الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب مرض النبي ووفاته

          ░83▒ (بَابُ مَرَضِ النَّبِيِّ صلعم): أي: بيانُهُ (وَوَفَاتِهِ): أي: وموتِهِ في ذلك المرض؛ لانتقالِهِ إلى جناتِ النَّعيمِ دار الجزاءِ والتَّكريمِ، وإن كان جسدُهُ الشَّريفُ يبقى في مدفنِهِ المنيفِ إلى قيام السَّاعةِ لا كما قيلَ: إنَّه يُرفع بعد أربعينَ يوماً، والحديثُ فيه غير ثابتٍ.
          قال في ((الفتح)): يومُ ابتداءِ مرضِهِ في بيتِ ميمونَةَ كما سيأتي، ووقَعَ في ((السيرة)) لأبي معشر أنَّهُ في بيتِ زينب بنت جحشٍ، قال: وفي ((السيرة)) لسليمان التَّيمي: في بيت رَيحانةَ، قال: والأوَّلُ المعتمدُ، قال: وذكرَ الخطَّابيُّ أنَّه ابتدأَ به يوم الإثنينِ، وقيل: يوم السَّبتِ، وقال الحاكِمُ أبو أحمد: يوم الأربعاءِ، قال: واختلفَ في مدَّةِ مرضِهِ، فالأكثرُ على أنَّها ثلاثة عشرَ يوماً، وقيل: بزيادةِ يومٍ، وقيل: بنقصِهِ، وقيل: عشرةَ أيامٍ، وبه جزم التيميُّ في ((مغازيه)) وكانَتْ وفاتُهُ يوم الإثنينِ بلا خلافٍ من ربيع الأوَّل لهلالِهِ، وقيل: في ثانيه، ورجَّحَهُ السُّهيليُّ، قال: وعلى القولينِ ينزلُ ما نقلَهُ الرَّافعيُّ أنَّه عاشَ بعد حجَّتِهِ ثمانين يوماً، وقيل: إحدى وثمانين.
          قال: وأمَّا على ما جَزمَ به في ((الروضة)): فيكونُ عاشَ بعد حجَّتهِ تسعينَ يوماً، أو أحد وتسعين، وأطالَ الكلام في ذلك كالعَينيِّ، فليُراجَع.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ): بالجرِّ ويجوز رفعهُ؛ أي: في سورةِ الزمر مخاطِباً نبيَّهُ ◙ بقوله: ({إِنَّكَ}): أي: يا محمَّد ({مَيِّتٌ}): بتشديدِ الياء؛ أي: ستَموتُ ({وَإِنَّهُمْ}): أي: أمَّتك ({مَيِّتُونَ}): بالتشديدِ أيضاً؛ أي: سيَمُوتون، وأمَّا بالتخفيف فمن حلَّ فيه الموتُ على ما قال الخليلُ أنَّ أبا عَمرو بن العلاءِ قال:
تُسائِلُني تفسيرَ ميْتٍ ومَيِّتٍ                     فدونَكَ قد فسَّرْتُ إن كنتَ تعقِلُ
فمَنْ كان ذَا رُوحٍ فذلكَ ميِّتٌ                     وما الميْتُ إلَّا مَن إلى القَبرِ يُحمَلُ
          والصَّحيحُ أنَّهما بمعنَى من قامَ به الموتُ، ويطلَقُ مجازاً على من سيَموتُ لتحقُّقِهِ كما في الآيةِ، ولذا قالَ: ويوافِقُ الأوَّل وهو المشهورُ ما نقلَهُ البغويُّ عن الفرَّاءِ والكسائي من الفَرقِ بينهما؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ بصددِ الموتِ في عدادِ الموتَى، قال: وقرئَ: ▬مائت↨ و▬مائتون↨؛ لأنَّه سيمُوتُ؛ انتهى فتأمَّلهُ.
          وقوله: ({ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}): سقطَ لأبي ذَرٍّ، قال العينيُّ: وجهُ ذكرِ هذه الآيةِ أجزاء من التَّرجمةِ؛ لأجلِ صحَّةِ قوله: باب مرضِ النَّبيِّ صلعم ووفاتِهِ، حتى لا ينكر الموت على النَّبيِّ صلعم، وكيف ينكرُ وقد خاطبَ اللهُ نبيَّهُ صلعم بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فأخبرَ اللهُ تعالى بأنَّ الموت يعمُّهُم، وكان مشركُو قريشٍ يتربَّصُون برسُولِ الله صلعم موتَهُ، فأخبرَ تعالى أنَّه لا معنى للتربُّصِ، وأنزلَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}، وقال قتادَةُ: نُعِيَتْ / لرَسُول الله صلعم نفسُهُ الشَّريفةُ، ونُعِيَتْ لكم أنفسُكُم.
          وقال البيضَاويُّ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] أي: إنَّكَ وإيَّاهم، فغلَبَ ضميرُ المخاطَبِ على ضميرِ الغائبِ؛ أي: إنَّكَ عليهم بأنَّك كنت على الحقِّ في التَّوحيدِ، وكانوا على الباطلِ في الشِّركِ، وبأنَّكَ اجتهدْتَ في الإرشادِ والتَّبليغِ ولجُّوا في التَّكذيبِ، ويعتذِرُون في الأباطيلِ مثل: {أَطَعْنَا سَادَتَنَا} [الأحزاب:67] {وَجَدْنَا آَبَاءَنَا} [الزخرف:22] قال: وقيل: المرادُ به: الاختصَامُ العام يخاصِمُ الناسُ بعضَهم بعضاً فيما دار بينهم في الدُّنيا.
          وقال البَغويُّ، بسندهِ إلى الزُّبير بين العوَّامِ: قال: لمَّا نزلَتْ على رسُولِ الله صلعم: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزُّبيرُ: أي رسُولَ الله، أيكرَّرُ علينا ما كان بينَنَا في الدُّنيا مع خواصِّ الذُّنُوب؟
          قال: ((نعم، ليكرَّرَنَّ عليكُم حتَّى يُؤدَّى إلى كلِّ ذي حقٍّ حقُّهُ)) قال الزُّبيرُ: واللهِ إن الأمرَ لشديدٌ، قال ابنُ عمرَ: عِشنا بُرهةً من الدَّهر، وكنا نَرى أنَّ هذه الآية أُنزِلتْ فينا وفي أهل الكتابين: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ}، قلنا: كيف نختصِمُ ودينُنَا واحِدٌ وكتابُنَا واحدٌ، ونبيُّنَا واحدٌ حتى رأيتُ بعضنا يضرِبُ وجوه بعضٍ بالسَّيفِ، فعرَفتُ أنَّها فِيْنا نزلت، قال: وعن أبي سعِيدٍ الخدريِّ في هذه الآيةِ قال: كنَّا نقولُ: ربُّنا واحدٌ، ودينُنا واحدٌ، ونبيُّنَا واحدٌ، فما هذه الخصُومةُ، فلمَّا كان يوم صفِّين وشدَّ بعضُنا على بعضٍ بالسُّيوفِ قلنا: نعم، هو هذا.
          قال: وعن إبراهيمَ قال: لمَّا نزلت: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قالوا: كيف نختصِمُ ونحن إخوَانٌ؟ فلما قُتِلَ عثمانُ، قالوا: هذه خصومتُنَا، وذكر بسندِهِ إلى أبي هُريرةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((من كانَتْ لأخيْهِ عنده مظلمَةٌ من عِرْضٍ أو مالٍ فليتحلَّلَهُ اليومَ قبلَ أن يؤخَذَ منه يوم لا دينارَ ولا درهَم، فإن كان له عَملٌ صالِحٌ أُخذ منه بقدْرِ مظلمتِهِ، وإن لم يكُنْ له أُخذ من سيِّئاتِهِ فجُعِلت عليه)).
          وذكر بسندِهِ إلى أبي هُريرةَ: أنَّ رسُولَ الله صلعم قال: ((أتدرُونَ من المُفلِس؟)) قالوا: المفلسُ فينا من لا درهَمَ له ولا متاعَ، قال: ((إنَّ المفلِسَ من أمَّتِي [من] يأتِي يومَ القيامَةِ بصَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، وكان قد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا وسفَكَ دَمَ هذا، وضرَبَ هذا، فيَقضِي هذا من حسناتِهِ، وهذا من حسناتِهِ، فإن فنيَتْ حسناتُهُ قبل أن يقضِي ما عليه، أُخذَ من خطايَاهُم فطُرحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النَّار)) انتهى.