عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب آكل الربا وشاهده وكاتبه
  
              

          ░24▒ (ص) بابُ آكِلِ الرِّبَا وَشَاهِدِهِ وَكَاتِبِهِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان حكم آكل الربا، و(الرِّبَا) اسم مقصور، وحُكِيَ مدُّه، وهو شاذٌّ، والأصل فيه الزيادة، مِن رَبَا المالُ يَربُو رَبْوًا؛ إذا زاد، فيكتب بالألف، ولكن وقع في خط المصحف / بالواو، وقالَ الزمخشريُّ: كُتبَ {الرِّبَا}[البقرة:275] بالواو على لغة مَن يُفخِّم، وعن الثعلبيِّ: كتبوه في المصحف بالواو، وأجاز الكوفيُّون كَتْبَه بالياء بسبب كسرة أوَّله، وغلَّطهم البصْريُّون في ذلك، وقال الفَرَّاء: إِنَّما كتبوه بالواو لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحِيرة، ولغتهم الرَّبْو بمضموم، مصوَّرة الخطِّ على لغتِهم، وزعم أبو الحسن طاهر بن غلبون: أنَّ أبا السَّمَّال قرأ: {الرَّبُو} بفتح الراء وضمِّ الباء، ويجعل معها واوًا، وقال ابن قُتيبة: قراءةُ أبي السَّمَّال وأبي السوَّار بكسر الراء وضمِّ الباء وواو ساكنة، وقراءة الحسن بالمدِّ والهمز، وقراءة حمزةَ والكسائيِّ بالإمالة، وقراءة الباقين بالتفخيم، وفي «شرح المهذَّب»: أنت بالخيار في كَتْبِه بالألف والواو والياء، و«الرمَاء» بالمدِّ والميم، و«الرُّبْيَة» بالضمِّ والتخفيفِ لغةٌ فيه.
          وهو في الشرع: الزيادة على أصل المال من غير عقد تبايع، [قاله ابن الأثير، وقال أصحابنا: الربا فضلُ مالٍ بلا عِوَضٍ في معاوضة مالٍ بمال؛ كما] إذا باع عشرة دراهم بأحدَ عشرَ درهمًا، فإنَّ الدرهم فيه فضل، وليس في مقابلته شيء، وهو عين الربا.
          قوله: (وَشَاهِدِهِ) أي: وفي حكم شاهده، أو: وفي إثم شاهده، وإثم كاتبه، وفي رواية الإسماعيليِّ: (وشاهدَيه) بالتثنية.
          (ص) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّما الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275].
          (ش) (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ عطف على قوله: (آكِلِ الرِّبَا) أي: وفي بيانِ قوله تعالى، وقال الإمام أبو بكر مُحَمَّد بن إبراهيم بن المنذِر بإسناده إلى سعيد بن جُبَير في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} قال: يُبعث يوم القيامة مجنونٌ يخنق، وبإسناده إلى ابن حيَّان: آكِل الربا يُعرَف يوم القيامة كما يُعرَف المجنونُ في الدنيا، وفي «كتاب أبي الفضل الجُوزِيِّ» مِن حديث أبان عن أنس: قال رسول الله صلعم : «يأتي آكلُ الربا يوم القيامة مُخبلًا يجرُّ شِقَّه»، ثُمَّ قرأ: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، وعن السُّدِّيِّ: «المسُّ» الجنون، وعن أبي عُبَيدة: «المسُّ» مِن الشيطان والجنِّ، وهو اللَّمَمُ، وفي «كتاب الربا» لمُحَمَّد بن أسلم السَّمَرْقَنْديِّ: حَدَّثَنَا عليُّ بن إسحاق عن يوسفَ بنِ عطيَّة، عن ابن سمعان، عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}[البقرة:278] قال: فمن كان مِن أهل الربا فقد حارب اللهَ، ومَن حارب اللهَ فهو عدوٌّ لله ولرسوله، وحدثنا عليُّ بن إسحاق: أخبرنا يحيى بن المتوكِّل: حَدَّثَنَا أبو عَبَّاد، عن أبيه، عن جدِّه، عن أبي هُرَيْرَة يرفعه: «الربا اثنان وسبعون حُوبًا؛ أدناها بابًا بمنزلة الناكحِ أمَّه»، وقال الماوَرْدِيُّ: أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنَّهُ من الكبائر، وقيل: إنَّهُ كان محرَّمًا في جميع الشرائع.
          قوله: ({لَا يَقُومُونَ}) أي: من قبورهم يوم القيامة، وقال الطَّبَريُّ: إِنَّما خصَّ الآكل بالذكر لأنَّ الذين نزلت فيهم الآياتُ المذكورة كانت طعمتُهم مِنَ الربا، وإلَّا فالوعيد حاصل لكلِّ مَن عمل به، سواء أكَلَ منه أو لا.
          قوله: ({ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا}) أي: الذي جرى لهم بسبب أنَّهم قالوا: إِنَّما البيع مثلُ الربا؛ أي: نظيره، وليس هذا قياسٌ منهمُ الرِّبا على البيع؛ لأنَّ المشركين لا يعترفون بمشروعيَّة أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس [لقالوا: إِنَّما الربا مثلُ البيع]، وإِنَّما قالوا: إِنَّما البيع مثل الربا، فلِمَ حُرِّمَ هذا وأُبيحَ هذا؟ وهذا اعتراضٌ منهم على الشرع، فردَّ الله عليهم بقوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فليسا نظيرين.
          قوله: ({فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ}) أي: مَن بلغه نهيُ الله عنِ الربا ({فَانتَهَىَ}) حالَ وصول الشرع إليه ({فَلَهُ مَا سَلَفَ}) مِنَ المعاملة؛ كقوله: {عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَف}[المائدة:95] ولم يأمر الشارع بردِّ الزيادات المأخوذة في الجاهليَّة، بل عفا عمَّا سلف؛ كما قال تعالى: ({فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله}) وقال سعيد بن جُبَير والسُّدِّيُّ: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} فله ما أكل مِنَ الربا قبل التحريم.
          قوله: ({وَمَنْ عَادَ}) أي: إلى الرِّبا، ففعلَه بعد بلوغِ نهيِ الله له عنه؛ فقدِ استوجب العقوبةَ وقامت عليه الحجَّة، ولهذا قال: {فَأُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:275].
          واخْتُلِفَ في عقد الرِّبا؛ هل هو مفسوخٌ لا يجوز بحالٍ، أو بيعٌ فاسدٌ إذا أُزِيلَ فساده صحَّ بيعه؟ فجمهور العلماء على أنَّهُ بيعٌ مفسوخٌ، وقال أبو حنيفة: هو بيعٌ فاسدٌ إذا أُزيلَ عنه ما يُفسِدُه انقلب صحيحًا.