الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}

          ░4▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): وفي بعضِ النُّسخِ: <╡> بدل: ((تعالى))؛ أي: في سورةِ الأنفالِ.
          ({إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:9-13]): قال في ((الفتح)): كذا للأكثرِ، وساقَ في روايةِ كريمة الآيات كلَّها، وعلى روايةِ كريمةَ شرحْنَا، و{إِذْ} معمولٌ لمقدَّرٍ على ما مرَّ قريباً، وقال البيضَاويُّ: بدلٌ من {إِذْ يَعِدُكُم} أو متعلِّقٌ بقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أو على إضمارِ: اذكُر واستغاثَتُهم إنَّهم لمَّا علموا أن لا محيصَ من القتالِ أخذوا يقولون / : أي ربِّ، انصُرنا على عدوِّكَ وأغِثْنا يا غياثُ المستغيثِين، قال: وعن عُمر ☺ أنَّه ╕ نظر إلى المشركينَ وهم ألفٌ، وإلى الصَّحابة وهم ثلاثمائةٍ، فاستقبلَ القبلةَ ومدَّ يديه يدعُو: ((اللَّهمَّ أنجِزْ لي ما وعدتَنِي، اللَّهمَّ إن تُهلِكْ هذه العصابَةَ لا تُعبَدُ في الأرضِ)) فما زال كذلكَ حتَّى سقطَ رداؤُهُ، فقال أبو بكرٍ: يا نبيَّ الله، كفاكَ مناشدتَكَ ربَّكَ، فإنَّه سيُنجِزُ لك ما وعدكَ.
          ({فَاسْتَجَابَ}): أي: فأجابَ ({لَكُمْ أَنِّي}): أي: بأنِّي ({مُمِدُّكُمْ}): قال البيضَاويُّ: فحذف الجارَّ وسلَّطَ عليه الفعلَ، قال: وقرأَ أبو عَمرٍو بالكسرِ على إرادةِ القولِ، أو أجرى {اسْتَجَابَ} مجرى قالَ؛ لأنَّ الاستجابةَ من القولِ ({بِأَلْفٍ}): متعلِّقٌ بـ{مُمِدُّكُمْ} ({مِنَ الْمَلاَئِكَةِ}): صفة {أَلْفٍ} ({مُرْدِفِينَ}): بكسرِ الدَّال لأكثر القُرَّاء، قال البيضاويُّ: متبِعِين المؤمنين أو بعضهم بعضاً، من أردفتُهُ: إذا جِئتَ بعدَه، أو متبعينَ بعضهم بعضاً المؤمنين، أو أنفسهم المؤمنينَ، مِن أردفتُهُ إيَّاه فردفَهُ، قال: وقرأ نافعٌ ويعقوب: ▬مُرْدَفِينَ↨ بفتحِ الدَّال؛ أي: متَّبَعين أو متبِعين، بمعنَى أنَّهم كانوا مقدِّمة الجيشِ أو ساقتهم.
          وروى ابن جريرٍ عن عليٍّ ☺ قال: نزلَ جبريلُ ◙ في ألفٍ من الملائكةِ عن ميمنةِ النبيِّ صلعم وفيها أبو بكرٍ، ونزل ميكائيلُ ◙ في ألفٍ من الملائكةِ عن ميسرةِ النبيِّ صلعم وأنا في الميسرةِ.
          قال العينيُّ: وهذا يقتضِي لو صحَّ إسنادُهُ أنَّ الألفَ مُردفةٌ بمثلها، قال: ولهذا قرأَ بعضُهُم: ▬مردَفين↨ بفتحِ الدَّال، انتهى، وقرئ: ▬مُردِفين↨ بكسرِ الراء وضمها، وأصله: مرتدفين، فأُدغِمت التَّاءُ في الدَّال فالتقَى ساكنان فحُرِّكت الرَّاء بالكسرِ على الأصلِ، وبالضَّمِّ على الإتباعِ، وقرئ بالألف ليُوافقَ ما في سورةِ آل عمرانَ، ووجهُ التَّوفيقِ بينه وبين المشهورِ أنَّ المرادَ بالألْفِ الَّذين كانوا على المقدِّمةِ أو السَّاقةِ، أو وجوهِهِم وأعيانهم، أو مَن قاتلَ منهم واختُلِفَ في مقاتلتِهِم، وقد رُوي أخبارٌ تدلُّ عليها.
          ({وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ}): أي: الإمدادَ بالملائكةِ ({إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}): تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ في البابِ قبله؛ لاتِّفاقِهِما في غالبِ ألفاظهما.
          ({إِذْ يُغَشِّيكُمُ}): بتشديدِ الشِّين ({النُّعَاسَ}): الظَّرف معمولٌ لمحذوفٍ، أو بدلٌ ثانٍ من {إِذْ يَعِدُكُم} لإظهار نعمةٍ ثالثةٍ، أو متعلِّقٌ بـ(({النَّصْرُ}))، أو بما في (({عِنْدِ اللهِ})) من معنَى الفعلِ، قال البيضَاويُّ: وقرأ نافعٌ بالتَّخفيفِ، مِن أغشيتُ الشَّيءَ: إذا غشَّيتهُ إيَّاه، والفاعلُ _أي: وفاعلُ يغشَى_ على القراءَتينِ هو اللهُ تعالى، قال: وقرأَ ابنُ كثيرٍ وأبو عَمرٍو: ▬يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ↨ بالرَّفع ({أَمَنَةً}): بفتحاتٍ وقصرِ الهمزةِ، مفعولٌ لأجلهِ ({مِنْهُ}): أي: من عندِ اللهِ، قال البيضَاويُّ: وقرئ: ▬أَمْنَة↨ كرَحْمَة، وهي لغةٌ.
          قال العينيُّ ما حاصله: وهذا الكلامُ كما قالَ المفسِّرونَ تذكيرٌ من اللهِ تعالى بما أنعَمَ به عليهم / من إلقائهِ النُّعاس عليهم أماناً من خوفهم الذي حصلَ لهم من كثرةِ عدوِّهِم وقلَّة عددِهِم، وقال أبو طلحةَ: كنتُ ممَّن أصابهُ النُّعاس يوم أُحدٍ، وقد سقطَ السَّيفُ من يدي مراراً، ولقد نظرتُ إليهم يمتدُّونَ وهم تحت الجحفةِ، وروى سفيانُ الثَّوريُّ بسنده إلى ابن مسعودٍ أنَّه قال: النُّعاس في القتالِ أمنةً من الله، وفي الصَّلاة من الشَّيطان، وهو كما قال قتادةُ: يكون في الرَّأس والنَّومِ في القلب، وقال سهلُ بن عبد الله: النُّعاس يحلُّ في الرَّأس مع حياة القلبِ، والنَّوم يحلُّ في القلبِ بعدَ نزوله من الرَّأس، وفي القسطلانيِّ: وقال ابن كثيرٍ: أمَّا النُّعاس فقد أصابهم يوم أُحُد، وأمَّا يوم بدرٍ فتدلُّ له هذه الآيةُ أيضاً، انتهى.
          ({وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}): أي: من الحَدَثين والنَّجاسة ({وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}): هذه طهَارةٌ معنويَّةٌ، والأُولى حسِّيَّةٌ ({وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}): أي: بالصَّبر والإقدامِ على العدوِّ ودفع وسوسةِ الشَّيطانِ ({وَيُثَبِّتَ بِهِ}): أي: بالمطرِ ({الأَقْدَامَ}): حتَّى لا تسوخَ في الرَّملِ، أو بالرَّبطِ على القلوبِ حتَّى تثبتَ في المعركةِ، قاله البيضَاويُّ، وقال أيضاً: ماءً ليُطهِّركُم به من الحَدَث والجنابةِ، ويُذهِبْ عنكم رجزَ الشَّيطانِ؛ يعنِي: الجنابةَ؛ لأنَّها من تخييلِهِ أو وسوستِهِ وتخويفهِ إيَّاهُم من العطشِ.
          رُويَ أنَّهم نزلوا في كثيبٍ أعفرَ تسُوخُ فيه الأقدامُ على غيرِ ماءٍ، وناموا فاحتلَمَ أكثرهُم وقد غلب المشركونَ على الماءِ، فوسوس إليهم الشَّيطانُ وقال: كيف تُنصَرون وقد غُلِبتُم على الماءِ وأنتم تصلُّون مُحدِثِين مُجنِبين، وتزعمون أنَّكم أولياءُ الله وفيكم رسولُهُ، فأشفقوا، فأنزلَ الله المطرَ فمُطِروا ليلاً حتَّى جرى الوادي، واتَّخذوا الحياضَ على عدوتِهِ وسقوا الرِّكاب واغتسلوا وتوضَّؤوا وتلبَّد الرَّملُ الَّذي بينهم وبين العدوِّ حتَّى ثبتت عليه الأقدامُ فزالت الوسوسةُ.
          ({إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ}): الظَّرف متعلِّقٌ بـ{يُثَبِّتَ} أو بدلٌ ثالثٌ ({أَنِّي مَعَكُمْ}): {أن} المفتوحة وما بعدَها في تأويلِ مصدرِ مفعولِ: {يُوحِي}؛ أي: بأنِّي ناصرُكم ومُعينكُم، وقُرِئَ: ▬بكسرِ إِنِّي↨ على إرادةِ القولِ، أو إجراءِ الوحِي مجرى القولِ ({فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}): أي: بالبشَارةِ بالنَّصرِ أو بتكثيرِ سوادِهِم، ورُوِيَ أنَّ الملَك يمشِي أمامَ الصَّفِّ فيقولُ: أبشِروا فإنَّكم كثيرٌ وعدوَّكم قليلٌ، والله تعالى ناصرُكُم.
          ({سَأُلْقِي}): أي أقذِفُ ({فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}): أي: الخوفَ من رسولِ الله والمؤمنينَ.
          وقوله: ({فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ}): أي: أعالي أعناقِ المشركينَ الَّتي هي المذابحُ أو الرُّؤوسُ، تعليمٌ للملائكةِ كيف تضربُ وتقاتِلُ بناءً على أنَّهم قاتلوا، أو للمؤمنينَ ({وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}): أي: أصابعَهُم، قال الزَّمخشريُّ: البَنان: الأصابعُ، يُريد: الأطرافَ، وقيل: كلُّ مفصلٍ.
          ({ذَلِكَ}): يعني: الضَّربَ والقتلَ، وقال البيضَاويُّ: {ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الضَّربِ / أو الأمرِ به، والخطابُ للرَّسولِ، أو لكلِّ أحدٍ من المخاطبين ({بِأَنَّهُمْ}): أي: بسببِ أنَّ الذين كفروا ({شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}): أي: خالفُوهُما وعاندُوهُما، قال البيضَاويُّ: واشتقاقُهُ من الشقِّ؛ لأنَّ كلًّا من المتعاندينَ في شقٍّ خلافَ شقِّ الآخرِ، كالمعاداةِ من العدوةِ، والمخاصَمةُ من الخصْمِ، وهو الجانبُ.
          ({وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}): بفكِّ الإدغامِ هنا، ووقعَ في سورةِ الحشر {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} [الحشر:4] بالإدغامِ، وكلاهما جائزٌ ({فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}): قال البيضَاويُّ: تقريرٌ للتَّعليلِ، أو وعيدٌ بما أعدَّ لهم في الآخرةِ بعدَ ما حاقَ بهم في الدُّنيا.