التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا

          ░46▒ (بَابُ تُحِدُّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
          وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَرَى أَنْ تَقْرَبَ الصَّبِيَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الطِّيْبَ، لأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ).
          5334- 5335- 5336- 5337- ثمَّ ساق حديثَ زينبَ بنتِ أبي سَلَمَةَ: (أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم حِيْنَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ، فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ...) الحديث بطوله.
          وفيه: عن أمِّ سَلَمَة وزينبَ بنتِ جَحْشٍ، وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا واللَّفظ: ((لَا يَحِلُّ لِامْرِأَةٍ تُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فوقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَربَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشرًا))، وذكر فيه وفي الباب بعده حديثَ أمِّ سَلَمَة المخرَّج عند مُسلمٍ والأربعة أيضًا، وحديثُ أمِّ عطيَّة أخرجه مسلمٌ أيضًا.
          قال البيهقيُّ: قال بعضهم: قولها: (إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ) ليس بمحفوظٍ، / وقد قال الشَّافعيُّ في القديم فيما لا تلبسه في العَصْب مِن الثِّياب: إلَّا عَصْبًا غليظًا، قال: وهذا القول أقربُ مِن الحديث.
          ولأبي داودَ والنَّسائيِّ مِن حديثِ أمِّ سَلَمَة وإسناده جيِّدٌ لا كما طعن فيه ابن حزمٍ، ولابن حبَّان مِن حديثِ الفُريعَة، ولمسلمٍ مِن حديثِ عَائِشَة وحَفْصةَ.
          وفي «علل الخلَّال» خمسةٌ مِن الصَّحابة يروون هذا عنه، وذكر أبو عبد الله حديثَ الزُّهريِّ عن عُرْوةَ، عن عَائِشَة ♦: المُعتدَّةُ تلبَسُ السَّواد. قال: هو في آخر الحديث يشبه كلامَ الزُّهريِّ.
          قال أحمد: أخبرنا هُشيمٍ، عن داودَ، عن الشَّعبيِّ: أنَّه كان لا يعرِفُ الإحدادَ، قال أبو عبد الله: ما كان بالعراق أشدَّ تبحُّرًا منه ومِن الحسن وذهب ذا عنهما.
          ورواه ابنُ أبي شَيْبَة بإسنادٍ جيِّدٍ عن الحسن: أنَّه كان لا يراه شيئًا. ولابن عبد البرِّ مِن حديثِ عبد الله بن عُقْبةَ، عن أبي الأسود، عن حُمَيدِ بن نافعٍ، عن زينبَ بنتِ أبي سَلَمَة، عن عَاتِكةَ بنتِ نُعَيم بن عبد الله النَّحَّام: أنَّها جاءت رسولَ الله صلعم فقالت: إن ابنتَها توفِّي زوجُها _واسمُه المغيرةُ فيما قالَ ابنُ بَشْكُوَال_ فحدَتَ عليه فَرَمِدَت رَمَدًا شديدًا وقد خَشِيت على بصرِها، فهل تَكتَحِلُ؟ فقال: ((لا، إنَّما هِيَ أَربعة أشهرٍ وعشرًا، وقد كانت المرأةُ منكنَّ تُحِدُّ سنةً))، زاد ابن حزمٍ بإسنادٍ جيِّدٍ: قالت: إنِّي أخشى على عينِها! قال: ((وَإِنِ انْفَقَأَتْ)).
          ولابن عبد البرِّ بإسنادٍ فيه ضعفٌ مِن حديثِ بُكَير بن الأشجِّ عن خَولَة، عن أمِّها أمِّ خَولَةَ: أنَّه ◙ قال لأمِّ سَلَمَة: ((لَا تَطَيَّبِي وَأَنْتِ مُحِدٌّ، وَلا تَمَسِّي الْحِنَّاءَ فَإِنَّهُ طِيبٌ)).
          وفي «الموطَّأ»: أنَّ صفيَّةَ زوجِ عبد الله بن عُمَر اشتكت عينَها وهي حادٌّ على ابنِ عُمَر فلم تكتَحِل حتَّى كادت عيناها تَرْمَصانِ، ولابن أبي شَيْبَة: فكانت تقطُرُ فيها الصَّبِر.
          وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّه كان ينهى المتوفَّى عنها عن الطِّيب والزِّينة، وقال ابن عُمَر: تترك الكُحْلَ والطِّيبَ والحُليَّ والمِصْبَغةَ، ولا تختَضِبُ ولا تلبسُ إلَّا ثوبَ عَصْبٍ، ولا تبيتُ عن بيتها ولكن ترقُدُ بالنَّهار.
          وأرسلَت أسماءُ بنت عُمَيسٍ إلى عَائِشَة لما توفِّي عنها زوجها لمَّا رَمِدت فنهتها عن الكُحْل، فقالت: إنِّي خشيت عليها، فقالت: لا تكتحلي بالإِثْمدِ وإن انفضخت عيناكِ، وقال مجاهدٌ: لا تكتحِلُ إلَّا مِن ضرورةٍ، وقالت صفيَّةُ ابنةُ شَيْبَة: لا تلبس حُلِيًّا.
          إذا عرفت ذلك فالكلام عليه مِن وجوهٍ:
          أحدُها: الإحدادُ تركُ المرأةِ الزِّينةَ كلَّها مِن اللِّباس والطِّيب والحُليِّ والكُحل ما دامت في عِدَّتها، ومحلُّ تفصيله الفُرُوع، لأنَّ الزِّينة داعيةٌ إلى الأزواج، فنُهيت عن ذلك قطعًا للذَّرائع وحمايةً لحُرمات الله أنْ تُنتهك، يُقَال: امرأةٌ حادٌّ ومُحِدٌّ، وأصلُ الإحداد: المنعُ، ومنه سمِّي البوَّاب حدَّادًا لمنعِه الدَّاخلَ، والحدُّ العقوبةُ لأنَّه رَدْعٌ عن ارتكاب المعاصي.
          قال أبو العبَّاس أحمد بن يحيى: حدَّت المرأة على زوجها تحِدُّ، وتحِدُّ إذا تركت الزِّينة فهي حادٌّ، ويقال: أحدَّت فهي مُحِدٌّ، قال القزَّاز: إنَّما كانت بغير هاءٍ لأنَّها لا تكون للذَّكر. وعن الفرَّاء في «مصادره»: حدَّت المرأة حِدَادًا. قال ابن دَرَسْتَويهِ: المعنى أنَّها منعت الزِّينة نفسهَا والطِّيب بدنَها، ومنعت بذلك الخُطَّاب خِطْبتَها والطَّمعَ فيها كما منع حدُّ السِّكين وحدُّ الدَّار ما مَنَعَا. وفي «نوادر اللِّحْيَانِيِّ» في حدٍّ جاء الحديث ((لا تحدُّ)). وحكى الكِسائيُّ عن عُقَيلٍ: حدَّت بغير ألفٍ.
          وقال الفرَّاء: كان الأوَّلون مِن النَّحويين يؤثِرُون أحدَّت فهي مُحِدٌّ، والأخرى أكثر في كلام العرب، وسمِّي الحَدِيدُ حَدِيدًا للامتناع به أو لامتناعه على مُحَاوِلِه، ومنه تَحديدُ النَّظر بمعنى امتناع تقلُّبه في الجهات.
          ويروى بالجيم، حكاه التُّدميريُّ في «شرحه» حيث قال: يُروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذةٌ مِن جَدَدتُ الشَّيء إذا قَطَعته، فكأنَّ المرأةَ انقطعت عن الزِّينة وما كانت عليه قبلَ ذلك. وفي «تقويم المُفسَد» لأبي حاتمٍ: أَبَى الأَصْمَعيُّ إلَّا أحدَّت ولم يعرف حدَّت، وعند الهَرَويِّ: أحدَّت إذا تَسَلَّبَت عن الزَّوج.
          وروى البيهقيُّ مِن حديثِ عبد الله بن شدَّادٍ: أنَّ أسماءَ بنتَ عُمَيسٍ قالت: لَمَّا أُصيبَ جعفرٌ أمرني رسولُ الله صلعم أن أَتَسلَّب ثلاثًا، قال: ((ثمَّ اصنعِي ما شئتِ)). قال البيهقيُّ: لم يثبت سماعُ عبد الله مِن أسماء، وقولُه: إنَّ أسماءَ قالت، مُرسلٌ. قلتُ: هو مخالفٌ لغيرِه مِن الأحاديث ولِمَا عليه الفقهاء، وأخرجَه ابنُ حزمٍ مِن طريق ابن أَرْطَأةَ، عن الحسن بن سعدٍ، عن عبد الله بن شدَّاد به، وفي آخره: ثمَّ بعثَ لها بعد ثلاثٍ أن تَطَّهَر وتَكْتَحِل. ولأحمد: ((لَا تحدِّي بعدَ يومِك هذا)).
          وقال أحمدُ فيما ذكره عنه مُهنَّا: هذا حديثٌ صحيحٌ، ورواه شُعَبة عن الحكم عن ابن شدَّادٍ يرفَعُهُ، قال: قلتُ: فما تقول في المرأة يموتُ عنها زوجُها؟ قال: تعتدُّ أربعة أشهرٍ وعشرًا، قلتُ: فما تقول في حديثِ ابن شدَّاد؟ فقال: إنَّما هذا في الإحداد لا في العِدَّة، ثمَّ قال: هذا حديثٌ يُخَالف الأحاديث.
          وقال الأثْرَمُ: قلتُ لأحمدَ: يحفظ عن حَنْظلَةَ عن سالمٍ عن ابن عُمَر يرفعُهُ: ((لَا تحلُ الحُدُود فوقَ ثلاثةٍ بعد الإحداد))؟ فكأنَّه تعجَّب منه، وقال: هذا حديثٌ منكرٌ، قال: والمعروف عن ابن عُمَر مِن رأيه.
          الوجه الثَّاني: قال ابنُ المنذر: حديثُ أمِّ حَبِيبة يدلُّ على معانٍ، فمنها: تحريمُ إحداد المسلمات على غير أزواجهنَّ فوقَ ثلاثٍ، وإباحةُ إحدادِهنَّ عليهم ثلاثًا.
          ومنها: أنَّ المأمورَ بالإحداد الزَّوجةُ المسلمةُ دون اليَهُوديَّة والنَّصرانيَّة وإن كانت تحت مُسلمٍ، عملًا بقوله: ((تُؤمِن بالله واليوم الآخر))، وأنَّ الذِّمِّيَّة لم تُخاطَب بذلك.
          ومنها: الدِّلالة على أنَّ المخاطَب بالإحداد مِن الزَّوجات مَن عِدَّتُهُنَّ الشُّهورُ دونَ الحوامل منهنَّ، وفيه دليلٌ على أنَّ المطلَّقة ثلاثًا لا إحدادَ عليها، ويدلُّ عليه ظاهرُ الحديث، وقد قالَه بعضُ مَن لَقِيتُه مِن أهل العِلم وإن يكن في ذلك إجماعٌ فهو مسلَّمٌ له وليس فيه إجماعٌ، فإنَّ الحسنَ البصريَّ كان لا يرى الإحداد، وهو قولٌ شاذٌ غريبٌ.
          ومنها: وجوبُ الإحداد على جميع الزَّوجات المسلمات، مَدخولٍ بهنَّ وغيرِ مدخولٍ بهنَّ، لدخولهنَّ في جملة مَن خُوطب بالإحداد في عِدَّة الوفاة إذا كانت بالشُّهور، ويدخلُ فيما ذكرنا الحرَّةُ تحتَ العبدِ والأَمَةُ تحتَ الحرِّ والعبدِ، والمكاتَبة والمدبَّرة وأمُّ الولد المزوَّجةُ يتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ والمطلَّقة يطلِّقها زوجُها / طلاقًا يملِكُ رجعتَها ثمَّ يتوفَّى عنها قبل انقضاء عِدَّتها، إذ أحكامُها أحكام الأزواج إلى أن تُوفِّي عنها.
          وممَّن قال: إنَّ على الأَمَة إحدادًا إذا تُوفِّي عنها زوجُها، مالكٌ والثَّوريُّ والكوفيُّون والشَّافعيُّ وأبو ثورٍ، وحُكِي ذلك عن رَبِيعةَ؛ لأنَّها داخلةٌ في جملة الأزواج وفي عُمُوم الأخبار ولا أحفظُ في ذلك خِلافًا إلَّا ما ذُكِر عن الحسن، وأجمعوا على أنَّ أمَّ الولد لا إحدادَ عليها إذا تُوفِّي سيِّدُها، والحجَّة في ذلك أنَّ الأحاديثَ إنَّما جاءت في الأزواج، وأمُّ الولد ليست بزوجةٍ، ذكرَهُ أجمعُ ابن المنذر.
          واختلف قول مالكٍ في الكتابيَّة، هل يلزمها الإحدادُ على زوجها المسلم؟ فروى عنه أشهبُ أنَّه لا إحدادَ عليها، وهو قول ابن نافعٍ والكوفيِّين، وقد سلف أنَّ هذا القولَ يدلُّ عليه الحديث، قال الكوفيُّون: وكيف يكون عليها الإحدادُ مع ما فيها مِن الشِّرك، وما تترك مِن الفرائض أعظم مِن ذلك.
          ورُوي أيضًا عن مالكٍ أنَّه قال: عليها الإحداد، وهو قول اللَّيثِ والشَّافعيِّ وأبي ثورٍ وابنِ حيٍّ، وحجَّتُه أنَّ الإحدادَ مِن حقِّ الزَّوج، وهو يحفظ النَّسب كالعِدَّة، وتدخلُ الكافرة في ذلك، فالمعنى كما دخل الكافر في أنَّه لا يجوز أن يسُومَ على سَومهِ، والَّذي في الحديث: ((لا يَسُمِ على سومِ أخِيه))، وكما يُقَال: هذا طريق المسلمين وقد يسلكُهُ غيرُهم إن كان الخِطَاب يتوجَّه إلى المؤمنات، فإنَّ الذِّمِّيَّة قد دخلت في ذلك لحقِّ الزَّوجيَّة لأنَّها في النَّفقة والسُّكنى والعِدَّة كالمسلمة، فكذا في الإحداد.
          واختلفوا في الصَّغيرة المتوفَّى عنها، فقالت طائفةٌ: عليها مِن ذلك ما على البالغ منهنَّ، هذا قول مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وأبي عُبَيدٍ وأبي ثورٍ، وقال أبو حنيفة وأصحابُه: لا إحدادَ عليها عملًا بقوله: (لاِمْرَأَةٍ) فعُلم أنَّ ذلك لا يلزم إلَّا المكلَّف البالغَ، وإنَّما عليها العِدَّة، وخالف داود فيهما كما حكاه ابن التِّين.
          حجَّة الأوَّل ما قاله أبو عُبَيدٍ: لمَّا كان نكاحُها غيرَ محرَّمٍ على كلِّ ناكحٍ كنِكَاح الكبيرة وجبَ أن تكون في الإحدادِ كَهِيَ، وكان يقول: إنَّما ذلك على مَن تولَّاها مِن الأبوين وغيرهما، ولمَّا أجمعوا أنَّ على الصَّغيرة عِدَّةَ الوفاةِ، فكذا الإحداد.
          واختلفوا في المطلَّقة ثلاثًا، فقالت طائفةٌ: عليها الإحدادُ كالمتوفَّى عنها زوجها سواءٌ، رُوي ذلك عن سعيد بن المسيِّب وسُلَيْمَان بن يَسَارٍ وابن سِيرينَ والحكم، وهو قول الكوفيِّين وأبي ثورٍ وأبي عُبَيدٍ، وقال الشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ: الاحتياطُ أن تتَّقي المطلَّقةُ الزِّينةَ، وهو محكيٌّ عن النَّخَعيِّ، قال الشَّافعيُّ: ولا يتبيَّن لي أن أُوجبه. واحتجَّ مَن أوجبَه عليها لأنَّها في عدَّةٍ يُحفظ بها النَّسب كالمتوفَّى عنها زوجها.
          وقالت طائفةٌ: لا إحدادَ على مُطلَّقة، ورخَّصوا لها في الزِّينة، ورُوي هذا عن عَطَاءٍ وربيعَةَ، وهو قولُ مالكٍ واللَّيث، قال أبو عُمَر: ليس في الحديث إلَّا قوله: (أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ) وليس فيه: لا يحلُّ لها أن تُحِدَّ على حيٍّ. أراد أبو عُمَر إحدادَ المبتوتة، وقال ابنُ المنذر: قوله: (لاَ يَحِلُّ...) إلى آخره، دليلٌ على أنَّ المطلَّقة ثلاثًا والمطلِّق حيٌّ لا إحدادَ عليها، لأنَّه أخبر أنَّ الإحدادَ إنَّما هو على نِساء الموتى مع أنَّ الأشياءَ على الإباحة حتَّى يدلَّ كتابٌ أو سُنَّة أو إجماعٌ على حظرِ شيءٍ فَيُمتنع منه.
          الوجه الثَّالث: في ألفاظٍ وَقَعت فيه:
          فقولها: (فَدَعَتْ بِطِيبٍ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ أَوْ غَيْرُهُ) هو برفْعِ (خَلُوق) أي دَعَت بِصُفْرَةٍ، هي خَلُوقٌ أو غيره، والخَلُوقُ بفتح الخاء طِيبٌ مخلوطٌ.
          وقولها: (ثُمَّ مَسَّتْ بِعَارِضَيْهَا) تريد الخدَّين، ادَّعى القرطبيُّ أنَّ أصلَ العَوَارض: الأسنان، وسُمِّيت الخُدُود عَوَارِضَ مِن باب تسمية الشَّيء بالشَّيء إذا جاورَه، ولا يُسلَّم له، نعم ينطَلِقُ عليه، قال صاحبُ «المُوعَبِ»: العارِضُ الخدُّ، يُقال: أُخذ مِن عَارِضَيه، أي مِن خدَّيه. وقال القزَّاز: عَارِضُ الوجه صفحته، أي خدُّه، وقد تجيء العَوَارِضُ في الشِّعر يُرَادُ بها الأسنان في بيت عَنْتَرةَ، فأمَّا بيت الأعشى فالخدَّان.
          وقال الأزْهَريُّ في «تهذيبه»: العَارِضُ الخدُّ، يُقَال: أخذَ الشَّعَر مِن عَارِضَيه، وهذا مِثلُ قولِ صاحب «الموعب»، وقال اللِّحْيانيُّ: عارِضَا الوجه وعَرُوضَاه: جانباه، وقال ابنُ سِيدَه: العَارِضانِ جانبا اللِّحية، والعَارِضُ الخدُّ، وقال الجَوْهَريُّ: عَارِضَةُ الإنسان صَفْحَتا خَدَّيه، وقولُهم: فلانٌ خَفِيفُ العَارِضَين، يريد به خِفَّةَ شَعَر عَارِضَيهِ، وقال ابنُ فارسٍ: وربما أرادوا بالعَوَارِض الأسنان، يوضِّحُه الحديث: ((مِن سَعَادَةِ المَرءِ خِفَّةُ عَارِضَيه))، لأنَّه إذا توضَّأ لا يحتاج إلى معاناة الماء إلى أصوله ولا إلى المبالغة في غَسْله.
          وقوله: (فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ) وفي أُخرى: ثَلَاثَةِ أيَّامٍ، وفي أخرى: فَوْقَ ثَلَاثٍ، والمراد بها: اللَّيالي، ولذلك أنَّث المعدود، وقيل: أراد الأيَّامَ بلياليها، حكاه القرطبيُّ، والأوَّل قولُ الأوزاعيِّ.
          ويُستفاد منه أنَّه إذا مات حميمها فلها أن تمتنع مِن الزِّينة ثلاث ليالٍ متتابعةً تبدأ مِن العدد باللَّيلة الَّتي تستقبلها إلى آخر ثالثها، فإن مات في يومٍ أو ليلةٍ ألغتها وَحَسَبت مِن اللَّيلة المستأنفة.
          وقوله: (وَعَشْرًا) هو منصوبٌ على الظَّرف، والعامل في (تُحِدَّ)، وإنَّما قال: (وَعَشْرًا)، ولم يقل: وعشرةً؛ لأنَّه أراد اللَّيالي، وقد عَلِم أنَّ مع كلِّ ليلةٍ يومَها، وقال المبرِّد: المعنى وعشرُ مُدَدٍ، وتلك المدَّة يومٌ وليلةٌ.
          وقولنا: المراد بلياليها، هو مذهبُنا ومذهبُ العلماء إلَّا ما حُكِي عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ والأوزاعيِّ وأبي بكرٍ الأصمِّ أنَّها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ، وأنَّها تحلُّ باليوم العاشر، ومذهبُ الجمهور أنَّها لا تحِلُّ حتَّى تدخل ليلة الحادي عشر، وذهب مالكٌ إلى أنَّ الحاملَ إذا وضعت قبل أربعةِ أشهرٍ وعشر أنَّها تُكمِل الأربعة الأشهرٍ والعشر.
          وقوله: (إِلَّا عَلَى زَوْجٍ) مقتضاهُ كلُّ زوجٍ، سواءٌ بعد الدُّخول أو قبله، وكذا يدخل فيه كلُّ امرأةٍ كبيرةٍ أو كبيرةٍ أو أَمَةٍ كما سلف، وفي دخولِ الصَّغيرة تحت اللَّفظ المذكور نظرٌ، ولا تدخلُ الكِتابيَّة كما سلف ولا المستولَدة.
          والحِفْشُ بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء ثمَّ شينٍ معجمةٍ بيتٌ صغيرٌ رَدِيءٌ خَرِبٌ حقيرٌ قريبُ السَّمْك، أو الخُصُّ الرَّديءُ، أو المظلَّة الدَّنيَّة، قال ابن حبيبٍ: وأهل اللَّغة على أنَّه البيت / الصَّغير، وفسَّره مالكٌ بأنَّه البيت الرديءُ، وروى ابن وَهْبٍ عنه أنَّه البيت الصَّغير، وهو قول الخليل، وعن الشَّافعيِّ: هو بيتٌ ذليلٌ قريب السَّمْكِ، سُمِّي به لضيقِهِ، والتَّحَفُّشُ: الانضمامُ والاجتماعُ، وكذلك قال ابن الأعرابيِّ، وقال أبو عُبَيدٍ: الحِفْشُ الدُّرْج، وجمعه أحفاشٌ، يشبهُ البيت الصَّغير، وقال الخطَّابيُّ: سُمِّي حِفْشًا لضيقه وانضمامه، والتَّحفُّشُ: الانضمام والاجتماع.
          وعبارة المازَريِّ أنَّه خُصٌّ حقيٌر، وفي الحديث أنَّه قال لبعض مَن وجَّهَه ساعيًا فرجع بمالٍ: ((هل قَعَدَ في حِفْشِ أمِّهِ يَنتَظِرُ هَلُ يُهدَى إلَيْهِ أم لا؟))، وهو الدُّرْج كما سلف.
          ومعنى (تَفْتَضُّ بِهِ) بالفاء والضاد تُدلِّك جسمها، وقال مالكٌ: تمسَحُ به جِلْدَها كالنُّشْرَة، وقال مُطَرِّفٌ وابن الماجِشُون: تمسَحُ به فَرْجَها وَحَرِها ظاهره وباطنه. وأنكرَه بعضُهم وقال: كيف تمسحُ فرجها بالحمار؟! وقال صاحب «العين» الفَضِيضُ: ماءٌ عذبٌ تُصيبه ساعتئذٍ ويقول: افتضضته، وقال ابنُ وَهْبٍ: تؤتى بدابة فتمسح على ظهرها. وقال الأخفش: معناه: تتنظَّف وتنقَّى مِن الدَّرن تشبيهًا لها بالفضِّة في نقائها وبياضها.
          وقيل: هو مِن فَضَضْتُ الشَّيءَ: كسرته وفرَّقته، ومنه قولُه: {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والمعنى: أنَّها كانت تكسِرُ ما كانت فيه بتلك الدَّابة، وذكر الأزهريُّ أنَّ الشَّافعيَّ رواه بالقاف والباء الموحَّدة والصَّاد المهملة، وهو الأخذ بأطراف الأصابع، وقرأ الحسنُ: ((فَقَبَصْتُ قَبْصَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ))، والمعروف الأوَّل، بل قال القزَّاز: إنَّه تصحيفٌ.
          وكانت المرأة في الجاهليَّة تفتضُّ بالدَّابة ثمَّ تَغْتَسِل، وتتنظَّف ثمَّ ترمي بالبَعْرةِ مِن بَعرِ الغنم وراء ظَهْرها، ويكون ذلك إحلالًا لها، ومعنى رميِها بالبَعْرة: إعلامٌ لها أنَّ صبرَها عامًا أهونُ عليها مِن رميها بالبَعْرةِ.
          فَصْلٌ: إنَّما مُنعَت المعتدَّة في الوفاة مِن الزِّينة ولم تُمنَع منه معتدَّةُ الطَّلاق _كما نبَّه عليه المازَرِيِّ_ لأنَّ الزِّينة والطِّيب يدعوان إلى النِّكاح ويُوقِعان فيه، فنهى عنهما ليكون الامتناع منهما زاجرًا عن النِّكاح؛ لَمَّا كان الزَّوجُ في الوفاة معدومًا لا يُحامي عن نفسه ولا يَزجِرُ زوجتَه، بخلاف المطلِّق الحيِّ فإنَّه يحتفظ على مطلَّقته لأجل نسبه، فاستغنى بوجوده عن زاجرٍ آخرَ.
          فَصْلٌ: قال مالكٌ كما حكاه في «الاستذكار»: تُحِدُّ امرأة المفقود في عِدَّتها. وقال ابن الماجِشُون: لا إحداد عليها، واختُلِف أيضًا عن المالكيَّةِ في غير الكتابيَّة وامرأة المفقود والَّتي زوجها في المرض والنِّكاح الفاسد.
          فَصْلٌ: قال ابنُ حزمٍ لمَّا ذكر أنَّه لا عِدَّة على أمِّ ولدٍ وإن عَتَقَتْ ومات عنها سيِّدها، ولا أَمَةٍ مِن وفاة سيِّدها أو عِتْقِه لها: لم يوجب ذلك كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولهما أن يُنكَحَا متى شاءا.
          وقد اختُلف في هذا: فروى أبو داودَ، عن عبد الله بن بكْرٍ السَّهْمِيِّ، عن ابن أبي عَرُوبة، عن مَطَرٍ، عن رَجَاءِ بنِ حَيْوةَ، عن قَبِيصَةَ بنِ ذُؤَيبٍ، عن عَمْرِو بن العاصي أنَّه قال: لا تُلبِّسُوا علينا سُنَّةَ نبيِّنا، عِدَّةُ أمِّ الولد إذا تُوفِّي عنها سيِّدُها عِدَّة الحرَّة المتوفَّى عنها زوجُها أربعة أشهرٍ وعشر. فلو صحَّ هذا مسندًا لقلنا به، وفيه أيضًا مَطَرٌ وهو سيِّئُ الحفظ.
          قلت: ليتَه أعلَّه بقول الدَّارقطنيِّ: قَبِيصَةُ لم يَسْمع مِن عَمْرٍو، والصَّوابُ: لا تُلبِّسوا علينا، موقوفٌ، قلتُ: وهو في الحقيقة مرفوعٌ، ومثلُه روايةُ ابنِ أبي شَيْبَة مِن حديثِ خِلَاسٍ عن عليٍّ قال: عِدَّة أمِّ الولد أربعة أشهرٍ وعشر، طَعَن في رواية خِلَاسٍ عن عليِّ يحيى بنُ سعيدٍ، وأمَّا الجوزجَانِيُّ فقال عن أحمد: إنَّه كان مِن شُرطَة عليٍّ. وكذا ذكره العُقَيليُّ في «تاريخه»، وفي «عِلل أحمد» مِن رواية ابنه عبد الله: حدَّثنا الوليد بن مُسلمٍ، حدَّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن سُلَيْمَانَ بن موسى، عن رَجَاءٍ، عن قَبِيصةَ، عن عَمْرٍو قال: عِدَّةُ أمِّ الولد عِدَّةُ الحرَّة، فقال: قال أبي: هذا حديثٌ منكرٌ، وحدَّثنا الوليد، حدَّثنا الأوزاعيُّ وسعيدُ بن عبد العزيز، عن الزُّهريِّ، عن قَبِيصَةَ، عن عَمْرٍو مثله.
          وفي البيهقيِّ: أنَّ أبا مُعَيْدٍ حَفْصَ بن غَيْلَانَ روى عن سُلَيْمَان بن مُوسَى، عن رجلٍ، عن قَبِيصَةَ عنه: عِدَّة أمِّ الولد إذا توفِّي عنها سيِّدها أربعة أشهرٍ وعشر، فإذا عَتَقَت فعدَّتها ثلاث حِيَضٍ. وقال بقول عُمَروٍ عليٌّ وعَبيدةُ السَّلمانيِّ وأبو عِيَاضٍ عَمْرُو بنُ الأسودِ وابنُ المسيِّب وعُمرُ بنُ عبد العزيز وسعيدِ بن جُبَيرٍ.
          وقال أيُّوب فيما ذكره ابن أبي شَيْبَةَ: سألتُ الحكمَ بنَ عُتَيبة والزُّهريَّ عن عِدَّةِ أُمِّ الولد إذا توفِّي عنها سيِّدها، قالا: السُّنَّة، قلتُ: وما السُّنَّةُ؟ قالا: بَرِيرةُ أُعتِقَت فاعتدَّت عدَّة الحرَّة.
          زاد ابنُ حزمٍ: قال عُمَر بن عبد العزيز وابن شِهَابٍ: عِدَّتُها مِن وفاة سيِّدها أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، وقاله مجاهدٌ وخِلَاس بن عَمْرٍو وابن سِيرينَ والأوزاعيُّ وابن رَاهَوَيهِ، ورواية الحكم عن عليٍّ: عدَّة السُّرِّيَّة ثلاث حِيَضٍ. وهو قول النَّخَعيِّ وابن عُمَر، ومِن حديثِ ابنِ أَرْطَأةَ عن الشَّعبيِّ عن عليٍّ وابنِ مسعودٍ: ثلاثةُ قُروءٍ، وهو قول الثَّوريِّ وأبي حنيفة وأصحابه والحسن بن حيٍّ، واستحبُّوا لها الإحداد، وقال مالكٌ: عِدَّتها حيضةٌ، فإن لم تَحِض فثلاثة أشهرٍ، كذا ذكرَه عن مالكٍ، والمعروفُ مِن مذهبه كمذهب الشَّافعيِّ وأحمد، قال الخطَّابيُّ: رُوي ذلك عن عُرْوةَ والقاسمِ ومحمَّدِ بن شِهَابٍ والشَّعبيِّ، وتأوَّل بعضُهم قولَ عَمْرٍو: لا تُلَبِّسُوا علينا سنَّة نبيِّنا. بأنَّ التَّلبيسَ لا يقع في النُّصوص، إنَّما يكون في الرأي والاجتهاد، فيكون قوله: سُنَّة نبيِّنا، اجتهادًا منه على معنى السُّنَّة في الحرائر، لا السُّنَّة الَّتي هي عن رسول الله صلعم نصًّا وتوقيفًا، وفيه بُعْدٌ، لأنَّا لم نَعْهد أحدًا مِن أصحابنا ذكرَ السُّنَّةَ وأراد بها غيرَ السُّنَّة المعروفة، وأمَّا قول مَن قال: إنَّما قالَ هذا في أمِّ ولدٍ بعينِها كان أعتقَها سيِّدُها ثمَّ تزوَّجَها ومات عنها، فهو زوجُها على هذا ومولاها، فيحتاج إلى تثبتٍ.
          فَصْلٌ: إنَّما كانت عِدَّة الوفاة ما ذكَرَ؛ لأنَّ غالب الحَمْلِ يتبيَّنُ بحركةٍ في تلك المدَّة، لأنَّ النُّطفَةَ تبقى في الرَّحم أربعين يومًا ثمَّ تصير عَلَقةً كذلك، ثمَّ مُضْغةً كذلك، ثمَّ يُنفخ فيه الرُّوح بعدُ فتظهرُ في العشر الزَّائد بعد الأربعة أشهرٍ على ما في حديث ابن مسعودٍ.
          فَصْلٌ: قوله: (وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنهَا) يجوز ضمُّ النُّون على أنَّها مُشتكيةٌ، وفتحُها على أنَّ في (اشْتَكَتْ) ضمير الفاعل، وهي الحادَّةُ، ورُجِّح الأوَّل / كما وقع في بعض الرِّوايات: عيناها، فإن اضُطرَّت إليه فقيل: تُكحِّلُه ليلًا وتمسحَه نهارًا أخذًا بحديث أمِّ سَلَمَة، هو قول النَّخَعيِّ وعَطَاءٍ وأبي حنيفة والشَّافعيِّ ومالكٍ كما حكاه الباجِيُّ، وجوَّزه بعضُهم للحاجة وإن كان فيه طِيبٌ.
          ومذهبُنا جوازُه ليلًا عند الحاجة بما لا طِيب فيه، وقوله ◙ لا يحتملُ أنَّه نهيُ تنزيهٍ أو متأوَّلٌ على أنَّه لم يتحقَّق الخوف على عينها.
          فَصْلٌ: قوله: (إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) تقليلٌ للمدَّة ونهوضٌ للصَّبر عمَّا مُنعت منه، وَيُفيد هذا الحصر لمن يقول: إنَّ مدَّة الحامل لا تزيد على هذه المدَّة، خِلافًا لِمَا سلف عن مالكٍ.
          وفيه تصريحٌ بنسخ الاعتداد لسنةٍ المذكورِ في سورة البقرة: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240]، ولِمَا في هذا الحديث: (حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ).
          قال ابن عبد البرِّ: وهذا مِن النَّاسخ والمنسوخ الَّذي لم يختلف العلماء فيه والمجمَع عليه، وقوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] منسوخٌ عند الجمهور في نسخ الوصيَّة بالسُّكنى للزَّوجات في الحَوْلِ إلَّا روايةً شاذَّةً مهجورةً عن ابن أبي نَجِيحٍ عن مُجَاهدٍ، لم يُتابَع عليها ابنُ أبي نَجِيحٍ، ولا قال بها _فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر_ أحدٌ مِن علماء المسلمين مِن الصَّحابة والتَّابعين ومَن بعدهم مِن المخالفين فيما عَلِمْتُ، وقد روى ابنُ جُريجٍ عن مُجَاهدٍ في مثل ذلك مثلَ ما عليه النَّاس، فانعقدَ الإجماعُ وارتفع الخلافُ، فالحولُ منسوخٌ بالأربعةِ الأشهرٍ بلا خِلافٍ في ذلك.
          وأمَّا الوصيَّة بالسُّكنى والنَّفقة فمِن أهل الفِقه مَن رأى أنَّها منسوخةٌ بالميراثِ، وهم أكثر أهل الحِجَاز، أمَّا أهل العراق فذلك عندهم منسوخٌ بالسُّنَّة بأنْ ((لَا وَصِيَّةَ لوارثٍ))، فأيُّ الوجهين كان النَّسخُ فهو إجماعٌ على ردِّ ما رواه ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مجاهدٍ فإنَّه منكرٌ مِن القول لا يُلتَفت إليه.
          فَصْلٌ: وقولُه: (تَرْمِي بِالْبَعَرَةِ) يعني رَمَت بالعِدَّة وخرجت كانفصالها مِن هذه البَعْرة ورَمْيِها بها، وقيل: إشارةً إلى أن ما فَعَلَتْهُ وَصَبَرت عليه مِن الاعتداد سنَةً، ولُبْسِها شرَّ ثيابِها ونزولِها الحِفْشَ صغيرٌ هيِّنٌ بالنِّسبة إلى حقِّ الزَّوج وما يستحقُّهُ مِن المراعاة، كما يهونُ الرَّمي بالبَعْرةِ.
          وعبارةُ مُطَرِّفٍ وابن الماجِشُون: ترمي بَبَعرةٍ مِن بَعْر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامَها فيكون ذلك إحلالُها. وقال بعضهم: ترمي بها مَنْ عَرَضَ مِن كلبٍ أو غيرِه تُرِي مَنْ حضرها أنَّ مقامَها حولًا بعد زوجها على تلك الحال أهونُ عليها مِن بَعْرةٍ ترمي بها كلبًا أو غيره. وقال ابن وَهْبٍ: ترمي بِبَعْرةٍ مِن بَعْر الغنمِ تَرْمي بها وراءَ ظهرها بعد السَّنَةِ.
          وقولُها: (تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ) هو بدلٌ مِن (دَابَّةٍ)، وكلَّها دوابٌّ لأنَّها تدبُّ، أي تمشي، وهذه تسميةٌ لغويةٌ.
          فَصْلٌ: قولها: (قَالَتْ زَيْنَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَان) لمسلمٍ في حديث بنت أمِّ سَلَمَة قالت: توفِّي حَمِيمٌ لأمِّ حَبِيبة، كذا في رواية الجُلُوديِّ وغيرِه، وهو الصَّواب، ووقع في نسخة ابن الحذَّاء: توفِّي حَمِيمٌ لأمِّ سلمة. مكان: أمِّ حَبِيبةَ.
          فَصْلٌ: وأمَّا ما رُوي مِن أنَّه ◙ رخصَّ للمرأةِ أن تُحِدَّ على زوجها حتَّى تنقضيَ عدَّتُها، وعلى أبيها سبعة أيَّامٍ، وعلى مَن سواه ثلاثة أيَّامٍ، فغيرُ صحيحٍ لِمَا قدَّمناه في قصَّة أمِّ حبيبة أنَّها تَطيَّبُ بعد أبيها بثلاثٍ ولعُمُوم الأحاديث.
          وهذا الحديث أخرجه أبو داودَ في «مراسيله» عن عَمْرو بن شُعَيبٍ: أنَّه ◙... فذكره مفصَّلًا، وعَمْرٌو ليس تابعيًّا، فلا ينبغي ذكْرهُ في المراسيل.
          فَصْلٌ: قولُ الزُّهريِّ الَّذي بدأ به البخاريُّ هو قولُ مالكٍ والشَّافعيِّ كما سلف خلافًا لأبي حنيفَةَ، دليلُنا ما ذكرَه الزُّهريُّ، وذلك أنَّ الإحدادَ صِفةُ العِدَّة فتجِبُ لوجوبِها؛ ولأنَّه قال: أفنكحُلها _بالنَّون_ فلو لم تكن طفلةً لم يقل ذلك، ولكانت تُكحِّل نفسها، ولذلك قال أبو حنيفة في أحد قوليه في الأَمَةِ: لا إحدادَ عليها.
          فَصْلٌ: زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ راويةُ الأحاديث الثَّلاثة في الباب، أبوها أبو سَلَمَة عبدُ الله بن عبد الأسد، المخزُوميَّة رَبِيبةُ النَّبيِّ صلعم، قيل: كان اسمُها بَرَّةً، ولها صحبةٌ، تزوَّجَها عبد الله بن زَمْعَةَ بن الأسود فقُتِل ولداها يومَ الحَرَّةِ. روت عن رسول الله صلعم وعن أمِّها وعِدَّةٍ، وروى عنها عُرْوةُ وأبو سَلَمَة، تُوفِّيت سنةَ ثلاثٍ وسبعين.
          وأمَّا ابن التِّين فنقل عن بعض العلماء أنَّ زينبَ هذه لا يُعلَم لها روايةٌ عن رسول الله صلعم، ويروي أخوها عُمَر عن رسول الله صلعم. وهو عجيبٌ منه فاحذره.
          فَصْلٌ: و(أُمُّ حَبِيْبَةَ) أمُّ المؤمنين، اسمُها رَمْلَةُ، هاجرت إلى الحبشة فهَلَك زوجها، فزوَّجها النَّجاشيُّ مِن رسول الله صلعم، وأمُّها صفيَّة بنتُ أبي العاص بنِ أُميَّة، روى عنها أخواها مُعَاويةُ وعَنْبَسَةُ، وعُرْوةُ، وتُوفِّيت سنةَ أربعٍ وأربعين، وفيها نزلت: {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] قالَه ابن عبَّاسٍ.