عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب ما جاء في قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في}
  
              

          ░1▒ (ص) باب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الجمعة:10-11] وَقَوْلِهِ تَعَالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:29].
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان ما جاء في قولِه ╡ ({فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ...}) إلى آخر الآية، هذه الآية والتي بعدها مِن (سورة الجمعة)، وهي مدنيَّة، وهي سبع مئة وعشرون حرفًا، ومئة وثمانون كلمةً، وإحدى عشرة آيةً.
          قوله: ({فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}) أي: فإذا أُدِّيت، و(القضاء) يجيء بمعنى الأداء، وقيل: معناه: إذا فُرِغَ منها؛ ({فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}) للتجارة والتصرُّف في حوائجكم ({وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ}) أي: الرزق، ثُمَّ أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة؛ مِنَ الانتشار وابتغاء الرِّبح، مع التوصية بإكثار الذكر، وألَّا يلهيهم شيءٌ مِنَ التجارة ولا غيرها عنه، والأمر فيهما للإباحة والتخيير؛ كما في قولِه تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}[المائدة:2]، وقيل: هو أمرٌ على بابه، وقال الداوديُّ: هو على الإباحةِ لِمَن له كفافٌ، أو لا يُطِيق التكسُّب، وفرضٌ على مَن لا شيء له، ويُطِيق التكسُّب، وقيل: مَن يُعطَف عليه بسؤالٍ أو غيره ليس طلبُ الكفاف عليه بفريضة.
          قوله: ({وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا}) أي: على كلِّ حالٍ، و(لعلَّ) مِنَ الله واجبٌ، و(الفلاح) الفوز والبقاء.
          قوله: ({وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً}) سببُ نزولها ما رُوِيَ عن جابر بن عبد الله قال: أقبلت عِيْرٌ ونحن نصلِّي مَعَ رسول الله صلعم الجمعةَ، فانفضَّ الناس إليها، فما بقيَ غير اثني عشر رجلًا وَأَنَا فيهم، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً}، ورُوِيَ أنَّ أهلَ المدينة أصابهم جوعٌ وغلاءٌ شديدٌ، فَقَدِم دِحْية بن خليفة بتجارةٍ مِن زيت الشام، والنَّبِيُّ صلعم يخطب يومَ الجمعة، فلمَّا رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشوا أن يُسْبَقوا إليه، فلم يَبقَ مَعَ النَّبيِّ صلعم إلَّا رَهطٌ؛ منهم أبو بكر وعمر ☻، قيل: ثمانية، وقيل: أحد عشر، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون، فقال رسول الله صلعم : «والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيده؛ لو تتابعتم حَتَّى لم يبقَ منكم أحدٌ؛ لسال بكمُ الوادي نارًا»، وكانوا إذا أقبلت العيرُ استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد باللَّهو، وعن قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مَرَّات في كلِّ مَقدَم عِيرٍ.
          قوله: ({انفَضُّوا}) أي: تفرَّقوا.
          قوله: ({إِلَيْهَا}) أي: إلى التجارة، فَإِنْ قُلْتَ: المذكور شيئان؛ التجارة واللهو، وكان القياس أن يقالَ: إليهما؟ قُلْت: تقديرُه: وإذا رأوا تجارةً انفضُّوا إليها، أو لهوًا انفضُّوا إليه، فحُذِفَت إحداهما لدلالة المذكور عليه.
          قوله: ({وَتَرَكُوكَ}) الخطاب للنَّبيِّ صلعم ، ({قَائِمًا}) أي: على المنبرِ، قُل يا مُحَمَّد: ({مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ}) [الذي لا نَفْعَ فيه، بل خيرٌ مِنَ التجارة التي فيها نفعٌ في الجملة، قَدَّم اللهوَ على التجارةِ في الآخِر]، والتجارة على اللهو في الأَوَّل، فإنَّ المقام يقتضي هكذا.
          قوله: ({وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}) لأنَّه موجِدُ الأرزاق، فإيَّاه فاسألوا، ومنه فاطلبوا، وقيل: لم يكن يفوتكم الرزق لو أقمتم؛ لأنَّ الله هو خير الرازقين.
          قوله: (وَقَولِه تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}) أي: بغير حقٍّ، وقام الإجماع على أنَّ التصرُّف في المال بالحرام باطلٌ حرام، سواء كان أكلًا أو بيعًا أو هِبَة،ًأو غير ذلك، / و(الباطلُ) اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما لا يَحلُّ في الشرع؛ كالرِّبا والغصب والسرقة والخيانة وكلِّ محرَّمٍ ورد الشرع به.
          قوله: ({إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً}) فيه قراءتان: الرفع على أنَّ {تكون} تامَّة، والنصب على تقدير: أن لا تكون الأموالُ أموالَ تجارة، فحُذِفَ المضاف، وقيل: الأجود الرفع؛ لأنَّه أدلُّ على انقطاع الاستثناء، ولأنَّه لا يحتاج إلى إضمارٍ.
          قوله: ({عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ}) أي: يرضى كلُّ واحدٍ منكم بِما في يدِه، وقال أكثر المُفسِّرين: هو أن يخيِّر كلُّ واحدٍ مِنَ البائعين صاحبَه بعد العقدِ عن تراضٍ، والخِيار بعد الصفقةِ، ولا يحلُّ لمسلم أن يغشَّ مسلمًا.
          ثُمَّ الآياتُ التي ذكرها البُخَاريُّ ظاهرةٌ في إباحة التِّجارة، إلَّا قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} فَإِنَّها عتبٌ عليها، وهي أدخلُ في النَّهي منها في الإباحة لها، لكنَّ مفهومَ النَّهي عن تركه قائمًا اهتمامًا بها يُشعِرُ بأنَّها لو خَلَت مِنَ العارِضِ الرَّاجحِ لم يدخل في العتب، بل كانت حينئذٍ مباحةً، وقد أباح اللهُ التِّجارةَ في كتابه، وأمر بالابتغاء مِن فضله، وكان أفاضلُ الصحابة ♥ يتَّجِرون ويحترفون في طلب المعاش، وقد نهى العلماءُ والحكماءُ عن أن يكون الرجلُ لا حرفةَ له ولا صناعة؛ خشيةَ أن يحتاج إلى الناس فيذلَّ لهم، وقد رُوِيَ عن لقمانَ ◙ أنَّهُ قال لابنه: يا بنيَّ؛ خُذْ مِنَ الدُّنيا بلاغك، وأنفِقْ مِن كسبكَ لآخرتك، ولا ترفضِ الدُّنيا كلَّ الرَّفض؛ فتكونَ عيالًا، وعلى أعناقِ الرِّجال كَلالًا.