عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب التجارة في البحر
  
              

          ░10▒ (ص) باب التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان إباحة التجارة في ركوبِ البحرِ.
          (ص) وَقَالَ مَطَرٌ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِحَقٍّ ثُمَّ تَلَا: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}[فاطر:12].
          (ش) (مَطَرٌ) هذا هو الورَّاق البَصْريُّ، وهو مَطَر بن طهمان، / أبو رجاءٍ الخراسانيُّ، سكن البصرة، وكان يكتب المصاحف، فلذلك قيل له: الورَّاق، روى عن أنسٍ، ويقال: مرسلٌ، ضعَّفه يحيى بن سعيد في حديثه عن عطاءٍ، وكذا روى عن ابن مَعين، وعنه صالح، وذكره ابن حِبَّان في الثقات، روى له البُخَاريُّ في كتاب «الأفعال» وروى له الباقون، وقال الكَرْمَانِيُّ: الظاهر أنَّهُ مَطَر بن الفضل المَرْوَزِيُّ شيخ البُخَاريِّ، ووصفه المِزِّيُّ والشيخ قطبُ الدين الحلبيُّ وغيرهما بأنه الورَّاق، ووقع في رواية الحمُّوي وحده: <مُطَرِّف> موضع (مطر)، وليس بصحيحٍ، وهو محرَّفٌ.
          قوله: (لَا بَأْسَ بِهِ) أي: بركوب البحر، يدلُّ عليه لفظ (التجارة في البحر) ؛ لأنَّها لا تكون في البحر إلَّا بالركوب.
          قوله: (وَمَا ذَكَرَهُ اللُه) أي: ما ذكر الله ركوبَ البحر في القرآن (إِلَّا بِحَقٍّ) والكلام في هذا الضمير مثلُ الكلام فيما قبله، ولمَّا رأى مطرٌ أنَّ الآية سيقت في معرض الامتنان؛ استدلَّ به على الإباحة، واستدلاله حسنٌ؛ لأنَّ الله تعالى جعل البحر لعباده لابتغاء فضله مِن نِعَمه التي عدَّدها لهم، وأراهم في ذلك عظيمَ قدرته، وسَخَّر الرياح باختلافها لحملهم وتردُّدِهم، وهذا مِن عظيم آياته، ونبَّههم على شكره عليها بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[فاطر:12]، وهذه الآية في (سورة فاطر)، وأَمَّا التي في (النحل) وهي: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا}[النحل:14] بالواو، وهذا يردُّ قولَ مَن زعم منعَ ركوبه في إبَّان ركوبه، وهو قولٌ يُرْوَى عن عمر ☺ ، ولمَّا كتب إلى عَمْرو بن العاص يسأله عنِ البحر؛ فقال: خلقٌ عظيمٌ يركبه خَلقٌ ضعيف، دودٌ على عود، فكتب إليه عمر ☺ : أن لَا يركبه أحدٌ طولَ حياته، فلمَّا كان بعد عمر لم يَزَل يُركَب حَتَّى كان عُمَر بن عبد العزيز، فاتَّبع فيه رأيَ عمر ☺ ، وكان منع عمر لشدَّة شفقته على المسلمين، وأَمَّا إذا كان إبَّان هيجانه وارتجاجِه؛ فالأمَّة مُجمِعةٌ على أنَّهُ لا يجوز ركوبُه؛ لأنَّه تعرُّض للهلاك، وقد نهى الله عباده عن ذلك بقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}[البقرة:195] وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29].
          (ص) والْفُلْكُ: السُّفُنُ، الوَاحِدُ والجَمْعُ سَوَاءٌ.
          (ش) الظاهر أنَّهُ مِن كلام البُخَاريِّ؛ أي: أنَّ المراد مِنَ {الفُلْكِ} في الآية: السُّفُنُ، أراد أنَّهُ الجمع؛ بدليل قوله: {مَوَاخِرَ}[النحل:14].
          و(السُّفُنُ) بِضَمِّ السين والفاء، جمع (سفينة)، قال ابن سِيدَه: سمِّيت سفينة؛ لأنَّها تسفن وجه الماء، أي: تقشره، (فعيلة) بمعنى (فاعلة)، والجمع: سفائن وسفن وسفين.
          قوله: (الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ) يعني: في الفلك، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}[الشعراء:119]، وقوله: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم}[يونس:22]، فَذَكَره في الإفراد والجمع بلفظٍ واحدٍ، وقال بعضهم: وقيل: إنَّ الفلك بالضمِّ والإسكان جمع «فَلَك» بفتحتين، مثل: أُسْد وأَسَد.
          قُلْت: هذا القولُ على هذا الوجه غيرُ صحيحٍ، وإِنَّما الذي يقال: إنَّ ضمَّة فاء (فُلك) إذا قُوبِلت بِضَمِّ همزة (أُسد) الذي هو جمعٌ؛ يقال: جمع، وإذا قُوبِلَت بِضَمِّ قاف (قُفل) يكون مفردًا.
          (ص) وقال مُجِاهِدٌ: تَمْخَرُ السُّفُنُ الرِّيحَ، ولَا تَمْخُرُ الرِّيحَ مِنَ السُّفُنِ إلَّا الْفُلْكُ العِظَامُ.
          (ش) قال ابن التين: يريد أنَّ السفن تَمْخَرُ مِنَ الريح وإن صغُرت؛ أي: تصوِّت، والريحُ لا تَمْخَر _أي: لا تُصوِّت_ إلَّا مِن كبار الفُلك؛ لأنَّها إذا كانت عظيمةً صَوَّت الريح، وقال عياض: ضبطه الأكثر بنصب «السفن»، وعكسه الأصيليُّ، وقيل: ضبطُ الأصيليِّ هو الصواب، وهو ظاهر القرآن؛ إذ جعل الفعل للسفينة، فقال: {مَوَاخِرَ فِيهِ}، وقيل: ضبط الأكثر هو الصواب، بناءً على أنَّ «الريح» الفاعل، وهي التي تُصرِّف السفينةَ في الإقبال والإدبار.
          قوله: (تَمْخَرُ) بفتح الخاء المُعْجَمة؛ أي: تشقُّ، يقال: مخرت السفينة؛ إذا شقَّت الماء بصوتٍ، وقيل: المَخر: الصوت نفسه.
          قوله: (مِنَ السُّفُنِ) صفة لـ(شيء) محذوفٍ؛ أي: لا تمخر الريحَ شيءٌ مِنَ السُّفن إلَّا الفلك العِظام، وهو بالرفع بدلٌ عن (شيءٍ)، ويجوز فيه النصب، و{مَواخِر}[النحل:14] جمع (ماخرة)، ومعنى {مواخِرَ} جَواري، وقال الزَّمَخْشَريُّ: شواقَّ.