الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم}

          ░54▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:25-27]): قال في ((الفتح)): كذا لأبي ذَرٍّ، قال: وساق غيرُهُ إلى قولِهِ: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ}، ثمَّ قال: إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: ووقَعَ في روايةِ النَّسفيِّ: <باب غزوة حنين، وقولِ الله ╡: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} إلى: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}>.
          قال في ((الفتح)): حُنين: بحاء بمهملة ونونينِ مصغَّر، وادٍ إلى جنبِ ذي المجازِ، قريبٌ من الطَّائفِ بينه وبين مكَّةَ بضعة عشرَ ميلاً من جهةِ عرفات، قال أبو عُبيدٍ البكريِّ: سُمِّي باسم حُنين بن قابثة بن مهلائيل، انتهى.
          وقال في ((المصباح اللغوي)): حُنين مصغَّر: وادٍ بين مكَّة والطَّائفِ مذكَّرٌ منصرفٌ، وقد يؤنَّثُ على معنى البقعةِ، قال: وقصَّةُ حُنين أنَّ النبيَّ صلعم فتح مكَّةَ في رمضان سنة ثمان، ثمَّ خرج منها وقد بقيَ من شهر رمضانَ أيامٌ لقتالِ هوازن وثقيفٍ، فسارَ إلى حُنين، فلما التقَى الجمعان انكشَفَ المسلمون، ثمَّ أمدَّهُم اللهُ تعالى بنصرِهِ، فعطفوا وانهزَمَ المشركون إلى أوطاس وغَنِمَ المسلمون أموالَهُم وأهليهم، ثمَّ منهم من سارَ على نخلةِ اليمامَةِ، ومنهم من سلكَ الثَّنايا، وبقيَتْ خيلُ رسولِ اللهِ صلعم عليها يوم وليلة، ثمَّ سار إلى أوطاس فاقتتلوا وانهزمَ المشركُوَن إلى المطاسِ، وغَنِمَ المسلمون منها أيضاً أموالهم وعيالهم، ثمَّ سارَ إلى الطائفِ فقاتلهم بقيَّةَ شوالٍ، فلمَّا أهلَّ ذو القعدة رحلَ عنها راجعاً فنزَلَ الجعرَّانة وقسَمَ بها غنائِمَ أوطاسٍ وحُنين، وقيل: كانت ستَّة آلاف سبيٍ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): قال أهلُ المغازي خرَجَ النَّبيُّ صلعم إلى حُنينٍ لستٍّ خلَتْ من شوَّال، وقيل: لليلتينِ بقيتا من رمضان، قال: وجمعَ بعضُهُم بأنَّهُ بدأَ بالخرُوجِ في أوائِلِ رمضانَ وسارَ سادس شوال، وكانَ وصولُهُ إليها في عاشرِهِ، وكان السَّببُ في ذلك أنَّ مالكَ بن عوفٍ النضري جمعَ القبائِلَ من هوازنَ، ووافقَهُ على ذلك الثَّقفيُّون، وقصدُوا محاربَةَ المسلمين، فبلغَ ذلك النَّبيَّ صلعم فخرَجَ إليهم.
          قال عمرُ بن شبَّة في كتاب ((مكة)) بسندِهِ إلى عروةَ: أنَّه كتبَ إلى الوليدِ / : أمَّا بعد، فإنَّك كتبْتَ إليَّ تسألُنِي عن قصَّةِ الفتحِ فذكرَ له وقتَهَا، فأقامَ عامَ إذٍ بمكَّةَ نصف شهرٍ، ولم يزدْ على مكَّةَ حتى أتاه أنَّ هوازنَ وثقيفاً قد نزلوا حُنيناً يريدون قتالَ رسُولِ اللهِ صلعم وكانوا قد جمعُوا إليه، ورئيسهم عوف بن مالكٍ، ولأبي داودَ بإسنادٍ حسنٍ من حديث سهلِ بن الحنظليَّةِ: أنَّهم سارُوا مع النَّبيِّ صلعم إلى حُنينٍ فأطنبوا السَّيرَ، فجاءَ رجلٌ _وهو عبدُ الله بن أبي حدْرَد كما يدلُّ له كلامُ ابن إسحَاقَ_ فقال: إنِّي انطلقْتُ من بينِ أيديكُم حتى طلعتُ جبَلَ كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن عن بكرةِ أبيهم بظعنِهِم ونعمهم وشائِهِم، قد أجمعُوا إلى حُنينٍ، فتبسَّمَ رسُولُ اللهِ صلعم وقال: ((تلك غنيمَةُ المسلمِينَ غداً إن شاءَ اللهُ)).
          وحيث ذكرَ البخاريُّ الآياتِ المتعلِّقةَ بحُنينٍ، فنتكلَّمُ عليها فنقولُ:
          {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} مفعولٌ به لمحذوفٍ نحو: اذكُر، لا ظَرفَ له؛ لأنَّ الأمرَ مستقبل، ويوم حنين ماضٍ فلا يكونُ ظرفاً له، وقيل: إنَّه ظرفٌ على تقديرِ مضافٍ نحو: واذكُرِ الوقعةَ يوم حُنينٍ، كذا قيل.
          وأقول: لا داعِي لذلك في هذهِ الآيةِ؛ لأنَّ العامِلَ فيه فيها {نَصَرَكُمُ} السَّابقُ، إذ هو معطوفٌ على قوله: {فِي مَوَاطِنَ} المعمولُ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ}، فتأمَّل.
          وقوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} {إِذْ} بدلٌ منه؛ أي: لأجلِ أن حصلَ لكم إعجَابٌ بكثرتِكُم ذكروا أنَّهُم كانوا اثنَي عشر ألفاً، وهوازِنُ وثقيفٌ أعداؤهم كانوا أربعَةَ آلافٍ، وقال بعضُ المسلمينَ: لن نُغلَبَ اليومَ من قلَّةٍ، فشُقُّ ذلك على النَّبيِّ صلعم، ولذا غلبَهُم العدوُّ أولاً مع كثرتِهِم بجنودٍ من الملائكَةِ فحصَلَ النَّصرُ حينئذٍ للمسلمِينَ، كما قالَ سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي: مع رحبِهَا وسعَتِها فالباء للمعيَّةِ، و((ما)) مصدريَّةٌ.
          {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ} أي: انهزمْتُم {مُدْبِرِينَ} أي: على أعقابِكُم {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} قال البيضاوِيُّ: أي: رحمتَهُ التي سكَنُوا بها وآمَنُوا {عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لعَلَّ المرادَ بإنزالِ السَّكينةِ على رسولِهِ الزِّيادة على ما عندَهُ، فإنَّه واثقٌ بنصرِ الله تعالى وساكنٌ قلبُهُ إليه، فتأمَّل.
          {وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} أي: بأعينِكُم؛ يعنِي: الملائكةَ، وكانوا خمسَةَ آلافٍ أو ثمانيةً أو ستَّة عشَرَ، قالَهُ البيضاويُّ.
          {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالقتلِ والأسرِ والسَّبيِ {وَذَلِكَ} أي: ما فعلَ بهم في الدُّنيا {جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} لكفرِهِم، وسيُجزَون في الآخرةِ العذابَ الدَّائم.
          {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أي: يريدُ ممن لم يُقتَلْ بإسلامِهِم {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: يسترُ كُفرَ الكافرِ بالإسلام، وينصُرُ المؤمنَ بعد الانهزامِ، فالكلامُ واردٌ مورِدَ الامتنانِ على الصَّحابَةِ بنصرِهِم في المواطنِ الكثيرَةِ، وهو في هذا الموطِنِ أجلُّ وأحرى بالامتنَانِ، ولولا فضلُ اللهِ ورحمتُهُ وغفرانُهُ لتمَّتْ الدَّيْرَة على المسلمينَ والنَّصرُ لأعدائِهِ الكافرينَ، وفي ذكْرِ الرَّسولِ والإيمان ما يشعِرُ بأنَّهم أهلٌ للانتصَارِ بعد الفَرَارِ والعفوِ عن الاغترَارِ، فلذا أقامَ الظَّاهرَ مقامَ المضمَرِ.
          قال / البيضاويُّ: روي أنَّ ناساً منهم جاؤوا إلى رسُولِ اللهِ صلعم، وأسلموا وقالوا: يا رسُولَ اللهِ، أنت خيرُ الناس وأبرُّهُم، وقد سبيَ أهلونا وأولادُنا وأُخِذَتْ أموالُنَا، وقد سبى يومئذٍ ستَّةَ آلاف نفسٍ وأَخَذَ من الإبلِ والغَنمِ ما لا يُحْصَى، فقال: ((اختاروا، إمَّا سبايَاكُم، وإما أموالُكُم)) فقالوا: ما كنا نعدِلُ بالأحساب شيئاً، فقام رسُولُ اللهِ صلعم وقال: ((إنَّ هؤلاءِ جاؤُونَا مسلمِينَ، وإنا خيَّرْناهم بين الذَّراري والأموالِ، فلم يعدلُوا بالأحسابِ شيئاً، فمن كان عندَهُ سَبيٌ وطابت نفسُهُ أن يردَّهُ فشأنهُ، ومن لا، فليُعطِنا وليكن قَرضاً علينا حتَّى نصيبَ شيئاً فنعطيَهُ مكانَهُ)) فقالوا: رضِينا وسلَّمْنا، فقال: ((إنِّي لا أدرِي، لعلَّ فيكُم من لا يَرضَى فمُرُوا عُرفَاءَكُم، فليَرفَعُوا إلينا)) فرفعُوا إليه قد رَضُوا.
          وقال غيرُهُ: سبَى النَّبيُّ صلعم منهم ستَّةَ آلاف رأسٍ، ومن الإبِلِ أربعةً وعشرين ألفَ بعيرٍ، ومن الغنَمِ أكثر من أربعينَ ألفاً، ومن الفضَّةِ أربعةُ آلافِ أوقيةٍ.
          تنبيه: إذا تأمَّلْتَ الآياتِ ظهرَ لك أنَّها صريحةٌ في صُدورِ الإعجَابِ منهم، وحينئذٍ فما المرادُ بما نقلَهُ القسطلَّانيُّ عن ((فتوح الغيب))، ولم يعترضْهُ حيثُ قال: هذا مثلَ قوله تعالى: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان:73]، فإنَّ قولَهُ: {لَمْ يَخِرُّوا} ليس نفياً للخَرُورِ، وإنَّما هو إثباتٌ له ونفيٌ للصمِّ والعَمَى، كذلك قولهم: لن نُغلَبَ اليومَ من قلَّةٍ، ليسَ نفياً للمغلوبيَّةِ، وإنَّما هو إثباتٌ لها، ونفيُ القلَّةِ؛ يعني: متى غُلبنا كانَ سببُه القلَّة، وهذا من حيثُ الظَّاهر ليسَ كلمَةَ إعجابٍ لكنَّها كنَايةٌ عن ذلك، فكأنَّهُ قال: ما أكثَرَ عددنا، انتهى.