التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {وبعولتهن أحق بردهن}

          ░44▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة:228]، أَيْ فِيْ الْعِدَّةِ، وَكَيْفَ يُرَاجِعُ المَرْأةَ إِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَينِ؟)
          5330- ثمَّ ساقَ عن الحَسَنِ قال: (زَوَّجَ مَعْقِلٌ أُخْتَهُ، فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً).
          5331- وعن سعيدٍ وهو ابن أبي عَرُوبةَ اليَشْكُرِيُّ: (عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ: أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنَ ذَلِكَ أَنَفًا فَقَالَ: خَلَّى عَنْهَا وَهْوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ...} إِلَى آخِرِ الآيَةِ [البقرة:232]، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلعم فَقَرَأَ عَلَيْهِ، فَتَرَكَ الْحَمِيَّةَ وَاسْتَقَادَ لأَمْرِ اللهِ).
          وقد سلف في التَّفسير [خ¦4529].
          5332- ثمَّ ساق حديث ابن عُمَرَ في طلاقه زوجتَه وهي حائضٌ، وقد سلف [خ¦5253].
          (وَكَانَ عَبْدُ اللهِ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لأَحَدِهِمْ: إِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلاَثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك. وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ: عَنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَنِي بِهَذَا).
          ثمَّ ترجم عليه:
          ░45▒ (بَابُ مُرَاجَعَةِ الْحَائِضِ)
          ومعنى {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في العِدَّة كما سلف، وهو قول النَّخَعيِّ وقَتَادَةَ ومجاهدٍ، والمراجعةُ مراجعةٌ في العِدَّة على حديث ابن عُمَر، ومراجعَةٌ بعدَها على حديث مَعْقِلٍ.
          وقام الإجماعُ على أنَّ الحرَّ إذا طلَّق زوجتَه الحرَّة _وكان دخلَ بها_ تطليقةً واحدةً أو تطليقتين أنَّه أحقُّ برجعتِها حتَّى تنقضي عِدَّتها، وإن كرهت المرأة.
          وقد قال المفسِّرون في الآية المذكورة أنَّه الرَّجعة، ولذلك كان ابنُ عُمَر يقول: لَوْ طَلَّقْتَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ خشيةَ أن يبدو لي في مراجعتها وهو قد بتَّ طلاقها فلا يمكنه، فإن لم يُراجعها المطلِّق للسُّنَّة حتَّى انقضت عدَّتها فهي أحقُّ بنفسها، فتصير أجنبيَّةً منه لا تحلُّ إلَّا بخطبةٍ ونكاحٍ مستأنَفٍ بوليٍّ وإشهادٍ ليس على سنَّة المراجعة، وهذا إجماعٌ، وعلى هذا جاء حديثُ مَعْقِل بنِ يَسَارٍ؛ أَلَا ترى أنَّ زوجَ أخته لو راجعَها في العِدَّة كان أملكَ بها، فلمَّا انقضت عِدَّتها وصارت أجنبيَّةً منه أحبَّ مراجعتَها فَعَضَلها أخوها ومنعها نِكَاحَه، ولم يَجُز له عضْلُها إلا إن كان ذلك مباحًا له، ولم يَجُز لزوجِها أن يردَّها بعد ذلك إلَّا بنكاحٍ جديدٍ وصَدَاقٍ وإشهادٍ، هذا معنى حديث مَعْقِلٍ هنا.
          وأمَّا حديثُ ابنِ عُمَر ففيه خِلاف هذا المعنى؛ وذلك أنَّه ◙ أمرَه بمراجعتها في تلك الحيضة الَّتي طلَّقها فيها، ولم يذكر في الحديث أنَّه احتاج إلى صَدَاقٍ ولا وليٍّ مِن أجل أنَّه ◙ حين أمرَه بارتجاعها لم يذكر رضاها ولا رضى وليِّها؛ لأنَّه إنَّما يردُّ مَن لم تُقطَع عِصْمته منها، ولو احتيج إلى ذلك لم يكن ابن عُمَر المأمور بذلك وحدَه دون المرأة والوليِّ، فكان هذا حكمًا في كلِّ مَن راجع في العِدَّة أنَّه لا يلزمه شيءٌ مِن أحكام النِّكاح غير الإشهاد على المراجعة فقط _على خِلافٍ فيه أعني الإشهادَ_ وهذا إجماعٌ مِن العلماء، وإنَّما لم يلزمُه شيءٌ مِن فُروض / النِّكاح لأنَّ المطلِّق للسُّنَّة لم يُدْخِل على نِكَاحه ما ينقضُهُ، وإنَّما أحدَثَ فيه ثُلْمَةً، فإذا راجعها في العدَّة فقد سدَّها.
          ويشهد لهذا المعنى قولُه تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني في العِدَّة {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة:228] يعني الرَّجعة، فجعل لهم الرَّجعة دون استئذان النِّساء ودون اشتراط شيءٍ مِن فروض النِّكاح.
          ولم يختلف العلماءُ في السُّنَّة في المراجعة أن تكون بالإشهاد عليها؛ لأنَّه تعالى ذكر الإشهادَ فيها، ولم يذكره في النِّكاح ولا في الطَّلاق فقال في الرَّجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، واختلفوا فيما يكون به مُراجِعًا، فقالت طائفةٌ: إذا جامَعَها فقد راجَعَها، روي ذلك عن سعيد بن المسيِّب وعطاءٍ وطَاوُسٍ، وهو قول الأوزاعيِّ، وقال مالكٌ وإسحاقُ: إذا وطئها في العِدَّة وهو يريد الرَّجعةَ، وجَهِل أنْ يُشهد فهي رجعَةٌ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتَّى يُشهِدَ. وقال ابنُ أبي ليلى: إذا راجع ولم يُشهِد صحَّت الرَّجعة.
          وقال الشَّافعيُّ: لا تكون رجعةً إلَّا بالكلام أن يقول: راجعتُكِ، وهو قول أبي ثورٍ، فإن جامعها بنيَّةِ المراجعة أو دونها فلا رجعة، ولها عليه مَهْرُ المِثْل. واستُشكِل لأنَّها في حكم الزَّوجات، فكيف يجبُ مَهْرٌ؟ وعند أبي حنيفة والثَّوريِّ: إنْ لمسَها أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ مِن غير قصد المراجعة فهي رجعةٌ، وينبغي أن يُشهِد، ولم يختلفوا فيمن باع جاريته بالخِيَار ثمَّ وطئها في أيَّام الخِيَار أنَّه قد ارتجعَها بذلك إلى مِلْكه، واختار نقْضَ البيع، وللمطلَّقة الرَّجْعيَّة حُكمٌ مِن هذا.
          فَرْعٌ: قال ابنُ المنذر: اختُلِف في مراجعة الحائض، فقال مالكٌ: ومَن طلَّقها وهي حائضٌ أو نُفَساء أُجبِر على رجعتِها، وقال الكوفيُّون: ينبغي له أن يُراجعها، وهو قول أبي ثورٍ، وقال الشَّافعيُّ: لا يُجبَر على رجعتها.
          قال ابنُ المنذر: ويشبه أن تكون حجَّةُ مَن أجبرَه عليها قولُه ◙ لعُمَر: ((مُرْهُ فليُرَاجِعْها))، وأمره فرضٌ.
          فَرْعٌ: الطَّلاقُ الرَّجعيُّ عندنا يحرِّم الوطءَ وخُولف فيه، وتتزوَّج البائنُ في عِدَّته بعدها، لا البائن بالثَّلاث إلَّا بشرطه، والتَزويج عندهم ليس رجعةً لأنَّه لغوٌ والوطء بِناءٌ عليه، فإن حَزِن بعدُ ثمَّ راجعها بفعلٍ أو قولٍ اختلف فيه أشياخهم على أقوالٍ: لا، نعم، تصحَّ بالفعل دون القول، قالوا: فإن وطئها في دُبُرها فليس برجعةٍ، والفتوى: نعم، فإن أجاز المطلِّق مراجعةَ الفضوليِّ صحَّ.
          فَصْلٌ: في «مصنَّف ابن أبي شَيْبَة»: عن جابر بن زيدٍ: إذا راجع في نفسه فليس بشيءٍ، قال: فإن طلَّقها ثمَّ لم يُخبِرها بالرَّجعة حتَّى تنقضي العِدَّة، فتزوَّجت ودخل بها الثَّاني فلا شيء له. وقال عليٌّ: إذا طلَّقَها ثمَّ أشهد على رجعتها فهي امرأته، أعلمَها أو لم يُعلِمْها، دخل بها الثَّاني أو لم يدخل. وقال عُمَر: إن أدركَها قبل أن تتزوَّج فهو أحقُّ بها، وفي لفظٍ: ما لم يدخل بها الثَّاني.
          وعن ابن المسيِّب في رجلٍ طلَّق امرأتَه ثمَّ بعث إليها بالرَّجعة فلم تأتها الرَّجعة حتَّى تزوَّجت، قال: بانت منه، فإن أدركَتْها الرَّجعةُ قبل أن تتزوَّج فهي امرأته. وعن إبراهيمَ: إذا ادَّعى الرَّجعةَ بعد انقضاء العِدَّة فعليه البيَّنة. وقال الزُّهريُّ: لم يُصدَّق وإن جاء ببيِّنةٍ. وقال ابن عبَّاسٍ: إن قال بعد انقضائها قد راجعتُكِ لم يُصدَّق، قال هو وإبراهيم: فإن طلق سِرًّا راجع سِرًّا، قال عبد الله: فتلك رَجعةٌ، وإن واقع فلا بأس، فإن طلَّق علانيةً وراجع أشهَدَ على رجعتِهِ.
          فَصْلٌ: في حديث مَعْقِلٍ دليلٌ على أنَّه ليس للمرأة أن تنكح بغير إذْنِ وليِّها، وأنَّه إذا عَضَلها فللسُّطان أن يسألَه ما الَّذي يحملُه على عَضْلِها، ولا يفتأتُ عليه فيزوِّجُها بغير أمرِه حتَّى يعرفَ معنى فعله؛ فربما عَضَلَها لأمرٍ إن تمَّ عليه كانت فيه غضاضةٌ عليه في عِرْضه، أَلَا ترى أنَّه ◙ ضمَّ مَعْقِلًا إلى العَقْد عليها بعد أن ثبت عَضْله لها ولم يَعْقِد لها ◙ دونه.
          ففيه حجَّةٌ للجمهور أنَّ الوليَّ مِن شرط النِّكاح، وقد سلف إيضاحُه، وقال أبو عُبَيدٍ: هذه الآية الَّتي نزلت في قِصَّة مَعْقِلٍ هي الأصل عندنا في نكاح الأولياء، لأنَّه لو لم يكن لهم فيه حظٌ ما كان لنهيهم عن عَضْلهنَّ معنًى.
          فَصْلٌ: قوله في حديث مَعْقِلٍ: (فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِنَ ذَلِكَ أَنَفًا) أي أبى مِن فعله وأَنِف، وحَمِيَ بكسر الميم على وزن عَلِم.
          وقوله: (فَتَرَكَ الحَمِيَّةَ وَاسْتَرَادَ لِأَمْرِ اللهِ) كذا في أصل الدِّمْيَاطيِّ (اسْتَرَادَ) أي رجَعَ ولانَ وانقادَ، وذكرَه ابنُ التِّين بلفظٍ: <فَاسْتَقَادَ>. وقال: كذا وقع عند الشَّيخ أبي الحسن بتشديد الدَّال والألف، ولا يتبيَّن لي وجهُه لأنَّ ألفَ المفاعلة لا تجتمِعُ مع سين الاستفعال، قال: وعند أبي ذرٍّ: <فَاسْتَقَادَ لِأَمْرِ اللهِ> أي أذعَنَ وطاعَ، وهو بيِّنٌ.
          فَصْلٌ: حديثُ ابن عُمَر ☻ دالٌّ على أنَّ الأَقراءَ الأطهارُ، وذكرَه ابن التِّين بلفظ: فأمرَه ◙ أن يُرَاجِعَها ثمَّ يطلِّق مِن قُبُلِ عِدَّتها، ولم يذكره البخاريُّ كذلك، ثمَّ قال: فيه ردٌّ على أبي حنيفة في قوله: الأَقراءُ الحِيَضُ، فإن (قُبُل) بضمِّ القاف والباء هو أوَّل عدَّتها، وهي حالة تعتدُّ بها مِن العِدَّة وهي فيها طاهرٌ فدلَّ أنَّ الأقراء الأطهار.