عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع
  
              

          ░95▒ (ص) بابُ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْبُيُوعِ وَالإِجَارَةِ وَالْمِكْيَالِ وَالْوَزْنِ وَسُنَّتهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمِ الْمَشْهُورَةِ.
          (ش) أي: هذا بابٌ يذكر فيه مَن أجرى أمر أهالي الأمصار على ما يتعارفون بينهم؛ أي: على عرفهم وعوائدهم في أبواب البيوع والإجارات والمكيال، وفي بعض النُّسَخ: <والكيل والوزن مثلًا > كلُّ شيء لم ينصَّ عليه الشارع أنَّهُ كيليٌّ أو وزنيٌّ [يُعمَل في ذلك على ما يتعارفه أهلُ تلك البلدة؛ مثلًا الرُّزُّ، فَإِنَّهُ لم يأتِ فيه نصٌّ مِنَ الشارع أنَّهُ كيليٌّ أو وزنيٌّ]، فيُعتَبَر في عادة أهل كلِّ بلدة على ما بينهم مِنَ العُرف فيه، فَإِنَّهُ في البلاد المصريَّة يكُال، وفي البلاد الشاميَّة يوزن، ونحو ذلك من الأشياء؛ لأنَّ الرجوع إلى العرف مِن جملة القواعد الفقهيَّة.
          قوله: (وَسُنَّتهِمْ) عطف على (مَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي: على طريقتهم الثابتة على حسب مقاصدهم وعاداتهم المشهورة.
          وحاصل الكلام: أنَّ البُخَاريَّ قصد بهذه الترجمة إثباتَ الاعتماد على العُرف والعادة.
          (ص) وَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْغَزَّالِينَ: سُنَّتُكُمْ بَيْنَكُمْ رِبْحًا.
          (ش) (شُرَيْحٌ) بِضَمِّ الشين المُعْجَمة، ابن الحارث الكنديُّ القاضي مِن عهد عُمَر بن الخَطَّاب ☺ .
          قوله: (لِلْغَزَّالِينَ) هو جمع (غَزَّال) وهو بيَّاع الغزل.
          قوله: (سُنَّتُكُمْ) يجوز فيه الرفع والنصب، أَمَّا الرفع فعلى أنَّهُ مبتدأٌ وخبره قوله: (بَيْنَكُمْ) ؛ يعني: عادتكم وطريقتكم بينكم معتبرة، وأَمَّا النصب فعلى تقدير الزموا سنَّتكم، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور، مِن طريق ابن سِيرِين: أنَّ ناسًا مِنَ الغزَّالين اختصموا إلى شريحٍ في شيءٍ كان بينهم، فقالوا: إنَّ سنَّتنا بيننا كذا وكذا، فقال: سنَّتكم بينكم.
          قوله: (رِبْحًا) قيل: لا معنى له ههنا، وإِنَّما محلُّه في آخر الأثر الذي بعده.
          قُلْت: هكذا وقع في بعض النُّسَخ، ولكنَّه غير صحيح؛ لأنَّ هذه اللفظة هنا لا فائدة لها ولا معنى يطابق الأثر.
          (ص) وَقَالَ عَبْدُ الوَهَّاب عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّد: لَا بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ، وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا.
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّ عرف البلد أنَّ المُشتَرى بعشرة دراهم يباع بأحد عشر، فباعه المشتري على ذلك العرف لم يكن به بأسٌ.
          و(عَبْدُ الوَهَّاب) ابن عبد المجيد الثَّقَفيُّ، و(أَيُّوبُ) هو السَّخْتيَانيُّ، و(مُحَمَّدٌ) هو ابن سِيرِين، وهذا التعليق وصله ابن أبي شَيْبَةَ عن عبد الوَهَّاب هذا.
          قوله: (لَا بَأْسَ الْعَشَرَةُ بِأَحَدَ عَشَرَ) أي: لا بأس أن يبيع ما اشتراه بمئة دينارٍ؛ مثلًا: كلُّ عشرةٍ منه بأحد عشر، فيكون رأسُ المال عشرةً، والربحُ دينارًا، وقال الكَرْمَانِيُّ: «العشرة» بالرفع والنصب، إذا كان عُرف البلد أنَّ المُشترى بعشرة دراهم يباع بأحد عشر درهمًا، فبيعه على ذلك العُرف؛ فلا بأس به، ويأخذ لأجل النفقة ربحًا.
          قُلْت: أَمَّا وجه الرفع فعلى أنَّهُ مبتدأ، وخبره هو قوله: (بِأَحَدَ عَشَرَ) والتقدير: العشرة تُباع بأحد عشر؛ يعني: المُشترى بعشرة يباع بأحد عشر، وأَمَّا النصبُ فعلى تقدير: بِع العشرة؛ يعني: المشترى بعشرة بأحدَ عشر، وقال ابن بَطَّالٍ: اختلف العلماء في ذلك فأجازه قومٌ، وكرهه آخرون، وممَّن كرِهَه ابن عَبَّاس وابن عمر ومسروق والحسن، وبه قال أحمد وإسحاق، قال أحمد: البيع مردودٌ، وأجازه ابن المُسَيَِّبِ والنخَعيُّ، وهو قول مالكٍ والثَّوْريِّ والأوزاعيِّ، وحجَّة مَن كرِهَه لأنَّه بيع مجهول، وحجَّة مَن أجازه بأنَّ الثمن معلوم والربح معلوم، / وأصل هذا الباب بيعُ الصَّبرة كلُّ قفيز بدرهم، ولا يُعلَم مقدارها مِنَ الطعام، فأجازه قومٌ وأباه آخرون، ومنهم مَن قال: لا يلزم إلَّا القفيز الواحد، وعن مالكٍ: لا يأخذ في المرابحة أجر السمسار، ولا أجر الشدِّ والطيِّ ولا النفقة على الرقيق، ولا كراء البيت، وإِنَّما يحسب هذا في أصل المال ولا يحسب له ربح، وأَمَّا كراء البزِّ فيحسب له الربح؛ لأنَّه لا بدَّ منه، فإن أربحه المشتري على ما لا تأثير له؛ جاز إذا رضي بذلك، وقال أبو حنيفة: يحسب في المرابحة أُجرة القصَّارة والسمسرة ونفقة الرقيق وكسوتهم، ويقول: قام علَيَّ بكذا، ولا يقول: اشتريته بكذا.
          قوله: (وَيَأْخُذُ لِلنَّفَقَةِ) أي: لأجل النفقة ربحًا، هذا محلُّ ذكر الربح، كما ذكرناه عن قريب، وقد ذكرنا الآن خلاف مالكٍ فيه.
          (ص) وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِهِنْدٍ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
          (ش) مطابقته للترجمة مِن حيث إنَّهُ صلعم قال لهند: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) وهو عادة الناس، وهذا يدلُّ على أنَّ العُرف عملٌ جارٍ، وقال ابن بَطَّالٍ: العرف عند الفقهاء أمرٌ معمولٌ به، وهو كالشرط اللازم في الشرع، ومِمَّا يدلُّ على ما قاله قضيَّة هند بنت عُتبة زوج أبي سفيان والد معاوية، وهذا التعليق يأتي الآن موصولًا، وذكر ابن بَطَّالٍ بعضَ مسائلَ مِنَ الفقه التي يعمل فيها بالعُرف؛ منها: لو وَكَّل رجلٌ رجلًا على بَيْعِ سلعةٍ، فباعها بغير النقد الذي هو عرف الناس؛ لم يجز ذلك، ولزمه النقد الجاري، وكذا: لو باع طعامًا موزونًا أو مكيلًا بغير الوزن أو الكيل المعهود؛ لم يجز، ولزم الكيل المعهود المتعارف مِن ذلك.
          (ص) وقال الله تعالى: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:6].
          (ش) هذا مِنَ الترجمة، وكان ينبغي أن يُذكَر في صَدْرِ الباب، أو يُكتَفَى بذكره في حديث عائشة الآتي في هذا الباب، والمراد منه في الترجمة حوالة والي اليتيم في أكله مِن ماله على العُرف.
          (ص) وَاكْتَرَى الْحَسَنُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مِرْدَاسٍ حِمَارًا، فَقَالَ: بِكَمْ؟ قَالَ: بِدَانَقَيْنِ، فَرَكِبَهُ، ثُمَّ جَاءَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: الْحِمَارَ الْحِمَارَ، فَرَكِبَهُ، وَلَمْ يُشَارِطْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ.
          (ش) مطابقتُه للترجمة مِن حيث إنَّ الحسنَ لم يُشارط المُكاري في المرة الثانية اعتمادًا على الأُجرة المتقدِّمة، وزاده بعد ذلك على الأجرة المتقدِّمة على سبيل الفضل، وقد جرى العرف أنَّ شخصًا إذا اكترى حمارًا أو فرسًا أو جملًا للركوب إلى موضعٍ معيَّنٍ بأجرةٍ معيَّنة، ثُمَّ في ثاني مَرَّة إذا أراد ركوبَ حمار _هذا على العادة_ لا يشارطه الأجرة؛ لاستغنائه عن ذلك، باعتبار العرف المعهود بينهما.
          و(الْحَسَنُ) هو البَصْريُّ، و(عَبْدُ اللهِ بْنُ مِرْدَاسٍ) بكسر الميم، هو صاحب الحمار الذي اكتراه منهُ الحسنُ.
          ووصل هذا التعليق سعيد بن منصور، عن هُشيم، عن يونس، فذكر مثله.
          قوله: (بِدَانَقَيْنِ) تثنية (دانَِق) بفتح النون وكسرها، وهو سُدس الدرهم.
          قوله: (فَرَكِبَهُ) فيه حذفٌ؛ أي: فرضي الحسن بدانقين فأخذه فركبه.
          قوله: (ثُمَّ جَاءَ) أي: الحسن مَرَّةً أخرى إلى عبد الله بن مرداس، فقال: الحمار الحمار، بالتكرار ويجوز فيهما النصب والرفع؛ أَمَّا النصب فعلى تقدير: هات الحمارَ، فينصب على المفعوليَّة، وأَمَّا الرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوفٌ؛ أي: الحمار مطلوبٌ، أو أطلبه، أو نحو ذلك.
          قوله: (وَلَمْ يُشَارِطْهُ) يعني: الأجرة اعتمادًا على الأجرة المتقدِّمة للعرف بذلك.
          قوله: (فَبَعَثَ إِلَيْهِ) أي: بعث الحسن إلى عبد الله المذكور (بِنِصْفِ دِرْهَمٍ) فزاد على الدانقين دانقًا آخر على سبيل الفضل والكرم.