عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها؟
  
              

          ░111▒ (ص) بابٌ هَلْ يُسَافِرُ بِالْجَارِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا؟
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه هل يسافر شخصٌ بالجارية التي اشتراها قبل أن يستبرئها؟ وإِنَّما قيَّد بالسفر، وإن كان في الحضر أيضًا لا بُدَّ مِن الاستبراء؛ لأنَّ السفر مظنَّة المخالطة والملامسة غالبًا، واستبراء الجارية: طلبُ براءةِ رحمها مِنَ الحمل، وأصلُه مِن استبرأتُ الشيء؛ إذا طلبتَ آخِرَه لتعرفَه وتقطعَ الشُّبهة، وقيل: الاستبراء عبارةٌ عن التعرُّف والتبصُّر احتياطًا، و(الاستبراء) الذي يُذكَر مع الاستنجاء في الطهارة هو أن يستفرغَ بقيَّة البول، ويُنقي موضعه ومجراه، وكلمة (هل) هنا للاستفهام على سبيل الاستخبار، ولم يذكر جوابه؛ لمكان الاختلاف فيه.
          (ص) وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا أَنْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يُبَاشِرَهَا.
          (ش) (الْحَسَنُ) هو البِصْريُّ، هذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبَةَ عن ابن عُلَيَّةَ قال: سُئِل يونس عَنِ الرجل يشتري الأَمَة فيستبرئها؛ يصيب منها القُبْلة والمباشرة؟ فقال ابن سِيرِين: يكره ذلك، ويُذكَر عن الحسن أنَّهُ كان لا يرى بالقُبلة بأسًا.
          قوله: (أَوْ يُبَاشِرَهَا) يعني: فيما دون الفرج، ويُروى: <ويباشرها> بالواو، ويؤيِّد هذا ما رواه عبد الرَّزَّاق بإسناده عَنِ الحسنِ قال: يصيب ما دون الفَرْج، ولفظ (المباشرة) أعمُّ مِنَ التقبيل وغيرِه، ولكنَّ الفرج مستثنًى؛ لأجل المعرفة ببراءة الرحم.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ☻: إِذَا وُهِبَتِ الْوَلِيدَةُ الَّتِي تُوطَأُ أَوْ بِيعَتْ أَوْ عَتَقَتْ؛ فَلْيُسْتَبْرَأْ رَحِمُهَا بِحَيْضَةٍ، وَلَا تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ.
          (ش) (ابْنُ عُمَرَ) هو عبد الله بن عُمَر.
          قوله: (إِذَا وُهِبَتِ...) إلى قوله: (بِحَيْضَةٍ) تعليقٌ وصله أبو بَكْر ابن أبي شَيْبَةَ مِن طريق عُبيد الله، عن نافعٍ عن ابن عُمر.
          و(الْوَلِيدَةُ) الجارية.
          قوله: (الَّتِي تُوطَأُ) على صيغة المجهول.
          قوله: (أَوْ بِيعَتْ) بكسر الباء على صيغة المجهول أيضًا.
          قوله: (أَوْ عَتَقَتْ) بفتح العين، وقيل: بضمِّها، وليس بشيءٍ.
          قوله: (فَلْيُسْتَبْرَأْ) على صيغة المجهول والمعلوم؛ أي: لِيَسْتَبْرئ المتَّهَب والمشتري والمتزوِّج بها الغير المعتق.
          قوله: (وَلَا تُسْتَبْرَأُ الْعَذْرَاءُ) وهي البكر؛ إذ لا شكَّ في براءة رحمها مِنَ الولد، وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبَةَ عن عبد الوَهَّاب، عَن سعيدٍ، عَن أيُّوب، عَن نافع، عَن ابنِ عمر، قال: إن اشترى أمةً عذراء فلا يستبرئها، وقال ابن التين: هذا خلاف ما يقوله مالك، قيل: والشَّافِعِيُّ أيضًا، وقيل: يستبرئ استحبابًا، وعن ابن سِيرِين في الرجل يشتري الأَمَة العذراء، قال: لا يقربنَّ ما دون رحمها حَتَّى يستبرِئَها، وعن الحسنِ: يستبرئها وإن كانت بكرًا، وكذا قاله عِكْرِمَة، وقال عطاء في رجل اشترى جارية مِن أبويها عذراء، قال: يستبرئها بحيضتين.
          ومذهب جماعة منهم؛ ابن القاسم وسالم والليث وأبو يوسف: لا استبراء إلَّا على البالغة، وكان أبو يوسف لا يرى استبراء العذراء وإن كانت بالغةً، ذكره ابن الجوزيِّ عنه، وقال إياس بن معاوية في رجل اشترى جارية صغيرة، لا يُجامع مثلها، قال: لا بأس أن يطأها ولا يستبرئها، وكره قتادة تقبيلها حَتَّى يستبرئها، وقال أيُّوب اللخميُّ: وقعَتْ في سهم ابن عمر جارية يوم جلولاء، فما ملك نفسه حَتَّى قبَّلها، قال ابن بَطَّالٍ: ثبت هذا عَنِ ابن عمر ☻.
          (ص) وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْ جَارِيَتِهِ الْحَامِلِ مَا دُونَ الْفَرْجِ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}[المؤمنون:6].
          (ش) (عَطَاءٌ) هو ابن أبي رَبَاحٍ المَكِّيُّ، والمراد بقوله: (الْحَامِلِ) مِن غير سيِّدها؛ / لأنَّها إذا كانت حاملًا مِن سيدها فلا يرتاب في حِلِّه، ثُمَّ وجه الاستدلال بالآية هو أنَّ الله تعالى مَدَحَ الحافظين فروجهم إلَّا عَلى أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فَإِنَّها دلَّت على جواز الاستمتاع بجميع وجوهه، لكن خرج الوطء بدليلٍ، فبقي الباقي على أصله.