عمدة القاري في شرح صحيح البخاري

باب تفسير العرايا
  
              

          ░84▒ (ص) بابُ تَفْسِيرِ الْعَرَايَا.
          (ش) أي: هذا بابٌ في بيان تفسير العرايا، / وهو جمع عَرِيَّة، وقد استقصينا الكلام في هذا الباب في (باب بيع الزبيب بالزبيب).
          (ص) وَقَالَ مَالِكٌ: الْعَرِيَّةُ، أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ، ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ، فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ.
          (ش) (مَالِكٌ) هو ابن أنسٍ صاحب المذهب.
          قوله: (أَنْ يُعْرِىَ) بِضَمِّ الياء مِنَ (الإعراء) وهو الإعطاء، يقال: عروتُ الرجل؛ إذا أتيته تسأل معروفه، فأعراه أي: أعطاه، فالرجلُ الأَوَّل مرفوعٌ لأنَّه فاعلٌ، والرجل الثاني منصوبٌ لأنَّه مفعول.
          وقوله: (النَّخْلَةَ) منصوبٌ أيضًا على المفعوليَّة.
          قوله: (بِتَمْرٍ) بالتاء المُثَنَّاة مِن فوق.
          وهذا التعليق وصله ابن عبد البرِّ مِن طريق ابن وَهْب، عن مالكٍ، وروى الطَّحَاويُّ مِن طريق ابن نافعٍ، عن مالكٍ أنَّ العَرِيَّة النخلة للرجل في حائط غيره، وكانت العادة أنَّهم يَخرجون بأهلهم في وقت الثمار إلى البساتين، فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخرِ عليه، فيقول: أنا أُعطيك بخرْص نخلتك تمرًا، فَرُخِّصَ له في ذلك.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: الْعَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْكَيْلِ مِنَ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ، لَا يَكُونُ بِالْجِزَافِ، ومِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: بِالأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ.
          (ش) (ابْنُ إِدْريسَ) هذا هو عبد الله الأَوْديُّ الكوفيُّ كذا قاله ابن التين، وعليه الأكثرون، وتردَّد ابن بَطَّالٍ فيه، وجزم المِزِّيُّ في «التهذيب» بأنَّه الشَّافِعِيُّ، حيث قال: هذا الكلام كلُّه قول الإمام مُحَمَّد بن إدريس الشَّافِعِيُّ ☺ ، وأنَّ له هذا الموضع في صحيح مُحَمَّد بن إسماعيل البُخَاريِّ، وموضعٌ آخر في (كتاب الزكاة)، وكلام ابن بَطَّالٍ يدلُّ على أنَّ قوله: (ومِمَّا يقوِّيه...) إلى آخره مِن كلام البُخَاريِّ، لا مِن كلام ابن إدريس، وقال ابن بَطَّالٍ: هذا إجماعٌ فلا يحتاج إلى تقوية، ولم يأت ذكر الأوساق المُوسَّقة إلَّا في حديث مالكٍ، عن داود بن الحصين، وفي حديث جابرٍ مِن رواية ابن إسحاق، لا في رواية ابن أبي حَثْمَة، وإِنَّما يُرْوَى عن سَهْل مِن قوله مِن رواية الليث عن جعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج قال: سمعتُ سَهْل بن أبي حَثْمَة قال: لا يباع التمر في رؤوس النخل بالأوساق المُوسَّقة، إلَّا أوسق ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة، فيأكلها الناس، وهي المزابنة.
          قوله: (لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْكَيْلِ) أي: لا بدَّ أن يكون معلوم القدر؛ إذ لا بدَّ مِنَ العلم بالمساواة.
          قوله: (يَدًا بِيَدٍ) أي: لا بدَّ مِنَ التقابض في المجلس.
          قوله: (بِالْجُزَافِ) بِضَمِّ الجيم وفتحها وكسرها، وهو مُعَرَّب كُزَاف.
          قوله: (ومِمَّا يُقَوِّيهِ) أي: ومِمَّا يقوِّي كلام ابن إدريس بألَّا يكون جزافًا قول سهل بن أبي حَثْمَة؛ يعني: في كونه مكيلًا معلوم المقدار.
          قوله: (بِالْأَوْسُقِ) جمع (وسق) جمع قلة.
          وقوله: (الْمُوَسَّقَةُ) تأكيدٌ كقوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ}[آل عِمْرَان:14] وكقول الناس: آلاف مؤلَّفة.
          (ص) وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: كَانَتِ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ.
          (ش) أي: قال مُحَمَّد بن إسحاق بن يسار صاحب «المغازي» وحديثه عن نافعٍ وصله التِّرْمِذيُّ قال: حَدَّثَنَا هَنَّاد: حَدَّثَنَا عَبْدة عن مُحَمَّد بن إسحاق، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت: أنّ النَّبِيَّ صلعم نهى عن المحاقلة والمزابنة، إلَّا أنَّهُ قد أَذِن لأهل العَرَايَا أن يبيعوها بمثل خرٍْصها انتهى.
          وأَمَّا تفسيره فوصله أبو داود عنه قال: حَدَّثَنَا هَنَّاد: حَدَّثَنَا عَبْدة عن ابن إسحاق قال: العرايَا أن يَهَبَ الرجل للرجل النخلات، فيشقُّ عليه أن يَقُوم عليها، فيَبيعُها بمثل خرْصها.
          (ص) وَقَالَ يَزِيدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ: الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا، رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاؤوا مِنَ التَّمْرِ.
          (ش) (يَزِيدُ) : مِنَ الزيادة، هو ابن هارون الواسطيُّ أحد الأعلام، و(سُفْيَان بْن حُسَيْن) الواسطيُّ، مِن أتباع التَّابِعينَ.
          قوله: (أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا) أي: جذاذها، والجمهور على أنَّهُ بعكس هذا، قال: كان سببُ الرُّخصة أنَّ المساكين الذين ما كان لهم نُخَيلات ولا نقود يشترون بها الرُّطَب، وقد فضل مِن قوتهم التمر، كانوا وعيالهم يشتهون الرُّطَب، فرُخِّصَ لهم في اشتراء الرُّطَب بالتمر.
          وهذا التعليق وصله الإمام أحمد / في حديث سفيان بن حُسَين، عن الزُّهْريِّ، عن سالمٍ، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، مرفوعًا في العرايا، قال سفيان بن حُسَين: فذكره، وحُكِيَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قيَّد العَريَّة بالمساكين محتجًّا بحديث سفيان بن حُسَين هذا، وهو اختيار المزنيِّ، وأنكر الشيخ أبو حامد نقله عن الشَّافِعِيِّ، قيل: لعلَّ مستند الشَّافِعِيِّ ما ذكره في اختلاف الحديث عن محمود بن لَبِيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عَراياكم هذه؟ قال: فلانُ وأصحابُه شكوا إلى رسول الله صلعم أنَّ الرُّطَب يحضر وليس عندهم ذَهبٌ، ولا فضَّة يشترون بها منه، وعندهم فَضلُ تمرٍ مِن قوت سنتهم، فرَخَّص لهم أن يشتروا العرايا بخرْصها مِنَ التمر يأكلونها رُطَبًا.