الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: كنت إلى جنب زيد بن أرقم

          3949- وبالسند قال: (حَدَّثَنِي): بالإفرادِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ): أي: المُسنديُّ، قال: (حَدَّثَنَا وَهْبٌ): بسكونِ الهاءِ؛ أي: ابن جريرٍ البصريُّ، قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ): أي: ابن الحجَّاجِ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ): هو عَمرو بن عبدِ الله السَّبيعيُّ، قال: (كُنْتُ): بضمِّ التَّاء (إِلَى جَنْبِ): بفتحِ الجيم وسكونِ النُّون؛ أي: جانب (زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ): أي: ابن زيدٍ الأنصاريِّ (فَقِيلَ لَهُ): قال في ((الفتح)): القائلُ هو الرَّاوي أبو إسحاقَ السَّبيعيُّ كما سيأتي آخرَ المغازي.
          (كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صلعم مِنْ غَزْوَةٍ؟): بيانٌ لـ((كم)) (قَالَ): أي: زيدٌ المذكورُ (تِسْعَ عَشْرَةَ): أي: غزوةً بتقديم التَّاء على السِّين المهملة في ((تسع))، قال في ((الفتح)): مرادُه: الغزواتُ الَّتي خرجَ النَّبيُّ صلعم فيها بنفسه، سواءٌ قاتَلَ أو لم يُقاتل، لكن روى أبو يعلى بإسنادٍ صحيحٍ وأصلُهُ في مسلمٍ عن جابرٍ: أنَّ عددَ غزواته ◙ إحدى وعشرون غزوةً، ففاتَ زيداً غزوتان، قال: ولعلَّهُما الأبواء وبُوَاط خفِيَا عليه لصِغره، وأمَّا قول ابن التِّين: يُحمَل قول زيد بن أرقمَ على أنَّ العُشيرة أوَّل ما غزاهَا؛ أي: زيدُ بن أرقم، والتَّقديرُ: فقلتُ: ما أوَّلُ غزوةٍ غزاهَا؛ أي: وأنت معه؟ قال: العُشيرةُ، فهو محتمِلٌ أيضاً، ويكون خفِيَ عليه ثنتان ممَّا بعدَ ذلك، أو عدَّ الغزوتَينِ واحدةً، فقد قال موسى بن عقبةَ: قاتَلَ رسُولُ الله صلعم بنفسه في ثمانٍ، بدر ثمَّ أُحُد ثمَّ الأحزابُ ثمَّ المصطلقُ ثم خيبرُ ثم مكَّة ثم حُنين ثم الطَّائفُ، انتهى.
          وعبارةُ ((التَّنقيح)): وقال السَّفاقسيُّ: يُجمَع بينهما بأنَّ زيداً أراد أوَّل ما غزوتُ أنا معه، قال: ويُضعِّفُه روايةُ مسلمٍ: ((فقلت: ما أوَّل غزوةٍ غزاها؟ فقال: ذاتُ العُسير أو العُشيرة)) انتهت.
          قال في ((الفتح)) أيضاً: أهمَلَ عدَّ قُريظةَ؛ لأنَّه ضمَّها إلى الأحزابِ؛ لكونها كانَتْ في إثرِهَا، وكذا وقعَ لغيره عدَّ الطَّائفَ وحُنيناً واحدةً؛ لتقارُبِهما، فيجتمعُ على هذا قول زيدِ بن أرقمَ وقول جابرٍ، قال: وقد توسَّع ابنُ سعدٍ فبلغ عددُ المغازي الَّتي خرج فيها رسُولُ الله صلعم بنفسه سبعاً وعشرين، وتَبِعَ في ذلك / الواقديَّ، وهو مطابقٌ لما قالهُ ابن إسحاقَ، إلَّا أنَّه لم يُفرِد وادي القرى من خيبرَ، أشارَ إليه السُّهيليُّ، وكأنَّ السِّتَّة الزَّائدةَ من هذا القبيلِ.
          قال: وعلى هذا يُحمَل ما أخرجه عبد الرَّزَّاق بإسنادٍ صحيحٍ عن سعيدِ بن المسيَّبِ قال: غزا رسولُ الله أربعاً وعشرينَ، مع أنَّه قال أوَّلاً: ثماني عشرةَ، قال الزُّهريُّ: فلا أدري أوَهْمٌ أو كان شيئاً سمعَهُ بعدُ، قال في ((الفتح)): وحملُهُ على ما ذكرتُهُ يدفعُ الوهمَ ويجمَعُ الأقوالَ، انتهى.
          وأقولُ: جرى على أنَّها سبعٌ وعشرونَ ابنُ حجرٍ الهيتميُّ في ((التُّحفة)) مقتصِراً عليه، وذكرَ الَّتي قاتَلَ فيها رسولُ الله ثمَّ قال: وبعث رسُولُ الله صلعم سبعاً وأربعين سريَّةً، قال: وهي من مائةٍ إلى خمسمائةٍ، فما زادَ منسَر _بنون فسين مهملة مفتوحة_ إلى ثمانمائةٍ، فما زادَ جيشٌ إلى أربعة ألافٍ، فما زادَ جحفلٌ، والخميسُ: الجيشُ العظيمُ، وفرقةُ السَّريَّة تُسمَّى: بعثاً، والكتيبةُ: ما اجتمعَ ولم يُنشَر، قال: وكان أوَّل بعوثِهِ ◙ على رأس سبعةِ أشهُرٍ في رمضانَ، وقيل: في شهر ربيع الأوَّل، سنة اثنتَين من الهجرةِ، قال: والأصلُ فيه الآياتُ الكثيرةُ والأحاديثُ الصَّحيحةُ الشَّهيرةُ.
          قال: وأخذ منها ابن أبي عصرونَ أنَّه أفضلُ الأعمالِ بعدَ الإيمانِ، واختارَهُ الأذرعيُّ، وذكر أحاديثَ صحيحةً مصرِّحةً بذلكَ، أوَّلَها الأكثرُون بحملِهَا على خصوصِ السَّائلِ أو المخاطَب أو الزَّمن، انتهى.
          ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الله تعالى اختارَهُ لنبيِّهِ، وجعل كسبَهُ منه، ولا يختارُ لنبيِّه إلَّا الأفضلَ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وأمَّا البعوثُ والسَّرايا فعندَ ابن إسحاقَ ستًّا وثلاثين، وعندَ الواقديِّ ثمانياً وأربعين، وحكى ابن الجوزيِّ في ((التَّلقيح)): ستًّا وخمسينَ، وعندَ المسعوديِّ: ستِّين، قال: وبلغها شيخنا في ((نظم السِّيرة)) زيادةً على السَّبعينَ، ووقعَ عندَ الحاكِمِ في ((الإكليل)): أنَّها تزيدُ على مائةٍ، قال: فلعلَّه أراد بضمِّ المغازي إليها.
          (قِيلَ) أي: قال أبو إسحاقَ السَّبيعيُّ لزيدِ بن أرقمَ (كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ): تأكيدٌ للتَّاء (مَعَهُ؟): أي: مع رسولِ الله (قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ): أي: غزوةً (قُلْتُ): بضمِّ التَّاء (فَأَيُّهُمْ): بتشديدِ ((أي)) الاستفهاميَّة؛ أي: الغزواتِ، وكان حقُّه: فأيُّهنَّ أو أيُّها بضميرِ المؤنَّث، ولذا قال ابن مالكٍ في ((التَّوضيح)): والصَّوابُ فأيُّها أو أيُّهنَّ.
          قال في ((الفتح)): ووجَّههُ بعضهم على أنَّ المضافَ محذوفٌ، والتَّقديرُ: فأيُّ غزوتِهِم؟ قال: وأخرجهُ التِّرمذيُّ بالإسنادِ الَّذي ذكره المصنِّفُ بلفظ: ((قلتُ: فأيَّتهنَّ؟)) / قال: فدلَّ على أن التَّعبير من البخاريِّ أو شيخه؛ أي: فأيُّ الغزواتِ.
          (كَانَتْ أَوَّلَ): بنصبِ ((أوَّل)) خبر: ((كانَتْ)) (قَالَ: الْعُشَيْرُ أَوِ الْعُسَيْرَةُ): قال في ((الفتح)): كذا بالتَّصغيرِ؛ أي: فيهما، والأوَّلُ بالمعجمةِ بلا هاءٍ والثَّانيةُ بالمهملة والهاءِ، قال: ووقعَ في التِّرمذيِّ: ((العُشير أو العُسير)) بغير هاءٍ فيهما، زاد القسطلانيُّ: وفي نسخةٍ عن الأصيليِّ: <العَشِير> بفتحِ العينِ وكسرِ الشِّين المعجمةِ بغير هاءٍ، كذا رأيتُهُ في الفرعِ كأصله.
          (فَذَكَرْتُ): بضمِّ التَّاء (لِقَتَادَةَ): أي: ابن دعامةَ؛ أي: أنَّه العُشيرة أو العُسيرةُ (فَقَالَ: الْعُسَيْرُ): يعنِي: أنَّه بالسِّين لا غير بلا هاءٍ، كما في الفرع، وفي بعض النُّسخِ بإثباتِهَا.
          قال في ((الفتح)): قولُ قتادةَ هو الذي اتَّفقَ عليه أهلُ السِّيَر، وهو الصَّوابُ، وهو بالمعجمةِ وإثبات الهاءِ وحذفها، قال: وأمَّا غزوةُ العُسرة بالمهملة فهي غزوةُ تبُوكَ، قال تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]، وهي بغير تصغيرٍ، قال: وأمَّا هذه فنُسِبت إلى المكانِ الَّذي وصلوا إليه، واسمهُ: العشير أو العسرةُ، يُذكَّر ويؤنَّث، وذكر ابنُ سعدٍ أنَّ المطلوبَ في هذه الغزاةِ عيرٌ لقريشٍ صدرَتْ من مكَّة إلى الشَّامِ بالتِّجارة ففاتتهم، وكانوا يترقَّبُون رجُوعَها، فخرجَ النَّبيُّ صلعم ليغنمها فلذلك كانَتْ وقعة بدرٍ.
          وقال ابنُ إسحاقَ: كان السَّبب في غزوة بدرٍ ما حدَّثني يزيدُ بن رومانَ عن عُروة: أنَّ أبا سفيانَ كان بالشَّام في ثلاثينَ راكباً، منهم مخرمةُ بن نوفل وعَمرو بن العاصِ، فأقبلوا في قافلةٍ عظِيمةٍ فيها أموالٌ لقريشٍ، فندَبَ النَّبيُّ صلعم النَّاس إليهم، وكان أبو سفيانَ يتجسَّسُ الأخبارَ، فبلغه أنَّ النَّبيَّ استنفر الصَّحابةَ يقصدهم، فأرسلَ ضمضمَ بنَ عَمرٍو الغفاريَّ إلى قريشٍ بمكَّة يحرِّضُهم على المجيءِ لحفظِ أموالِهِم، ويحذِّرهُم المسلمينَ، فاستنفرَهُم ضمضمُ فخرجوا في ألفِ راكبٍ، ومعهم مائة فرسٍ، واشتدَّ حذرُ أبي سفيانَ فأخذ طريقَ السَّاحلِ وجدَّ في السَّفر حتَّى فات المسلمينَ، فلمَّا أمِنَ أرسلَ إلى مَن يلقى قريشاً يأمرُهُم بالرُّجوعِ، فامتنعَ أبو جهلٍ من ذلك، فكان ما كان من وقعةِ بدرٍ، انتهى.
          وقال قبل ذلك: قال ابن إسحاقَ: لمَّا رجعَ النَّبيُّ إلى المدينةِ _أي: من غزوةِ العُشيرِ_ لم يقُم إلَّا لياليَ حتَّى أغار كرزُ بن جابرٍ الفهريُّ على سرحِ المدينةِ، فخرجَ النَّبيُّ صلعم في طلبه حتَّى بلغ صفوانَ من ناحيةِ بدرٍ، ففاته كرز بن جابرٍ، وهذه هي بدرٌ الأولى، قال: وتقدَّمَ في العلمِ البيانُ عن سريَّةِ عبد الله بن جحشٍ، وأنَّه ومَن معه لقوا ناساً من قريشٍ راجعينَ / بتجارةٍ من الشَّام فقاتلوهُم، واتَّفق وقوع ذلك في رجب، فقتلوا منهم وأسَرُوا وأخذوا الَّذي كان معهم، وكان أوَّل قتْلٍ وقعَ في الإسلامِ وأوَّل غنمٍ، وممَّن قُتِلَ عبد الله بن الحضرميِّ أخو عَمرو بن الحضرميِّ الَّذي حرَّض به أبو جهلٍ قُريشاً على القتالِ ببدرٍ.
          قال الزُّهريُّ: أوَّل آيةٍ نزلت في القتالِ كما أخبرني عروةُ بذلكَ عن عائشة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] أخرجه النَّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ، وأخرجَ هو والتِّرمذيُّ وصحَّحه الحاكمُ عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا خرج النبيُّ صلعم من مكَّةَ قال أبو بكرٍ: أخرَجوا نبيَّهم لَيَهْلِكن فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ}...الآية، قال ابن عبَّاسٍ: فهي أوَّلُ آيةٍ أنزلت في القتال، وذكر غيره أنَّهم أُذِنَ لهم في قتالِ مَن قاتلَهُم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190]، ثمَّ أُمِروا بالقتالِ مطلقاً بقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا} [التوبة:41]...الآية.
          ومطابقةُ حديثِ الباب للتَّرجمةِ ظاهرةٌ، وأخرجهُ مسلمٌ في المغازي والمناسكِ، والتِّرمذيُّ في الجهاد.