عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر؟وهل يعينه أو ينصحه؟
  
              

          ░68▒ (ص) بابٌ هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيْرِ أَجْرٍ؟ وَهَلْ يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُهُ؟
          (ش) أي: هذا بابٌ يُذكَرُ فيه: (هَلْ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟) وهو الذي يأتي مِنَ البادية ومعه شيءٌ يريد بيعه، وقد مرَّ تفسيره غير مَرَّةٍ، وأراد البُخَاريُّ بهذه الترجمة الإشارة إلى أنَّ النهي الوارد عَن بيع الحاضر للبادي إِنَّما هو إذا كان بأجرٍ؛ لأنَّ الذي يبيعُ بأجرةٍ لا يكون غرضه نصح البائع، وإِنَّما غرضه تحصيل الأجرة، وأَمَّا إذا كان بغير أجرٍ يكون ذلك مِن باب النصيحة والإعانة، فيقتضي ذلك جواز بيع الحاضر للبادي مِن غير كراهةٍ، فعُلِمَ مِن ذلك أنَّ النهي الوارد فيه محمولٌ على معنًى خاصٍّ؛ وهو البيع بأجرٍ، وقال ابن بَطَّالٍ: أراد البُخَاريُّ جوازَ ذلك بغير أجرٍ، ومنعه إذا كان بأجرٍ، كما قال ابن عَبَّاسٍ ☻: (لا يكون له سمسارًا)، فكأن أجاز ذلك لغير السمسار إذا كان مِن طريق النُّصح، وجواب الاستفهامَين يُعلَم مِنَ المذكور في الباب، واكتَفى به على جاري عادته بذلك في بعض التراجم.
          (ص) وَقَالَ صلعم : «إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْ لَهُ».
          (ش) ذكر هذا التعليق تأييدًا لجوازِ بيع الحاضرِ للبادي إذا كان بغير أجرٍ؛ لأنَّه يكون مِن باب النصيحة التي أمر بها رسول الله صلعم .
          ووصل هذا التعليق أحمد مِن حديث عطاء بن السائب عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه: حدَّثني أبي قال: قال رسول الله صلعم : «دَعوا الناسَ يرزقُ اللهُ بعضهم مِن بعض، فإذا استنصح الرجلُ الرجلَ فلينصح له» انتهى، والنصحُ إخلاص العمل مِن شوائب الفساد، ومعناه: حيازة الحظِّ للمنصوح له، وروى أبو داود مِن طريق سالمٍ المَكِّيِّ أنَّ أعرابيًّا حدَّثه: أنَّهُ قدم بِحَلُوبَةٍ له على طلحة بن عُبيد الله، فقال له: إنَّ النَّبِيَّ صلعم نهى أن يبيعَ حاضرٌ لبادٍ، ولكن اذهب إلى السوق وانظر مَن يبايعك، فشاورني حَتَّى آمرك وأنهاك.
          (ص) وَرَخَّصَ فِيهِ عَطاءٌ.
          (ش) أي: ورخَّص عطاء بن أبي رَبَاحٍ في بيع الحاضر للبادي، ووصله عبد الرزَّاق عَن الثَّوْريِّ عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم عن عطاء بن أبي رَبَاحٍ قال: سألته عن أعرابيٍّ أبيع له؟ فرخَّص لي.
          فَإِنْ قُلْتَ: يعارض هذا ما رواه سعيد بن منصورٍ مِن طريق ابن أبي نَجِيحٍ عَن مجاهدٍ، قال: إِنَّما نهى رسول الله صلعم أن يبيعَ حاضر لبادٍ؛ لأنَّه أراد أن يصيب المسلمون غرَّتهم، فأَمَّا اليومَ فلا بأس، فقال عطاء: لا يصلح اليوم.
          قُلْت: أجاب بعضهم بأنَّ الجمع بين الروايتين أن يُحمَلَ قول عطاء هذا على كراهة التنزيه؟
          قُلْت: الأوجه أن يُحمَل ترخيصه فيما إذا كان بلا أجرٍ، ومنعه فيما إذا كان بأجرٍ، وقال بعضهم: أخذ بقول مجاهدٍ أبو حنيفة وتمسَكوا بعموم قوله صلعم : «الدين النصيحة»، وزعموا أنَّهُ ناسخٌ لحديث النهي، وحمل الجمهور حديث: «الدين النصيحة»، على عمومه إلَّا في بيع الحاضر للبادي فهو خاصٌّ، فيقضي على العامِّ، [والنَّسخُ لا يثبت بالاحتمال.
          قلت: كيف يقول هذا حديث «الدين النصيحة» على عمومه، ثمَّ يقول هو خاصٌّ فيقضي على العامِّ]
، وهذا كلامٌ فيه تناقضٌ، وقضاء الخاصِّ على العامِّ ليس بمطلقٍ على زعمكم أيضًا لاحتمال أن يكون الخاصُّ ظنيًّا والعامُّ قطعيًّا، أو يكون الخاصُّ منسوخًا، وأيضًا يحتمل أن يكون الخاصُّ مقارنًا أو متأخِّرًا أو متقدِّمًا، وقوله: (والنَّسَخ لا يثبت بالاحتمال) مسلَّمٌ، ولكن مَن قال: إنَّ قوله صلعم : «الدين النصيحة» ناسخٌ لحديث / النهي بالاحتمال، بل الأصل عندنا في مثل هذا بالتراجيح، منها أنَّ أحد الخبرين عمل به الأمَّة، فههنا كذلك، فإنَّ قوله: «الدين النصيحة» عمل به جميع الأمَّة، ولم يكن خلافٌ فيه لأحدٍ، بخلاف حديث النهي، فإنَّ الكلَّ لم يعمل به، فهذا الوجه مِن جملة ما يدل على النَّسخ، ومنها أن يكون أحد الخبرين أشهر مِنَ الآخر، وهنا كذلك بلا خلافٍ.