عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}
  
              

          ░26▒ (ص) بابٌ {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}[البقرة:276].
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَر فيه قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا}... الآية، وَ({يَمْحَقُ}) مِن مَحَق يمْحَق مَحْقًا مِن (بابِ فَعَلَ يَفْعَل) بفتح العين فيهما، و(المَحْق) النقصان وذهاب البركة، وقيل: هو أنْ يذهب كلُّه حَتَّى لا يرى منه أثر، ومنه: ({يَمْحَقُ اللهُ الْرِّبَا}) أي: يستأصله ويذهب ببركته ويُهلك المال الذي يدخل فيه، وفي تفسير الطَّبَريِّ عنِ ابنِ مسعودٍ: أنَّ النَّبِيَّ صلعم قال: «الربا وإنْ كثر فإلى قُلٍّ» وقال المُهَلَّب: سئل بعض العلماء، وقيل: نحن نرى صاحب الربا يربو ماله، وصاحب الصدقة ربَّما كان مقلًّا، فقال: {يُرْبِي الصَّدَقَاتِ} يعني: أنَّ صاحبها يجدها مثل أحد يوم القيامة، وصاحب الربا يجد عمله ممحوقًا إنْ تصدَّق به أو وصل رحمه؛ لأنَّه لم يكتب له بذلك حسنة، وكان عليه إثم الربا، [وقال ابن بَطَّالٍ: وقالت طائفة: إنَّ الربا] يُمحَق في الدنيا والآخرة على عموم اللفظ، وقال عبد الرزَّاق عن معمرٍ: أنَّهُ قال: سمعنا أنَّهُ لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنةً حَتَّى يُمحَق.
          قوله: ({وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}) أي: يزيدها، مِنَ الإرباء، قال الطَّبَريُّ: الإرباء: الزيادة على الشيء، يقال مِنه: أربى فلان على فلان؛ إذا زاد عليه، وقرئ: {ويُربِّي} بِضَمِّ الياء وفتح الراء وكسر الباء المشدَّدة، من التربية؛ كما في «الصحيح»: «مَن تصدَّق بعدل تمرة...» الحديث، وفيه: «ثُمَّ يربِّيها لصاحبه كما يربِّي أحدكم فَلُوَّه حَتَّى يكون مثل الجبل» وفي رواية ابن جرير: «وإنَّ الرجل ليتصدَّق باللُّقمة فتربو في يد الله _أو قال: في كفِّ الله_ حَتَّى يكون مثل أُحُد، فتصدَّقوا» وهكذا رواه أحمد أيضًا، [وهذا طريقٌ غريبٌ صحيح الإسناد، ولكنَّ لفظه عجيب، والمحفوظ ما تَقَدَّمَ].
          قوله: ({وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}) أي: لا يحبُّ كَفورَ القلب، أثيمَ القول والفعل، ومناسبةُ خَتْمِ هذه الآية بهذه الصفة: هي أنَّ المُرابيَ لا يرضى بما أعطاه الله له مِنَ الحلال، ولا يكتفي بما شرع له مِنَ التكسُّب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل / بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جَحودٌ لِما عليه مِنَ النعمة، ظَلومٌ آثِمٌ بأكل أموال الناس بالباطل، وقال الطَّبَريُّ: والله لا يحبُّ كلَّ مُصِرٍّ على كفرٍ، مقيمٍ عليه، مستحلٍّ أكلَ الربا.