عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب موكل الربا
  
              

          ░25▒ (ص) بابُ مُوكِلِ الرِّبَا.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان إثم (مُوكِلِ الرِّبَا) أي: مُطعِمه، وهو بِضَمِّ الميم وكسر الكاف، اسم فاعلٍ من مَزيد أكل، وهو (أَأْكل) بهمزتين، فقُلِبت الهمزة الثانية التي هي من نفس الكلمة ألفًا؛ لانفتاح ما قبلها، فصار (آكل) على وزن (أَفْعِل)، واسم الفاعل منه (مُوكِلٌ) [على وزن (مُفْعِل) وأصله (مُؤْكل) بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الميم، فقلبت واوًا لضمَّة ما قبلها].
          (ص) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَّدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاتَّقُوا يَوْمًا تَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة:278-281]. /
          (ش) (لِقَوْلِهِ تَعَالىَ) وفي بعض النُّسَخ: <لقول الله تعالى> اللام فيه للتعليل بأنَّ مُوكِلَ الربا وآكِلَه آثمان؛ لأنَّ الله تعالى نهى عنه بقوله: ({وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}) فأمر الله عباده المؤمنين بتقواه، ناهيًا لهم عمَّا يُقرِّبُهم إلى سخطه ويُبعِدُهم عن رضاه، فقال: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ}) أي: خافوه وراقِبوه فيما تفعلون ({وَذَرُوا}) أي: اتركوا ({مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}) وغير ذلك، وقد ذكر زيدُ بن أسلمَ وابنُ جُرَيْجٍ ومقاتلُ بن حَيَّان والسُّدِّيُّ أنَّ هذا السِّباق نزل في بني عَمْرو بن عُمَيْرٍ مِن ثقيفٍ، وبني المغيرة من بني مخزومٍ، كان بينهم ربًا في الجاهليَّة، فلمَّا جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلب ثقيفٌ أن تأخذه منهم، فتشاجروا، وقال بنو المغيرة: لا نؤدِّي الربا في الإسلام، فكتب في ذلك عَتَّابُ بن أَسِيدٍ نائبُ مكَّةَ إلى رسول الله صلعم ، فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلعم إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ [مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}[البقرة:278]، فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركه كلُّهم.
          قوله: ({فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ}) ] قال ابن عَبَّاسٍ: أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله، وعن سعيد بن جُبَيْرٍ قال: يُقال يومَ القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثُمَّ قرأ: ({فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ}) [وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عَبَّاسٍ: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ}] فمن كان مقيمًا على الربا لا يُنزَع منه، يَحِقُّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإنْ نزع وإلَّا ضرب عنقه، وقال ابن أبي حاتمٍ: حَدَّثَنَا عليُّ بن الحسين: حَدَّثَنَا مُحَمَّد ابن بشَّار: حَدَّثَنَا عبد الأعلى: حَدَّثَنَا هشام بن حسَّان، عن الحسن وابن سِيرِين أنَّهما قالا: والله إنَّ هؤلاء الصيارفة لأكلةُ الربا، وإنَّهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم، فإن تابوا وإلَّا وضع فيهم السلاح.
          قوله: ({وَإِن تُبْتُمْ}) أي: عن الربا ({فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}) من غير زيادة، [({لَا تَظْلِمُونَ}) بأخذ زيادة ({وَلَا تُظْلَمُونَ}) بوضع رؤوس الأموال، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة] عليه ولا نقصان منه.
          قوله: ({وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}) أي: وإن كان الذي عليه الدَّيْنُ فقيرًا ({فَنَظِرَةٌ}) أي: الواجب الانتظار إلى وقت الميسرة، لا كما كان أهل الجاهليَّة يقول أحدهم لمَدِينه إذا حلَّ عليه الدَّين: إمَّا أن تقضي، وإمَّا أن تُرْبِيَ، ثُمَّ ندب الله تعالى إلى الوضع عنه وحرَّضه على ذلك الخير والثواب الجزيل بقوله: ({وَأَن تَصَّدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ}) وروى الطبرانيُّ من حديث أبي أمامة أسعدَ بنِ زرارة قال: قال رسول الله صلعم : «من سرَّه أن يظلَّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلَّا ظلُّه؛ فلييسِّر على معسر، أو ليضع عنه»، وروى أحمد من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال: سمعت النَّبِيَّ صلعم يقول: «من أنظر معسرًا فله بكلِّ يوم مثله صدقة» قال: ثُمَّ سمعته يقول: «من أنظر معسرًا فله بكلِّ يوم [مثلاه صدقة»، [قُلْت: سمعتك يا رسول الله تقول: «من أنظر معسرًا فله بكلِّ يوم] مثلُه صدقةً»، ثُمَّ سمعتك تقول: «من أنظر معسرًا فله بكلِّ يوم مثلاه صدقة»، قال: «له بكلِّ يوم مثله صدقة] قبل أن يحلَّ الدَّين، فإذا حلَّ الدَّين فأنظرَه فله بكلِّ يوم مثلاه صدقة»، وروى الحاكم من حديث سهل بن حُنَيْف: أنَّ رسول الله صلعم قال: «من أعان مجاهدًا في سبيل الله، أو غازيًا، أو غارمًا في عسرته، أو مكاتبًا في رقبته؛ أظلَّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلَّا ظلُّه»، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
          قوله: ({وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ}) أي: اتقوا عذاب يوم، ويجوز أن يكون على ظاهره؛ لأنَّ يوم القيامة يوم مخوِّف.
          قوله: ({تُرْجَعُونَ فِيهِ}) أي: تردُّون فيه ({إِلَى اللهِ}) أي: إلى حساب الله وجزائه.
          قوله: ({ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ}) أي: تُجازى كلُّ نفس بما كسبت من الخير والشرِّ ({وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}) لأنَّ الله عادل لا ظلم عنده.
          (ص) قَالَ ابْنُ عَبَّاس ☻: هَذِهِ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلعم .
          (ش) هذه إشارةٌ إلى آية الربا، وهذا التعليق رواه / البُخَاريُّ مسندًا في (التفسير) فقال: حَدَّثَنَا قَبِيصَة: حَدَّثَنَا سفيان عن عاصم، عن الشعبيِّ، عن ابن عَبَّاس: آخر آية نزلت آية الربا، وقال ابن التين عن الداوديِّ، عن ابن عَبَّاس: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} قال: فإمَّا أن يكون وهم من الرواة لقربها منها، أو غير ذلك انتهى، وأُجِيب: بأنَّه ليس بوهم، بل هاتان الآيتان نزلتا جملة واحدة، فصحَّ أن يقال لكلٍّ منهما: آخر آية، ورُوِيَ عن البراء أنَّ آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء:176]، وقال أُبَيُّ بن كعب ☺ : آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}[التوبة:128]، وقيل: إنَّ قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} إِنَّها نزلت يوم النحر بمنًى في حجَّة الوداع، وروى الثَّوْريُّ عن الكلبيِّ عن أبي صالح عن ابن عَبَّاس قال: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} فكان بين نزولها وبين موت النَّبِيِّ صلعم واحد وثلاثون يومًا، وقال ابن جُرَيْج: يقولون إنَّ النَّبِيَّ صلعم عاش بعدها تسع ليال، [وبدئ يوم السبت ومات يوم الاثنين، رواه ابن جرير، وقال مقاتل: توفِّي النَّبِيُّ صلعم بعد نزولها بسبع ليالٍ].