعزم عليه، ألَّا ترى أنَّه إذا حلف ألَّا يطأها فقد حرَّم وطؤها دون إمساكها. فإذا فعل الوطء فقد خالَفَ ما حرَّمته اليمين، فكذلك الظِّهار، ومِن ظاهَرَ فإنَّما أراد الإمساكَ دون الطَّلاق؛ فكذلك لم يكن العَودُ هو الإمساك.
          واحتجَّ أهلُ الظَّاهر بأن قالوا: كلُّ موضعٍ ذكرَ اللهُ فيه العَوْدَ للشَّيء المرادُ به العَوْد نفسه، ألَّا ترى أنَّه أخبرَ عن الكفَّار أنَّهم لو ردُّوا لعادوا لِمَا نُهوا عنه، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة:8]، فكذلك العَوْدُ هنا، فيقال لهم: العَوْدُ في الشَّيء يكون في اللُّغة بمعنى المصير إليه كما تأوَّلتم، ويكون أيضًا بمعنى الرُّجوع كما قال ◙: ((العَائدُ في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ))، أراد به النَّاقضَ لهِبتهِ، وهذا تفسير الفرَّاء في العَوْدِ المذكور في الآية: أنَّه الرُّجوع في قولِهم وعن قولهم. قال إسماعيلُ: ولو كان معنى العَوْد أن يلفظوا به مرَّةً أخرى لِمَا وقع بعده: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]، لأنَّه لم يُذكَر للمَسِيسِ سببٌ فيقال مِن أجله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}، وإنَّما ذكر التَّظاهر وهو ضِدُّ المَسيسِ، والمظاهِرُ إنَّما حرَّم على نفسه المَسِيسَ، فكيف يُقَال له: إذا حرَّمتَ على نفسك المَسِيسَ ثمَّ حرَّمته أيضًا فأعتق رقبةً قبل أن تمسَّ؟! هذا كلامٌ واهٍ، ولو قال رجلٌ لرجلٍ: إذا لم تُرِد أن تمسَّ فأعتِق رقبةً قبل أن تمسَّ لنسبَه النَّاسُ إلى الجهل، ولو قال: إذا أردتَ أن تمسَّ فأعتِقْ رقبةً قبل أن تمسَّ، كان كلامًا صحيحًا مفهومًا أنَّه لا تجبُ الكفَّارة حتَّى يريد المَسِيسَ، وأيضًا فإنَّ الظِّهارَ كان طلاقَ الجاهليَّة كما سلف، فعلَّق عليه حكمَ التَّكفير بشرطِ العَوْد والرُّجوع فيه، ألا ترى أنَّ الكفَّارة إذا أُوجبت باللَّفظ وشرطٍ آخرَ كان ذلك مخالفة اللَّفظ لا إعادته كالأيمان.
          فَصْلٌ: وأجمع العلماء أنَّ الظِّهارَ للعبد لازمٌ له كالحرِّ، وأنَّ كفَّارته شهران، واختلفوا في الإطعام والعِتق، فقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ: لا يُجزئه إلَّا الصَّوم خاصَّةً، وقال ابنُ القاسم عن مالكٍ: إن أطعمَ بإذنِ مولاه أجزأَه، وإن أعتقَ بإذنهِ لم يُجزه، وأحبُّ إلينا أن يصوم، يعني الشَّهرين.
          قال ابن القاسم: ولا أرى هذا الجواب إلَّا وهمًا منه؛ لأنَّه إذا قَدِر على الصَّوم لا يُجزِئه الإطعام في الحرِّ، كيف العبد؟ وعسى أن يكون جوابُ هذه المسألة في كفَّارة اليمين بالله.
          وقال الحسنُ: إن أَذِنَ له مولاه في العِتق أجزأه، وعن الأوزاعيِّ فيه وفي الإطعام كذلك أيضًا إذا لم يقدِرْ على الصِّيام.
          فَصْلٌ: اختُلِف في الظِّهار مِن الأَمَة وأمِّ الولد، فقال الكوفيُّون والشَّافعيُّ: لا يصحُّ الظِّهار منهما، وقال مالكٌ والثَّوريُّ والأوزاعيُّ واللَّيث: يكون مِن أَمَتهِ مظاهرًا.
          واحتجَّ الكوفيُّون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:3] والأَمَةُ ليست مِن نِسائنا؛ لأنَّ الظِّهارَ كان طلاقًا ثمَّ أُجِّلَ بالكفَّارة، فإن كان لا حظَّ للإماء في الطَّلاق فكذلك ما قام مقامه، ومَن أوجب الظِّهار في الإماء جعلهنَّ داخلاتٍ في جُملة النِّساء لمعنى تَشبيه الفَرْج الحلال بالحرام في حال الظِّهار؛ لأنَّ اللهَ تعالى حرَّم جميع النِّساء ولم يخصَّ امرأةً دون امرأةٍ، وهذا مذهبُ عليٍّ، وهو حجَّةٌ مع معرفة لسان العرب، وهو مذهب الفقهاء السَّبعة وعطاءٍ ورَبِيعةَ، قال ابن المنذر: ويدخل في عُمُوم قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ...} الآية [المجادلة:2]، لأنَّ الظِّهارَ يكون مِن الأَمَةِ والذُّميَّة والصَّغيرة / وجميع النُّسوان.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حزمٍ: ولا يكون الظِّهارُ إلَّا بذكر ظَهْرِ الأُمِّ، ولا يجب بفرْجِها ولا بعضوٍ منها غير الظَّهر، ولا بذكر الظَّهر أو غيره مِن غير الأمِّ والجدَّة، لا مِن ابنته ولا مِن أبيه ولا أخيه، ولا مِن جدِّه، وقالت طائفةٌ: إذا تكلَّم بالظِّهار فقد لَزِمه، قاله طاوسٌ، وهو قولُ الثَّوريِّ والبَتِّيِّ. وقالت طائفةٌ: مَن ظاهَرَ لم تَلزمه كفَّارة حتَّى يريد وطأها، فإذا أرادَه لزمته حينئذٍ، فإن بدا له عن وطئها سقطت عنه الكفَّارة، وهكذا أبدًا، وهو أشهر قولي مالكٍ، ورُوي عن عبد العزيز بن الماجِشُون، وما نعلمه عن أحدٍ قبلهما، وهو أسقط الأقوال لتعرِّيه عن الأدلَّة.
          ثمَّ قال ابن حزمٍ: وقال أبو حنيفة: معنى العَوْد أنَّ الظِّهار يُوجبُ تحريمًا لا يرفعُه إلَّا الكفَّارة، إلَّا أنَّه إذا لم يطأها مدَّةً طويلةً حتَّى ماتت فلا كفَّارةَ عليه سواءٌ أراد في خلال ذلك وطأها أو لم يُرِد، فإن طلَّقها ثلاثًا فلا كفَّارةَ عليه، فإن تزوَّجها بعدَ زوجٍ عاد عليه حُكْمُ الظِّهار ولا يطؤُها حتَّى يُكفِّر.
          قال أبو حنيفَةَ: والظِّهار قولٌ كانوا يقولونه في الجاهليَّة فنُهُوا عنه، فكلُّ مَن قاله فقد عاد لِمَا قال. قال ابن حزمٍ: وهذا لا يُحفظ عن غيره. كذا قال، وأمَّا ابن عبد البرِّ فقال: قاله قبله غيره، وروى بشْرُ بن الوليد عن أبي يُوسُف: أنَّه لو وطئها ثمَّ مات أحدهما لم تكن عليه كفَّارةٌ، ولا كفَّارةَ بعد الجِمَاع. والَّذي عليه الحنفيُّون هو أن يشبِّه المنكوحة بمحرَّمة عليه على التَّأبيد، فيحرِّمَ الوطءَ ودواعيه بقوله: أنت عليَّ كَظَهْر أمِّي حتَّى يكفِّر، فلو وطئ قبلَه استغفر ربَّهُ فقط كما ذكرنا في الحديث آنفًا.
          فَصْلٌ: قال: وبطنُها وفَخِذُها وفَرْجها كَظَهْرها، وأُختهُ وعمَّتهُ وأمُّهُ رضاعًا كأمِّه، فإن قال: رأسكِ أو فَرْجكِ أو وجهكِ أو رَقَبتُكِ أو نِصْفكِ أو ثُلُثكِ عليَّ كَظَهْر أمِّي كان ظِهَارًا، وإن نوى بأنتِ عليَّ مثل أُمِّي بِرًّا أو ظِهَارًا أو طلاقًا فكما نوى، وإلَّا لغا، فإن قال: أنتِ عليَّ حرامٌ كأُمِّي ظِهَارًا أو طلاقًا فكما نوى، فإن قال: أنتِ عليَّ حرامٌ كَظَهر أمِّي طلاقًا أو إيلاءً فَظِهَارٌ.
          فَصْلٌ: ولا ظِهَار إلَّا مِن زوجةٍ، ولا يجزئ في كفَّارته الأعمى ولا مقطوع اليدين أو إبهامهما أو الرِّجلين، ولا المجنونُ والمدبَّرُ وأمُّ الولد والمكاتَب الَّذي أدَّى شيئًا، فإن لم يؤدِّ شيئًا جاز، وإن اشترى قريبَه ناويًا بالشِّراء الكفَّارة، أو حرَّر نِصْف عبدِه عن كفَّارته، ثمَّ حرَّر باقيَه عنها صحَّ، وإن حرَّر نصفَ عبد مشتركٍ وضَمِنَ باقيه أو حرَّر نصف عبدِه ثمَّ وطئ الَّتي ظاهَرَ منها، ثمَّ حرَّر باقيه لم يُجزِء.
          فَصْلٌ: فإن لم يجد ما يُعتِق صام شهرين مُتَتابِعَين ليس فيهما رمضانُ ولا الأيَّامُ المنهيُّ عن صيامها، فإن وطئ فيها ليلًا أو يومًا ناسيًا أو أفطرَ استأنفَ الصَّومَ، وذكر ابنُ حزمٍ عن مالكٍ أنَّه إذا وطئ الَّتي ظاهَرَ منها ليلًا قبل تمام الشَّهرين يبتدئهما مِن ذي قَبْلٍ، وقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: يتمُّهما بانيًا على ما صام منهما.
          فَصْلٌ: وقول أبي حنيفة في الظِّهار كقول أصحاب اللُّغة كما أسلفناه عنهم أوَّل الباب، وأظنُّ ابنَ حزمٍ لا يُنكر هذا، وإنَّما حملَهُ قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2].
          قال ابن عبد الحقِّ: ولئن سُلِّم له هذا، فما فِعْلهُ في قوله: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة:3] وهي مطلَّقة في جميع الظِّهار؟ وفي هذه الآية حكم الظِّهار لا في الآية المتقدِّمة، ولا يمكنه أن يقول: هذا الظِّهار المذكور في الآية هو ذاك؛ لأنَّ الآية الكريمة مستقِلَّةٌ بنفسها، ولو جاء مَثَلًا في الشَّرع مَن جعل امرأته كَظَهْر أمِّه فليست بأمِّه، ولو قال متَّصِلًا بهذا، ومَن ظاهَرَ مِن امرأته لزمه كذا وكان الظِّهار هو أن يجعل زوجته كَظَهْر ذات مَحْرمٍ، فلا يقول أحدٌ: إنَّ الظِّهار هنا مقصورٌ على الظِّهار بالأمِّ، إذ سياق الكلام لا يعطيه لا مِن نصِّه ولا مِن مفهومه، فبطَلَ قوله جملةً، وصحَّ أنَّه إذا ظاهر بذات مَحْرمٍ لزمه حكمُ الظِّهار، وسنوضِّحُهُ بعدُ.
          فَصْلٌ: مذهبُنا ومذهبُ أبي حنيفة ومالكٍ أنَّ المَعيبة لا تجوز في الكفَّارة، قال ابن حزْمٍ: ورُوِّينا عن النَّخَعيِّ والشَّعبيِّ أنَّ عِتق الأعمى يُجزِئ في ذلك، وعن ابن جُرَيجٍ أنَّ الأشلَّ يُجزِئ.
          فَصْلٌ: قال: ذهبت طائفةٌ إلى أنَّه إذا ظاهَرَ مِن غير ذات مَحْرمٍ فليس ظِهارًا، رُوِّيناه عن الحسن وعَطَاءٍ والشَّعبيِّ، وهو قول أبي حينفة وأحد قولي الشَّافعيِّ، وأشهرُ أقواله: إنَّ كلَّ مَن ظاهَرَ بامرأةٍ حلَّ له نِكَاحها يومًا مِن الدَّهر فليس ظِهَارًا، وَمَن ظاهَرَ بامرأةٍ لم يحلَّ له نِكاحُها قطُّ فهو ظِهَارٌ. وقال مالكٌ: مَن ظاهَرَ بذات مَحْرمٍ أو بأجنبيَّةٍ أوبابنةٍ فهو كلُّه ظِهَارٌ.
          ورُوِّينا عن الشَّعبيِّ: لا ظِهَارَ إلَّا بأمٍّ أو جدَّةٍ، وهو قولٌ للشَّافعيِّ رواه عنه أبو ثورٍ، وبه يقول أبو سُلَيْمَان وأصحابنا، ولمَّا ظاهرت عَائِشَةُ بنتُ طلْحَةَ مِن مُصْعَبِ بن الزُّبير بأُمِّها، وفي روايةٍ بأبيها، أمرَهَا فقهاء وقتها بالكفَّارة.
          وقال مَعْمَرٌ: سُئِلَ ابن شِهَابٍ عن امرأةٍ قالت لزوجها: هو عليها كابنها، قال الزُّهريُّ: قالت مُنكرًا مِن القول وزورًا، نرى أن تكفِّر، أو تصوم شهرين مُتَتابِعَين، أو تُطعم ستِّين مسكينًا. وكان الحسن يرى أن تُظَاهر المرأة مِن الرَّجل ظِهَارًا، وهو قول الأوزاعيُّ والحسن بن حيٍّ والحسنِ بن زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيِّ، وقال الثَّوريُّ والشَّافعيُّ: إنْ ظاهَرَ برأس أمِّه فهو ظهارٌ، وإن ظاهَرَ بشيءٍ له أن ينظر إليه فليس ظِهَارًا.
          فَصْلٌ: قال ابن حزمٍ: مَن شرع في الصَّوم فوطئ ليلًا أو وطئ قبل أن يُكفِّر، فعن أبي يُوسُفَ أنَّه لا يُكفِّر، والقول قوله، لولا قولُه ◙ لمن قال له: وَقَعتُ على زوجتي قبل أن أكفِّر: ((لَا تقرَبْها حتَّى تفعَلَ ما أمَرَ الله))، فوجب الوقوف عند هذا الخبر الصَّحيح. وقال آخرون: ليس عليه إلَّا كفَّارةٌ واحدةٌ، قاله ابنُ المسيِّب ونافِعٌ ومحمَّد بن سِيرينَ والحسنُ وبكرُ بن عبد الله ومُوَرِّقٌ العِجْلِيُّ وقَتَادَةُ في روايةٍ، وعَطَاءٌ وطَاوُسٌ وعِكْرِمةُ ومجاهدٌ.
          وقال ابنُ عبد البرِّ: هو قول أكثر السَّلف، وجماعة فقهاء الأمصار؛ رَبِيعة ويحيى بن سَعِيدٍ، وبه قال مالكٌ واللَّيث وأبو حنيفة والشَّافعيُّ وأصحابُهم والثَّوريُّ والأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو عُبَيدٍ وأبو ثورٍ والطَّبريُّ وداودُ، وهي السُّنَّة الواردة في سَلَمة بن صَخْرٍ.
          قال / ابنُ حزمٍ: وقالت طائفةٌ: عليه كفَّارتان، قاله عبد الله بن عُمَر وعبد الله بن عَمْرٍو وقَبِيصَةُ بن ذُؤَيبٍ وقَتَادَةُ وسعيدُ بن جُبَيرٍ والحكمُ بن عُتَيبةَ وعبد الله بن الحسن القاضي، زاد ابن عبد البرِّ: وعَمْرَو بنَ العاصي وابنَ شِهَابٍ. وقالت طائفةٌ: عليه ثلاث كفَّاراتٍ، روي ذلك عن النَّخَعيِّ والحَسَنِ.
          فَصْلٌ: واختلفوا فيمَن ظاهَرَ مِن أجنبيَّةٍ ثمَّ تزوَّجها، فروى القاسم بن محمَّدٍ عن عُمَرَ بن الخطَّاب: إن تزوَّجَها فلا يقرُبُها حتَّى يُكفِّر، وهو قول عَطَاءٍ وسعيدِ بن المسيِّب والحسنِ وعُروة، صحَّ ذلك عنهم كما قاله ابن حزمٍ، لكنَّ الأثرَ عن عُمَرَ منقطعٌ؛ لأنَّ القاسم لم يُولَد إلَّا بعد قتل عُمَر، وهو قول مالكٍ وأبي حنيفة وأحمدَ وأصحابهم والثَّوريِّ وإسحاقَ.
          وقالت طائفةٌ كما قلنا، قاله ابن عبَّاسٍ، وهو في غاية الصِّحة عنه، وقاله أيضًا الحسنُ في روايةٍ، وقَتَادَةُ والشَّافعيُّ وأبو سُلَيْمَان.
          فَصْلٌ: ومَن ظاهَرَ ثمَّ كرَّر ثانيةً ثمَّ ثالثةً، فليس عليه إلَّا كفَّارةٌ واحدةٌ، فإن كرَّر رابعةً فعليه كفَّارةٌ أخرى، رُوي عن خِلَاسٍ عن عليٍّ أنَّه قال: إذا ظاهَرَ في مجلسٍ واحدٍ مِرَارًا فكفَّارةٌ واحدةٌ، وإن ظاهَرَ في مقاعَدَ شتَّى فعليه كفَّاراتٌ، والأَيمانُ كذلك. وهو قول قَتَادَةَ وعَمْرِو بن دِينارٍ، صحَّ ذلك عنهما.
          وقال آخرون: ليس في ذلك إلَّا كفَّارةٌ واحدةٌ، رُوِّينا عن عَطَاءٍ وطاوسٍ والشَّعبيِّ أنَّهم قالوا: إذا ظاهَرَ مِن امرأته خمسين مرَّةً فإنَّ عليه كفَّارةٌ واحدةٌ، وصحَّ مثله عن الحسنِ وعَطَاءٍ، وهو قولُ الأوزاعيِّ، وقال الحسنُ أيضًا: إذا ظاهَرَ مِرارًا فإنْ كان في مجالس شتَّى فكفارةٌ واحدةٌ ما لم يكفِّر، والأيمانُ كذلك، قال مَعْمَرٌ: وهو قول الزُّهريِّ، قال ابن حزمٍ: وهو قول مالكٍ، وقال أبو حنيفة: إن كان كرَّره في مجلسٍ واحدٍ ونوى التَّكرار فكفارةٌ واحدةٌ، وإن لم يكن له نيَّةٌ فلكُلِّ ظهارٍ كفَّارةٌ، وسواءٌ كان ذلك في مجلسٍ واحدٍ أو مجالسَ.
          قال ابن عبد الحقِّ في «ردِّه على المحلَّى»: القول السَّالف لا دليلَ عليه؛ لأنَّ الله تعالى قال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] فإذا عاد مئة مرَّةٍ فهو عائدٌ، هذا على قوله أنَّ العَوْدَ هو إعادة نفس الظِّهار، لكن يلزمه الحكم بأقلِّ ما ينطلقُ عليه الاسم وأقلُّه مرَّةٌ.
          قال: وأمَّا قولُه: إذا لزمته الكفَّارة فقد ارتفع حكم الظِّهار المتقدِّم، فدعوى عَرِيَّة عن الدَّليل، وذلك أنَّ ظاهِرَ الآية يدلُّ على أنَّه إن عاد ألفَ مرَّةٍ سواءٌ قبل الكفَّارة أو بعد فلا يلزمه شيءٌ، لكن وجدناهم مجمعين على أنَّه إن ظاهَرَ وعاد لِمَا قال _على اختلافهم في العَوْد ما هو_ أنَّه يلزمه حكم الظِّهار، فوجب أن يُؤخَذ بما أجمعوا عليه، وهو أنَّ للظِّهار بعد الكفَّارة حُكمًا مستأنفًا، وقول مالكٍ في هذه المسألة أعدَلُها، وهو أنَّه إن أعاد الظِّهار مئة مرَّةٍ قبل أن يُكفِّر لا يلزمُه إلَّا ظهارٌ واحدٌ، فإن ظاهَرَ بعد الكفَّارة كان حُكمُه حُكمَ مُظَاهِرٍ لم يُظَاهِر قبلُ، فلاحَ بُطْلان قوله.
          فَصْلٌ: قال: ومَن وَجَبت عليه كفَّارة الظِّهار لم يُسقِطْها عنه موتُه ولا موتُها ولا طلاقُه لها، وهي مِن رأس ماله إن مات، أوصى بها أو لم يوصِ.
          فَصْلٌ: قال: ومَن عَجَز عن جميع الكفَّارة فحكمُه الإطعامُ أبدًا، أيسَرَ بعد ذلك أو لم يُوسِر، قويَ على الصِّيام أو لم يقوَ، وكذلك حُكم مَن عَجَز عن العِتق والصَّوم فهو لازمٌ له أبدًا، فمَن كان حين لزومِه الكفَّارة قادرًا على رقبةٍ لم يُجزه غيرها، وإن افتقَرَ فأمرُه إلى الله.
          ومَن كان عاجزًا عن الرَّقبة قادرًا على صومِ شهرين مُتَتابِعَين فلم يَصُمْهُما، ثمَّ عَجَزَ عن الصَّوم إلى أن مات لم يُجْزِه إطعامٌ ولا عتقٌ أبدًا؛ فإن صحَّ صامهما، وإن مات صامَهما عنه وليُّه، فلو لم تتَّصل صحَّتُه وقوَّتُه على الصِّيام جميعَ المدَّة الَّتي ذكرنا، فإن أيْسَرَ في خلالها فالعِتْقُ فرضُه أبدًا، فإن لم يُوسِر فالإطعامُ فرضُه أبدًا.
          فَصْلٌ: سلف جملةٌ مِن نقل ابن عبد البرِّ عن ابن أبي ليلى والحسن بن حيٍّ أنَّه إذا قال: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجها فهي عليَّ كَظَهْر أمِّي، لم يلزمه شيءٌ، فإن قال: إن نكحتُ فلانةً فهي كَظَهْر أمِّي أو يُسمِّي قريةً أو قبيلةً لزمَه الظِّهار، وقال الثَّوريُّ: فمن قال: إن تزوَّجتِك فأنتِ طالقٌ، وأنتِ عليَّ كَظَهْر أمِّي، ووالله لا أقربُكِ أربعةَ أشهرٍ فما زاد، ثمَّ تزوَّجها وقع الطَّلاق وسقط الظِّهار والإيلاء؛ لأنَّه بدأ بالطَّلاق.
          قال أبو عُمَر: يهدِمُ الطَّلاقُ المتقدِّمُ الظِّهارَ وإن كان بائنًا أو رجعيًّا هَدَمَهُ أيضًا ما لم يُرَاجع، فإذا راجع لم يطأ حتَّى يكفِّر كفَّارة الظِّهار.
          وقال يحيى بن سعيدٍ الأنصاريِّ في رجلٍ ظاهَرَ مِن امرأته ثلاث مراتٍ في مجلسٍ واحدٍ في أمورٍ مختلفةٍ: فإنَّه يجبُ عليه ثلاث كفَّاراتٍ. وقال رَبِيعةُ: إن ظاهَرَ مِن امرأته ثلاثًا في مجالس شتَّى في أمور شتَّى كفَّر عنهنَّ جميعًا، وإن ظاهَرَ منها ثلاثًا في مجلسٍ واحد في أمرٍ واحدٍ فكفَّارته واحدةٌ. وروى ابنُ نافعٍ فيمَن قال: كلُّ امرأةٍ أتزوَّجُها فهي عليَّ كَظَهْر أمِّي أنَّه يُجْزِئه كفَّارةٌ واحدةٌ عن جميع النِّساء، وبه قال ابن القاسم.
          وعن الثَّوريِّ: لا بأس أن يُقبِّل الَّتي ظاهَرَ منها قبل التَّكفير ويأتيَها فيما دون الفَرْج؛ لأنَّ المَسِيس هنا الجِمَاعُ، وهو قول الحسنِ وعَطَاءٍ وعَمْرِو بنِ دينارٍ وقَتَادَة، وهو قول أصحاب الشَّافعيِّ، ورُوي عنه أنَّه قال: أحبُّ إليَّ أن يمتنعَ مِن القُبلة والتَّلذُّذ احتياطًا. وقال أحمدُ وإسحاقُ: لا بأس أن يُقبِّل ويباشرَ. وأبى مالكٌ ذلك ليلًا أو نهارًا، وكذا في صوم الشَّهرين، قال: ولا ينظرُ إلى شَعَرها ولا إلى صَدْرها حتَّى يكفِّر، وقال الأوزاعيُّ: يأتي منها ما دونَ الإزار كالحائض.
          وعن أحمدَ: إن قال لامرأته: أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أمِّه مِن الرَّضاعة: أجبن عن الرَّضاعة.
          وقال مالكٌ: ليس على النِّساء ظِهارٌ. قال عطاءٌ: إن فعلَتْ كفَّرت كفَّارةَ يمينٍ، وهو قول أبي يُوسُفَ والأوزاعيِّ، وقال محمَّد بن الحسنِ: لا شيء عليها. قال الأوزاعيُّ وكذا إذا قال لها: أنتِ عليَّ كَظَهْرِ فلانٍ _لرجلٍ_ فهي يمينٍ يكفِّرها.
          قال ابنُ عبد البرِّ: وأجمعوا على أنَّه إذا أفطر في الشَّهرين متعمِّدًا بوطءٍ أو بأكلٍ أو بشربٍ مِن غير عُذرٍ استأنفَ الصِّيام، واختلفوا إذا وطئ ليلًا فعند الشَّافعيِّ لا شيء عليه، وعند أبي حنيفة يَسْتأنِفُ، وهو قول مالكٍ واللَّيث وغيرهما، فإن أطعمَ ثلاثين مسكينًا ثمَّ وطئ، فقال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة: يُتِمُّ الإطعام، كما لو وطئ قبل أن يُطْعِم لم يكن عليه إلَّا إطعامٌ واحدٌ، وقال اللَّيث والأوزاعيُّ ومالكٌ: يستأنف إطعام ستِّين مسكينًا، وسئل عُرْوة عن رجلٍ قال لزوجته: كلُّ امرأةٍ أنكِحُها عليك ما عشتُ كَظَهْر أمِّي، فقال: يكفيه مِن ذلك عِتْقُ رقبةٍ، وعند الشَّافعيِّ وابن أبي ليلى لا يكون مُظَاهرًا، وقال مالكٌ في العبد يُظَاهر مِن امرأته: أنه لا يَدخُلُ عليه إيلاءٌ قبل أن يفرَغَ مِن صيامهِ. قال أبو عُمَر: أصلُ مذهبه أنَّه لا يدخل عنده / على المظاهِرِ إيلاءٌ، حُرًّا أو عبدًا، إلَّا أن يكون مُضَارًّا، وهذا ليس مُضَارًّا، إذا ذهب يصوم للكفَّارة.
          قال أبو عُمَر: ولا خِلافَ عَلِمْتهُ بين العلماء أنَّ الظِّهار للعبد لازمٌ، وأنَّ كفَّارته المجمَع عليها الصَّوم، قال: واختلفوا في العِتق والإطعام، فأجاز للعبد العِتق إن أعطاه سيِّدهُ أبو ثورٍ وداودَ، وأبى ذلك سائرُ العلماء، وقال ابن القاسم عن مالكٍ: إن أطعَمَ بإذن مولاه أجزأَه، وإن أعتَقَ بإذنه لم يُجزئه وأحبُّ إلينا أن يصوم، وقد سلف عن ابن القاسم توهيمُهُ قال مالكٌ: وإطعام العبد كإطعام الحرِّ ستِّين مسكينًا، لا أعلم فيه خِلافًا.