عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب الكيل على البائع والمعطي
  
              

          ░51▒ (ص) بابُ الْكَيْلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُعْطِي.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيانِ مُؤنة الكيلِ على البائع، وكذا مُؤنة الوزنِ فيما يوزَن على البائع.
          قوله: (وَالْمُعْطِي) أي: ومُؤنة الكيلِ على المعطي أيضًا، سواء كان بائعًا أو موفيًا للدَّين أو غير ذلك، وقال الفقهاء: إنَّ الكيل والوزن فيما يُكالُ ويُوزَن مِنَ المبيعاتِ على البائع، ومَن عليه الكيلُ والوزن فعليه أجرةُ ذلك، وهو قولُ مالك وأبي حنيفة والشَّافِعِيِّ وأبي ثور، وقال الثَّوْريُّ: كلُّ بيعٍ فيه كيلٌ أو وزنٌ أو عدد؛ فهو على البائع حَتَّى يوفيَه إيَّاه، فإن قال: أبيعُك النخلة؛ فجذاذُها على المشتري، وفي «التوضيح»: وعندنا أنَّ مؤنة الكيل على البائع، ووزن الثمن على المشتري، وفي أجرة النقَّاد وجهان، وينبغي أن تَكونَ على البائع، وأُجرة النقل المُحتاجِ إليه في تسليم المنقولِ على المشتري، صَرَّح به المتولِّي، وقال بعضُ أصحابنا: على الإمام أن ينصب كيَّالًا ووزَّانًا في الأسواق، ويرزقهما مِن سَهْم المصالح، وقالت الحَنَفيَّة: وأجرةُ نقد الثمن ووزنه على المشتري، وعن مُحَمَّد بن الحسَن: أجرة نقد الثمن على البائع، [وعنه: أنَّ أجرة النقد على ربِّ الدَّين بعد القبض، وقبله على المَدين، وأجرة الكيَّال على البائع] فيما إذا كان البيع مُكايَلةً، وكذا أجرة وزنِ المبيع وذَرْعِه وعَدِّه على البائع؛ لأنَّ هذه الأشياءَ مِن تمام التسليم، وهو على البائع، وكذا إتمامُه.
          (ص) وقَوْلِ الله تَعَالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}[المطففين:3] يعْنِي: كَالُوا لَهُمْ، وَوَزَنُوا لَهُمْ؛ كَقَوْلِهِ: {يَسْمَعُونَكُمْ}[الشعراء:72]: يَسْمَعُونَ لَكُمْ.
          (ش) (قَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفًا على قوله: (الكيل) والتقدير: بابٌ في بيانِ الكيل، وفي بيان معنى قوله: ({وَإِذَا كَالُوهُمْ}) وقد بيَّنه بقوله: (يعْنِي: كَالُوا لَهُمْ...) إلى آخره، وفي بعض النُّسَخ: <لقول الله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ}> فعلى هذه يقع هذا تعليلًا للترجمة، فوجهه أنَّهُ لمَّا كان الكيل على البائع وعلى المعطي، بالتفسير الذي ذكرناه؛ وجب عليهما توفيةُ الحق الذي عليهما في الكيل والوزن، فإذا خانوا فيهما بزيادةٍ أو نقصان؛ فقد دخلا تحت قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ} إلى قوله: {يُخْسِرُونَ} وعلى النُّسخة المشهورة يَكون الآيةُ مِنَ الترجمة، وهذه السورة مكيَّةٌ في رواية هَمَّام وقتادة ومُحَمَّد بن ثور عن مَعمر، وقال السُّدِّيُّ: مدنيَّةٌ، وقال الكلبيُّ: نزلت على النَّبِيِّ صلعم في طريقه مِن مكة إلى المدينة، وقال أبو العَبَّاس في «مقامات التنزيل»: نظرتُ في اختلافهم فوجدتُ أَوَّلَ السورة مدنيًّا، كما قال السُّدِّيُّ، وآخرَها مكيًّا، كما قال قتادة، وقال الواحديُّ عن السُّدِّيِّ: قدم رسول الله صلعم المدينةَ وبها رجل يقال له: أبو جُهَينة، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية، وفي «تفسير الطَّبَريِّ»: كان عيسى بن عُمَر فيما ذُكِر عنه يجعلهما حرفين، ويقف على: {كَالُوا} وعلى{وَزَنُوا} فيما ذكر، ثُمَّ يبتدئ فيقول: {هم يخسرون} والصواب عندنا في ذلك الوقف على: هم.
          قوله: (يَعْنِي: كَالُوا لَهُمْ) حذَف الجارَّ وأوصل الفعلَ، وفيه وجه آخرُ، وهو: أن يكون على حذف المضاف وهو المكيل والموزون. أي: كالوا مكيلهم.
          (ص) وَقَالَ / النَّبِيُّ صلعم : «اكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا».
          (ش) هذا التعليق ذكره ابن أبي شَيْبَةَ مِن حديث طارق بن عبد الله المحاربيِّ بسندٍ صحيحٍ.
          قوله: (اكْتَالُوا) أمرٌ للجماعة مِنَ الاكتيال، والفرقُ بين الكيل والاكتيال أنَّ الاكتيالَ إِنَّما يُستعمَل إذا كان الكيلُ لنفسه؛ كما يقال: (فلان مُكتسِبٌ) لنفسه، و(كاسبٌ) لنفسه ولغيره، وكما يقال: (اشْتَوى) إذا اتَّخذ الشِّواء لنفسه، وإذا قيل: (شَوَى) هو أعمُّ مِن أن يكون لنفسه ولغيره.
          (ص) وَيُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ ☺ : أَنَّ النَّبِيّ صلعم قَالَ لَهُ: «إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ».
          (ش) مطابقتُه للترجمة مِن حيث إنَّ معنى قوله: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ) هو معنى قوله في الترجمة: (بابُ الكيلِ على البائع) وقال ابن التين: هذا لا يطابق الترجمة لأنَّ معنى قوله: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ) أي: فأوفِ، وإذا ابتعت فاكتل؛ أي: استوفِ، قال: والمعنى: أنَّهُ إذا أعطى أو أخذ لا يزيد ولا ينقص؛ أي: لا لك ولا عليك.
          قُلْت: لا ينحصر معناه على ما ذكره؛ لأنَّه جاء في حديثٍ رواه اللَّيث، ولفظه: أنَّ عثمان قال: كنتُ أشتري التمر مِن سوق بني قينقاع، ثُمَّ أجلبه إلى المدينة، ثُمَّ أفرغه لهم وأخبرهم بما فيه مِنَ المكيلة، فيعطوني ما رضيت به مِنَ الربح، ويأخذونه بخبري، فبلغ ذلك النَّبِيَّ صلعم ، فقال له: (إِذَا بِعْتَ فَكِلْ) فظهر مِن ذلك أنَّ معناه: أعطِ الكيل حقَّه، وهو أن يكون الكيل عليه، وليس المراد منه طلب عدم الزيادة والنقصان، فظهر مِن ذلك أنَّ وجه المطابقة بين الحديث والترجمة ما ذكرناه.
          وهذا التعليق وصله الدَّارَقُطْنيُّ مِن طريق عُبيد الله بن المغيرة، عن مُنقذ مولى سُرَاقَة، عن عثمان بهذا، ومُنقذ مجهول الحال، لكنْ له طريق آخرُ أخرجه أحمد وابن ماجة والبَزَّار مِن طريق موسى بن وردان عن سعيد بن المُسَيَِّبِ، عن عثمان به.
          فَإِنْ قُلْتَ: في طريقه ابنُ لَهيعة؟
          قُلْت: هو مِن قديم حديثه؛ لأنَّ ابنَ عبد الحكَم أورده في «فتوح مِصر» مِن طريق اللَّيث عنه.