الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب غزوة أحد

          ░17▒ (بَاب غَزْوَةِ أُحُدٍ): سقطَ لفظُ: <باب> فقط من روايةِ أبي ذرٍّ، فغزوةُ مرفوعٌ، وأُحُد بضمِّ الهمزةِ والحاءِ المهملةِ، فدالٌ مهملةٌ، جبلٌ معروفٌ بينه وبينَ المدينةِ أقلَّ من فرسخٍ، سمِّي بذلك لتوحُّدِه عن جبال هناك، وهو الذي قال فيه النبيُّ صلعم: ((أُحُدٌ يحبُّنا ونحبُّه)) كما سيأتي في باب أواخرِ هذه الغزوةِ، معَ استيفاءِ الكلامِ عليه إنْ شاء الله تعالى.
          ونقلَ السُّهيليُّ عن الزُّبير بنِ بكَّارٍ في فضلِ المدينةِ: أنَّ قبرَ هارون ◙ بأُحُدٍ، وأنه قدِمَ معَ موسى في جماعةٍ من بني إسرائيلَ حُجَّاجاً فماتَ هناك.
          قال في ((الفتح)): قلتُ: سندُ الزُّبير في ذلك ضعيفٌ جداً من جهةِ شيخِه محمدِ بنِ الحسن بنِ زبالةٍ، ومنقطعٌ أيضاً ليسَ بمرفوعٍ.
          وفي العينيِّ: ويقال لأُحُدٍ ذو عينين، وعينان تثنيةُ عينٍ؛ أي: بفتحِ العينِ وكسرها، كما في ((القاموس)) جبلٌ بأُحُدٍ وهو الذي قامَ عليه إبليسُ عليه اللَّعنةُ يوم أُحُدٍ، وقال: إنَّ سيدَنا رسولَ الله صلعم قد قتلَ، وبه أقامَ رسولُ الله صلعم الرُّماةَ يومَ أُحُدٍ. انتهى فاعرفه.
          وقال في ((الفتح)): وكانت عندَه الوقعةُ المشهورةُ في شوالٍ سنةَ ثلاثٍ باتفاقِ الجمهور، وشذَّ مَنْ قال: سنةَ أربعٍ، قال ابنُ إسحاقَ: لإحدى عشرةَ ليلةً خلتْ منه، وقيل: لثمانٍ، وقيل: لتسعٍ، وقيل: في نصفه، وقال مالكٌ: كانت بعد بدرٍ بسنةٍ، وفيه تَجَوُّزٌ؛ لأنَّ بدراً كانت في رمضانَ باتفاق، فهي بعدها بسنةٍ وشهرٍ لم يكملْ؛ ولهذا قال مرة أخرى: كانت بعد الهجرةِ بإحدى وثلاثين شهراً، وكان السببُ فيها ما ذكر ابنُ إسحاقَ عن شيوخه، وموسى بنُ عقبةَ عن ابنِ شهابٍ، وأبو الأسودِ عن عروةَ قالوا: وهذا ملخصُ ما ذكره موسى بنُ عقبةَ في سياق القصِّة كلِّها، قال:
          لما رجعتْ قريشٌ استجلبوا مَنِ استطاعُوا مِنَ العرب، وسارَ بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطنِ الوادِي مِن قِبَلِ أُحُدٍ، وكان رجالٌ من المسلمين أسفوا على ما فاتهم مِن مشهدِ بدرٍ وتمنَوا لقاءَ العدوِّ، أُرِيَ رسولُ الله صلعم ليلةَ الجمعة رؤيا، فلمَّا أصبحَ قال: ((رأيتُ البارحةَ في منامِي بقراً تُذبَحُ، واللهِ خيرٌ، وإني رأيتُ سيفِي ذا الفقار انقصَمَ مِن عند ظُبَّتِهِ، أو قالَ به فلولٌ فكرهتُه، وهما مصيبتان، ورأيتُ أني في درعٍ حصينةٍ، وأني مردفٌ كبشاً)) قالوا: ما أوَّلتَها؟ قال: ((أوَّلتُ البَقَرَ: بَقْراً يكون فيها، وأوَّلتُ الكبشَ: كبشَ الكتيبةِ، وأوَّلتُ الدِّرعَ الحصينةَ: المدينةَ، فامكثوا فإنْ دخلَ القومُ الأزقَّةَ قاتلنَاهُم ورُموا مِنْ فوقِ البيوتِ)) قال أولئك القومُ / : يا نبيَّ الله كنَّا نتمنى هذا اليوم، وأبى كثيرٌ من الناسِ إلا الخروجَ، فلمَّا صلَّى الجمعةَ ثم انصرفَ دعا باللَّأْمَةِ فلبسَها، ثم أذَّنَ في الناسِ بالخروجِ، فندمَ ذووا الرأي منهم فقالوا: يا رسولَ الله، امكثْ كما أمرتَنا، فقال: ((ما ينبغِي لنبيٍّ إذا أخذ لَأْمَةَ الحربِ أنْ يرجعَ حتى يقاتلَ)) فخرجَ بهم وهم ألفٌ رجلٍ، وكان المشركون ثلاثةَ آلافٍ حتى نزلَ بأُحُدٍ، ورجعَ عنه عبدُ الله بنُ أُبيِّ بنِ سلولٍ في ثلاثِمائةٍ، فبقيَ في سبعِمائةٍ، فلمَّا رجعَ عبدُ الله سقطَ في أيدِي طائفتين من المؤمنين، وهما بنو حارثةَ وبنو سلمةَ.
          وصفَّ المسلمونَ بأصل أُحُدٍ، وصفَّ المشركونَ بالسَّبخةِ وتعبُّوا للقتالِ، وكان على خيلِ المشركينَ وهي مائةٌ فرسُ خالدِ بنِ الوليد، وليسَ مع المسلمين فرسٌ، وصاحبُ لواءِ المشركين طلحةُ بنُ عثمانَ، وأمَّرَ رسولُ الله صلعم عبدَ الله بنَ جبيرٍ على الرُّماةِ، وهم خمسون رجلاً، وعهدَ إليهم ألا يتركوا منَازلَهم، وكانَ صاحبُ لواء المسلمين مصعبُ بنُ عُميرٍ، فبارزَ طلحةُ بنُ عثمانَ _أي: الحجبي_ فقتله، وحملَ المسلمون على المشركين حتَّى أجهضُوهم عن أثقَالهم، وحملتْ خيلُ المشركين فنضحَهُم الرُّماةُ بالنبلِ ثلاثَ مراتٍ، فدخلَ المسلمون عسكرَ المشركين فانتهبُوه، فرأى ذلك الرُّماةُ فتركوا مكانَهم ودخلوا العَسْكرَ، فأبصرَ ذلك خالدُ بنُ الوليد ومَنْ معه فحمَلوا على المسلمين في الخيلِ فمزَّقُوهم، وصرخَ صَارخٌ: قُتِلَ محمَّدٌ أُخْراكُم، فعطفَ المسلمون يقتلُ بعضُهم بعضاً وهم لا يشعرون، وانهزمَتْ طائفةٌ منهم إلى جهةِ المدينةِ، وتفرَّق سائرُهم، ووقعَ فيهم القتلُ، وثبتَ نبيُّ اللهِ حتى انكشفُوا عنه، وهو يدعُوهم في أُخرَاهُم، حتى رجعَ إليه وهو عندَ المهراسِ في الشِّعب، وتوجَّهَ النبيُّ صلعم يلتمسُ أصحابَه، فاستقبَلَه المشركون فرمَوا وجهَه الشَّريفَ فأدْمَوهُ وكسَرُوا رَباعيتَه.
          فمرَّ مصعداً في الشِّعب ومعه طلحةُ والزبيرُ، وقُتِلَ معه طائفةٌ من الأنصَار منهم سهلُ بنُ بيضَاءَ والحارثُ بنُ الصِّمةَ، وشُغلَ المشركون بقتلى المسلمين يمثلونَ بهم يقطعونَ الآذانَ والأنوفَ والفروجَ، ويبقرُونَ البطونَ وهم يظنُّون أنَّهم أصَابوا النبيَّ صلعم وأشرافَ أصحَابهِ، فقال أبو سفيان يفتخرُ بآلهتهِ: أعلُ هُبل، فنادَاه عمرُ: اللهُ أعلى وأجلُّ، ورجعَ المشركون إلى أثقَالهم، فقال النبيُّ صلعم لأصحابهِ: ((إنْ ركبُوا وجعلوا الأثقالَ تتبعُ آثارَ الخيلِ فهم يريدونَ البيوتَ، وإنْ ركبُوا الأثقالَ وتجنَّبوا الخيلَ فهم يريدونَ الرُّجوعَ)) فتبعَهُم سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ثم رجعَ فقال: رأيتُ الخيلَ مجنوبةً، فطابَتْ أنفسُ المسلمين ورجعُوا إلى قتلاهُم فدفنُوهُم في ثيابهِم ولم يُغسِّلوهم ولم يصلُّوا عليهم، وبكَى المسلمون على قتلَاهُم.
          قال في ((المواهب)): وكانوا سبعين رجلاً، كما قاله مُغلطَاي وكثيرون، وقيل: خمسةٌ وستون أربعةٌ من المهاجرين / ، وقيل: ستةٌ والباقِي من الأنصَار، وقُتِلَ من المشركين ثلاثةٌ وعشرون رجلاً، وقتلَ يومئذٍ النبيُّ صلعم بيده الشَّريفةِ أُبيَّ بنَ خلفٍ لعنهُ اللهُ، وحضرَتْ الملائكةُ ‰ يومئذٍ، ففي مسلمٍ عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ: أنَّه رأى عن يمين رسولِ الله صلعم وعن شمالهِ يوم أُحُدٍ رجلين عليهما ثيابٌ بيضٌ ما رأيتُهما قبلُ ولا بعدُ؛ يعني: جبريلَ وميكائيلَ يقاتلان كأشدِّ القتالِ، ولا يختصُّ قتالُهم معه بيوم بدرٍ خلافاً لمن زعمَهُ، كما نصَّ على ذلك النوويُّ في ((شرح مسلمٍ)). انتهى.
          فسُرَّ المنافقون وظهرَ غشُّ اليهودِ، وفارَتْ المدينةُ بالنِّفاقِ، فقالَتْ اليهودُ: لو كان نبيًّا ما ظهروا عليه، وقال المنافقونَ: لو أطاعُونا ما أصَابَهم هذا، قال العلماءُ: وكان في قصةِ أُحُدٍ وما أُصيبَ به المسلمون فيها مِن الفوائدِ والحِكَمِ الرَّبانيَّة أشياءٌ عظيمةٌ:
          منها تعريفُ المسلمين سوءَ عاقبةِ المعصيَّةِ، وشؤمَ ارتكابِ النَّهي؛ لما وقعَ مِن تركِ الرُّمَاة موقفَهم الذي أمرَهُم الرسولُ أنْ لا يبرَحُوا منه.
          ومنها أنَّ الرسلَ قد تُبتلَى وتكونُ لها العَاقبةُ كما مرَّ في قصَّة هِرَقل معَ أبي سفيان، والحكمةُ في ذلك أنَّهم لو انتصَرُوا دائماً دخلَ في المسلمين مَنْ ليس منهم، ولم يتميَّزِ الصَّادقُ مِن غيره، ولو انكسَرُوا دائماً لم يحصلِ المقصُودُ من البعثَةِ، فاقتضَتْ الحكمةُ الجمعَ بينَ الأمرين ليتميَّزَ الصَّادقَ من الكاذبِ، وذلك أنَّ نفاقَ البعضِ كان مخفيًّا عن المسلمين، فلمَّا جرتْ هذه القصَّةُ وأظهرَ أهلُ النِّفاقِ ما أظهرُوا مِنَ الفعلِ والقولِ عادَ التَّلويحُ تصريحاً، وعرفَ المسلمونَ أنَّ لهم عدواً في دورهِم فاستعدُّوا لهم وتحرَّزوا منهم.
          ومنها أنَّ في تأخير النَّصرِ في بعضِ المواضعِ هضماً للنَّفسِ، وكسراً لشماختِهَا، فلمَّا ابتلِي المؤمنون صَبروا وجزعَ المنافقونَ.
          ومنها أنَّ الشَّهادةَ مِن أعلى مراتبِ الأولياءِ فسَاقها إليهم.
          ومنها أنَّه أرادَ إهلاكَ أعدَائهِ فقيَّضَ لهم الأسبابَ التي يستوجبُونَ بها ذلك مِن كفرِهِم وبغيِهم وطُغيانِهم في أذى أوليائِهِ، فمحَّصَ بذلك ذنوبَ المؤمنينَ ومحقَ بذلك الكافرين.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): وفي بعضِ الأصُولِ: <╡> ({وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}) [آل عمران:121]:...إلخ أي: ذكرَ المصنفُ آياتٍ من سورة آلِ عمرانَ لكنَّها ليستْ على التوالي، وكلُّها تتعلَّق بغزوة أُحُدٍ، وقال ابنُ إسحاقَ: أنزل اللهُ في شأن أُحُدٍ ستين آيةً مِن آلِ عمرانَ، وروى ابن أبي حاتمٍ من طريق المسور بنِ مخرمةَ قال: قلتُ لعبد الرحمنِ بنِ عوفٍ: أخبرني عن قصتِكُم يومَ أُحُدٍ، قال: اقرأ العشرين ومائةً من آلِ عمرانَ تجدْها: {وإذْ غَدَوْتَ مِنْ أهلِكَ...}.
          ({تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: قال البيضاويُّ وغيره: واذكرْ يا محمَّدُ إذ خرجْتَ غدوةً مِن أهلكَ بالمدينةِ؛ أي: مِن حُجْرةِ عائشةَ ♦ إلى أُحُدٍ تُبوِّئ المؤمنين؛ أي: تُنزِلهم أو تُسوِّي / وتهيءُ لهم، قال البيضَاويُّ: ويؤيدُه القراءةُ باللام {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}؛ أي: مواضعَ وأماكنَ له، وقد يُستعملُ المقعدُ والمقامُ بمعنى المكانِ على الاتساعِ، كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر:55] وقوله: {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39].
          قال في ((الفتح)): وأصلُ تُبَوِّئَ مِنَ المبَاءةِ وهو المرجعُ، روى الطبرانيُّ عن قتادةَ قال: غدا نبيُّ الله مِن أهلهِ يومَ أُحُدٍ يُسوي المؤمنين مقَاعدَ للقتَالِ.
          ومِنْ طريقِ الحسنِ: أنَّ ذلك كانَ يومَ الأحزابِ ووهَّاه.
          {وَاللَّهُ سَمِيعٌ}: أي: لأقوالكُم {عَلِيمٌ}: أي: بنياتِكم، قال البيضَاويُّ: رُوي أنَّ المشركين نزلوا بأُحُدٍ يومَ الأربعاء ثاني عشرَ شوال سنةَ ثلاثٍ من الهجرة، فاستشارَ رسولُ الله أصحابَه، وقد دعَى عبدَ الله بن أُبي بن سلول ولم يدعُه، قيل: فقال هو وأكثرُ الأنصار: أقمْ يا رسولَ الله بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنَا منها إلى عدوٍّ إلا أصَابَ منَّا وغلبَ علينا، ولا دخلهَا علينَا إلَّا أصبْنَا منه وغلبنَا عليه، فكيفَ وأنت فينا؟ فدعْهُم فإنْ أقامُوا أقاموا بشرِّ محبَسٍ، وإنْ دخلوا قاتلَهُم الرجالُ ورمَاهُم النساءُ والصِّبيانُ بالحجارةِ، وإنْ رجعُوا رجعُوا خائبين.
          وأشار بعضُهم إلى الخروجِ فقال ╕: ((رأيتُ في منامِي بقراً مذبُوحةً حولي فأوَّلتُها خيراً، ورأيتُ في ذبابِ سيفِي ثلماً فأولتُه هزيمةً، ورأيتُ كأني أُدخلُ يدِي في درعٍ حصينةٍ، فأولتُها المدينةَ، فإنْ رأيتُم أنْ تقيمُوا بالمدينة وتَدَعوهُم)) فقال رجالٌ فاتتهُم بدرٌ وأكرمَهُم اللهُ بالشَّهادة يوم أُحُدٍ: اخرُجْ بنا إلى أعدائنا وبالغُوا حتى دخلَ فلبسَ لَأْمَتَهُ، فلمَّا رأوا ذلك ندمُوا على مبالغتِهِم وقالوا: اصنَعْ يا رسولَ الله ما رأيتَ، فقال: ((لا ينبغِي لنبيٍّ أنْ يلبسَ لَأْمَتَهُ فيضَعها حتى يقاتلَ)) فخرجَ بعد صلاةِ الجمعةِ وأصبحَ بشعبِ أُحُدٍ يوم السبتِ، ونزلَ في عدوةِ الوادِي وجعلَ ظهرَه وعسْكرَه إلى أُحُدٍ، وسوَّى صفَّهم، وأمَّر عبدَ الله بنَ جبيرٍ على الرُّماةِ، وقال: ((انضَحُوا عنَّا بالنَّبلِ لا يأتونَ مِن ورائِنا)).
          (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَهِنُوا}): أي: ولا تضعُفوا عن الجهادِ لِمَا أصَابكُم مِنَ الهزيمةِ ({وَلاتَحْزَنُوا}): قال البيضَاويُّ: تسليتهم عمَّا أصَابهم يوم أُحُدٍ، والمعنى: لا تضعُفُوا عن الجهادِ بما أصابَكُم ولا تحزَنوا على مَنْ قُتلَ منكم ({وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ}): أي: وحالُكُم أنَّكم أعلى منهم وأغلبُ، لأنَّكم أَصَبتُم منهم يومَ بدرٍ أكثرَ ممَّا أصابُوا منكم يومَ أُحُدٍ، وأنتُم الأعلونَ بالنَّصرِ والظَّفرِ بالعاقبَةِ، وهي بشَارةٌ بالعلوِّ والغَلبةِ، وإنَّ جندنا لهم الغَالبونَ ({إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}): جوابُه محذوفٌ، فقيل: تقديرُه: فلا تهنوا ولا تحزنُوا، وقيل: تقديرُه: إنْ كنتُم مؤمنين علمتُم أنَّ هذه الوقعةَ لا تبقَى على حالها، وأنَّ الدُّوَلةَ تصيرُ للمؤمنين.
          وفي ((الفتح)): وأخرجَ الطبريُّ عن ابن عبَّاسٍ قال: أقبلَ خالدُ بنُ الوليد يريد أنْ يعلوَ الجبلَ عليهم، فقال النبيُّ صلعم: ((اللَّهمَّ لا يعلونَ علينا)) فأنزلَ اللهُ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.
          وأخرج أيضاً من طريقِ / الزهريِّ قال: كثُرَ في أصحابِ النبيِّ القتلُ والجراح حتَّى خلص إلى كلِّ امرئٍ منهم نصيبٌ، فاشتدَّ حزنُهم فعزَاهُم اللهُ أحسنَ تعزية ({إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ}): قرأَ حمزةُ والكسَائيُّ وابنُ عيَّاشٍ عن عاصمٍ بضمِّ القاف والباقون بالفتحِ، وهما لغتان كالضُّعف والضَّعف، وقيل: هو بالفتحِ الجراحةُ، وبالضمِّ ألمُها.
          والمعنى: إنْ أصابُوا منكم يومَ أُحُدٍ فقد أصبتُم منهم يومَ بدرٍ مثله، ثم إنَّهم لم يضعُفوا ولم يجبُنوا فأنتم أولى بأنْ لا تضعفُوا، فإنَّكُم ترجُونَ مِن اللهِ ما لا يرجُون.
          وقيل: كِلا المسيَّن كان يوم أُحُدٍ، فإنَّ المسلمين نالوا منهم قبل أنْ يخالفوا أمرَ الرسول صلعم، وفي قوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] للنَّحويين في مثلهِ تأويلٌ وهو أنْ يقدِّروا شيئاً مستقبلاً؛ لأنَّه لا يكونُ التَّعليقُ إلَّا في المستقبلِ، وقوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ماضٍ محقَّقٍ، فيُؤول: فقد تبيَّنَ مسُّ القرحِ للقومِ.
          ({وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}): قال البيضَاويُّ: نداولها نُصرِّفُها بينهم، نديلُ لهؤلاء تارةً ولهؤلاء أخرى، كقوله:
فيَومٌ عَلينَا ويَومٌ لنَا                     ويَومٌ نُسَاءُ ويَومٌ نُسَرُّ
          والمداولةُ كالمعَاورةُ، يقال: داولتُ الشيءَ بينهم فتدَاولوهُ، والأيامُ تحتملُ الوصْفَ والخبرَ، وتداوُلها يحتملُ الخبرَ والحالَ، والمرادُ بها أوقاتُ النَّصرِ والغلبةِ، معنى: أنَّ مسارَ الأيَّامِ لا تدومُ وكذلك مضَارَّها، قيل: ليسَ المرادُ من هذه المداولةِ أنَّ اللهَ تعالى ينصرُ المؤمنين تارةً وينصرُ الكافرين أخرى؛ لأنَّ نصرَ الله منصبٌ شريفٌ لا يليقُ بالكافرين، بل المرادُ أنَّه تارةً يشدِّدُ المحنةَ على الكافرين وتارةً على المؤمنين، فعلى المؤمنين وبالٌ في الدُّنيا، وعلى الكافرينَ غضَبٌ ونكَالٌ.
          ({وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}): قال ابن عبَّاسٍ: لنرى مَنْ يصبرُ على مناجزَةِ الأعداءِ، وقال البيضَاويُّ: عطفٌ على علَّةٍ محذُوفةٍ؛ أي: نداولها ليكونَ كيتَ وكيتَ، وليعلمَ اللهُ إيذاناً بأنَّ العلةَ فيه غير واحدةٍ، وأنَّ ما يصيبُ المؤمنُ فيه من المصَالح ما لا يُعلم، والفعلُ المعللُ به محذوفٌ تقديره: وليتميزَ الثابتون على الإيمان مِنَ الَّذين على حرفٍ، فعلنَا ذلك والقصدُ في أمثاله ونقائضِهِ ليسَ إلى إثباتِ علمِهِ تعالى ونفيِهِ، بل إلى إثباتِ المعلومِ ونفيِهِ على طريقِ البرهَانِ، وقيل: معنَاه ليعلمهم علماً يتعلَّقُ به الجزاءُ، وهو العلمُ بالشَّيءِ مَوجوداً.
          ({وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}): أي: وليكرمَ ناساً منكم بالشَّهادة، يريدُ شهداءَ أُحد أو أعمَّ، وقيل: ليتخذَ منكم شهوداً معدلين بما حصَلَ منهم مِن الثباتِ والصَّبرِ على الشَّدائد، وقال ابنُ جريجٍ: كان المسلمون يقولون: ربنا أرِنا يوماً كيوم بدرٍ نلتمسُ فيه الشَّهادةَ، فاتخذَ الله منهُم شهداءَ يومَ أُحُدٍ.
          ({وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}): أي: المشركين أو أعمَّ، وقال البيضَاويُّ: الذين يضمرونَ خلافَ ما يظهرونَ، أو الكافرين، وهو اعتراضٌ وفيه تنبيهٌ على أنَّه لا ينصُ الكافرين / على الحقيقةِ، وإنما يغلِّبُهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاءً للمؤمنين.
          ({وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}): معطوفٌ على {لِيَعْلَمَ} والتَّمحيصُ: التَّطهيرُ والتخلصُ من المعيب، وقيل: هو الابتلاءُ والاختبارُ، كقوله:
رأيتُ فُضَيلاً كانَ شَيئاً مُلَفَّقاً                     فَكشَفَهُ التَّمْحِيصُ حتَّى بَدا ليَا
          والمرادُ على الأوَّل: وليكفِّرَ اللهُ ذنوبَ المؤمنين إنْ كانت عليهم، وإلَّا يرفعُ لهم درجَاتٍ بقدَرِ ما أصيبُوا به.
          ({وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}): أي: وليهلكَهُم إنْ كانت الدُّوَلَةُ عليهم، وقيل: لينقصَهم؛ فإنَّ المحْقَ نقصُ الشَّيء قليلاً قليلاً، والمرادُ الكفَّارُ الذين حاربُوه ◙ يوم أُحدٍ؛ لأنَّه تعالى لم يمحقْ كلَّ الكافرين.
          ({أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}): أي: بل أحسبتُم، فأَمْ منقطعةٌ والهمزةُ للإنكارِ؛ أي: لا تحسبُوا أنَّكم تدخلونَ الجنَّةَ ({وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ}): والجملةُ حاليَّةٌ؛ أي: ولا تجاهدونَ، فنفى العلمَ وأرادَ نفيَ المعلومِ؛ لأنَّه منتفٍ بانتفائهِ، يقال: ما علمَ اللهُ في فلانٍ خيراً؛ أي: ليس فيه خيرٌ حتَّى يعلمَه، فلمَّا بمعنى: لم، إلا أنَّ منفيَها يُتوقعُ ثبوتُه، كذا قاله الزمخشَريُّ وآخرون، وتعقَّبه أبو حيَّان فقال: هذا الذي قاله لا أعلمُ أحداً من النَّحويين قاله، بل ذكروا أنَّك إذا قلتَ: لمَّا يخرج زيدٌ، دلَّ ذلك على انتفاءِ الخروجِ منه فيما مضَى متصلاً نفيُه بالحالِ، ولا دَلالةَ لها على التَّوقعِ في المستقبلِ، لكنْ يؤيدُ الأولَ قولُ ((الدرِّ)): النُّحَاةُ إنما فرَّقوا بينهما مِن جهة أنَّ المنفيَّ بلم فعلٌ غيرُ مَقْرونٍ بقد، وقد يدلُّ على التوقعِ فيكون كلامُ الزمخشَريِّ صحيحاً في الجملةِ.
          ({وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}): بنصبِ يعلمَ بإضمارِ أنْ، والواو للجمعِ فيكون كقولهم: لا تأكلِ السَّمكَ وتشربِ اللَّبنَ، للإشارةِ إلى أنَّ دخولَ الجنَّة وتركَ المصَابرةِ على الجهادِ لا يجتمعانَ، قال البيضَاويُّ: وقُرئ برفعِ: {يَعْلَمُ} على أنَّ الواوَ للحالِ، كأنه قال: ولما تجاهدُوا وأنتم صابرونَ.
          ({وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ}): بفتح الميمِ والنونِ المشدَّدة؛ أي: تتمنَّونَ ({الْمَوْتَ}): أي: الحربَ؛ فإنها من أسبابهِ، أو الموتُ الشَّهادةُ، والخطابُ للذين لم يشهدُوا بدراً تمنوا أنْ يشهدُوا معَ رسولِ الله مشهداً للجهَادِ لينَالوا ما نالَ شهداءُ بدرٍ، فألحُّوا يومَ أُحدٍ على الخروجِ.
          ({مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ}): أي: تشاهدُوه وتعرِفُوا شدَّتَه ({فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}): والجملةُ الاسميَّةُ حاليَّةٌ، قال البيضَاويُّ: أي: فقد رأيتُمُوه معاينينَ له حين قُتِلَ دونَكم مَنْ قُتل مِنْ إخوانكم، وهو توبيخٌ لهم على أنهم تمنَّوا الحربَ وتسببوا لها، ثمَّ جبُنوا وانهزَمُوا عنها، أو على تمنِّي الشَّهادةِ فإنَّ في تمنِّيها تمنِّي غلبةِ الكفَّار. انتهى.
          وجازَ ذلك؛ لأنَّ غرضَ المتمنِّي حصُولُ الشَّهادةِ، لا غلبةَ الكفَّار وإنْ حصلَتْ ضمناً.
          تنبيه: سقطَ لأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكر مِنْ قولهِ تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} إلى آخره، وقالا: إلى قوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
          (وَقَوْلِهِ تعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ الله وَعْدَهُ}) / : قال البيضَاويُّ: أي: وعدَهُ إيَّاهُم بالنصرِ بشرطِ التقوى والصَّبر، وكان ذلك حين خالفَ الرُّماةُ، فإنَّ المشركين لما أقبلوا جعلَ الرُّماةُ يرشقُونهم بالنَّبلِ، والباقونَ يضرِبونُهم بالسَّيفِ حتى انهزمُوا والمسلمون على آثارهِم. انتهى.
          وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ: لما رجعَ النبيُّ صلعم وأصحَابُه مِن أُحُدٍ إلى المدينةِ قال قومٌ منهم: مِن أين أصابَنا هذا وقد وُعدْنا النَّصرَ؟ فنزلَتْ هذه الآيةُ، قال المفسِّرون: وعدَهُم اللهُ النَّصرَ بأُحُدٍ، فلمَّا طلبُوا الغنيمةَ هُزمُوا.
          قال في ((الفتح)): وأخرجَ الطبريُّ من طريقِ السُّدِّي وغيرِهِ أنَّ المرادَ بالوعدِ قولُه صلعم للرُّماةِ: ((إنَّكم ستظهرونَ عليهم فلا تبرَحُوا مِنْ مكانِكُم حتَّى آمرَكم)) ثمَّ قال: وأخرجَ من طريق السدِّي قال: قال النبيُّ صلعم للرُّماة: ((إنَّا لن نزالَ غالبين ما ثبتُّم مكانَكُم)).
          قال: وكانَ أولَ مَنْ برزَ طلحةُ بنُ عثمانَ فقُتلَ، ثم حَملَ المسلمونَ على المشركين فهزمُوهُم، وحملَ خالدُ بنُ الوليد وكان حينئذٍ في خيلِ المشركين على الرُّماةِ، فرمَوه بالنبلِ فانقمعَ، ثم تركَ الرماةُ مكانَهم ودخلوا العسكرَ في طلبِ الغنيمةِ، فصاحَ خالدٌ في خيلهِ فقتلَ مَنْ بقيَ مِن الرُّماة منهم أميرُهم عبدُ الله بنُ جبيرٍ، ولما رأى المشركون خيلَهُم ظاهرةً راجعُوا فشدُّوا على المسلمين فهزمُوهُم وأثخنُوا فيهم في القتل. انتهى.
          وقال قبلَ ذلك في تفسير {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}: السببُ في نزولها أنَّ المسلمين لما تراجعُوا إلى الشُّعبِ بعدَ تفرقِهم قالوا: ما فعل فلانٌ ما فعل فلانٌ؟ فنعى بعضُهم بعضاً، وتحدَّثوا بينهم أنَّ رسولَ الله قُتلَ فكانُوا في همٍّ وحزنٍ، فبينما هم كذلك إذْ علا خالدُ بنُ الوليد بخيلِ المشركين فوقهم، فثابَ نفرٌ من المسلمين رماةٌ، فصعدُوا فرموا خيلَ المشركين حتى هزمَهم اللهُ، وعلا المسلمون الجبلَ والتقُوا بالنبيِّ صلعم.
          ({إِذْ تَحُسُّونَهُمْ}): تستأصلونَهم قتلاً ({بِإِذْنِهِ}): قال في ((الفتح)): هذا تفسيرُ أبي عبيدةَ، وقال البيضَاويُّ: تقتُلونهم مِنْ حَسَّهُ: إذا أبطلَ حِسَّهُ ({حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ}): أي: جبنتُم وضعفَ رأيُكم أو ملتُم إلى الغنيمةِ فإنَّ الحرصَ مِن ضعفِ العقلِ، وحتَّى بمعنى إلى متعلقةٌ بمحذوفٍ نحو: دامَ لكم ذلك إلى وقتِ فشلِكُم، ويجوزُ جعلُها ابتدائيةً داخلةً على الجملةِ الشرطيَّة، وجوابُها محذوفٌ نحو: امتحنَكم.
          ({وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ}): أي: اختلاف الرُّماةِ حين انهزمَ المشركون فقال بعضهم: فما موقفُنا هاهنا؟ فأقبلوا على الغنيمة، وقال آخرون: لا نخالفُ أمرَ رسولِ الله فثبتَ مكانَه أميرُهم في نفرٍ أقل من العشرةِ، ونفرَ الباقونَ للنَّهب، وهو المرادُ بقولهِ تعالى: ({وَعَصَيْتُمْ}): أي: أمرَ الرسولِ ({مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}): أي: مِنَ الظفرِ والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ ({مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}): أي: الغنيمةَ، وهم التَّاركونُ للمكانِ الذي أمرَهُم النبيُّ بملازمتهِ ({وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}): وهم الذين ثبتُوا مع أميرِهم عبدِ الله بنِ جُبيرٍ حتى قُتلوا.
          (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ): فيه إشارةٌ إلى / كفِّ المسلمين عن المشركين بعدَ أنْ ظهروا عليهم (لِيَبْتَلِيَكُمْ): أي: بحصُولِ المصائبِ لكم وثباتكُم على الإيمانِ عندَها، ونقل السُّديُّ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ أنه قال: ما كنتُ أرى أَحداً مِن أصحابِ النبيِّ صلعم يريدُ الدنيا حتى نزلتْ هذه الآيةُ يوم أُحُدٍ.
          (وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ): أي: حيثُ ندمتُم على ما فرط منكم مِن عصيانِ أمرِ الرسولِ ◙ (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ): يتفضَّلُ عليهم بالعفوِ، وقال محمَّدُ بنُ إسحاقَ وابنُ جريرٍ؛ أي: حيث لم يستأصلْكُم بالقتلِ، وسقطَ لابنِ عسَاكرَ مِن قولهِ: <بإذنه...إلخ> وقال في روايةِ أبي ذرٍّ: <قتلاً بإذنه> إلى قولهِ: <والله ذو فضلٍ على المؤمنين>.
          (وَقَوْلِهِ تعالى: {وَلاَ تحْسبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الْآيَةَ): سقط قولُه: <الآية> لأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ، أخرج مسلمٌ من طريق مسروقٍ قال: سألنَا عبدَ الله بنَ مسعودٍ عن هؤلاء الآياتِ قال: إنَّا قد سَألنا عنها فقيلَ لنا: إنه لمَّا أُصيبَ إخوانُكم بأُحدٍ جعلَ اللهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خضرٍ تَرِدُ أنهارَ الجنَّة تأكلُ من ثمارِهَا. الحديث.
          قال البيضَاويُّ: نزلَتْ في شهداءِ أُحدٍ، وقيل: في شهداء بدرٍ، والخطابُ لرسولِ الله صلعم أو لكلِّ أَحَدٍ، وقرأَ هشامٌ بالتاء كالباقين، وبالياءِ على إسنادِه إلى ضمير الرسولِ، أو مَنْ يحسب، أو إلى {الَّذينَ قُتِلُوا}، والمفعولُ الأول محذوفٌ؛ لأنه في الأصل مبتدأٌ جائزُ الحذفِ عندَ القرينةِ، وقرأ ابنُ عامرٍ: <قُتِّلوا> بالتشديدِ؛ لكثرةِ المقتولين.
          وتتمةُ الآية: ({بلْ أحياءٌ}): أي: بل هم أحياءٌ، وقُرئ: <بل أحياءً> بالنصبِ على تقدير: بل أحسبُهم أحياءً ({عندَ ربِّهِمْ}): أي: ذووا زلفَى منه ({يُرزقونَ}): أي: من الجنَّةِ، وهذا تأكيدٌ لكونهم أحياءً.
          وروى أحمدُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه قال: لمَّا أُصِيبَ إخوانُنا بأُحُدٍ جعلَ الله أرواحَهُم بأجوافِ طيرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أنهارَ الجنَّة، وتأكلُ من ثمارها، وتأوِي إلى قنَاديلٍ من ذهبٍ معلَّقةٍ في ظلِّ العرشِ، فلمَّا وجدُوا طيبَ مأكلِهم ومَشْربهِم ومقتلِهم، قالوا: مَنْ يُبلِّغُ إخوانَنا عنَّا أنَّا في الجنة نُرزقُ لئلَّا يزهدوا عن القتالِ؟ فقال اللهُ تعالى: أنا أبلغُهم عنكم، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ.
          قال العينيُّ: وقيل: نزلَتْ في شهداءِ بئرِ معونةَ، وقيل غيرَ ذلك، قال: وروى أحمدُ من حديث ابنِ عبَّاسٍ أيضاً قال: قال رسولُ الله صلعم: ((الشُّهداءُ على بارقِ نهرٍ ببابِ الجنَّةِ في قبةٍ خضراءَ يخرجُ عليهم رزقُهم مِن الجنَّةِ بكرةً وعَشِيةً، قال: وقال ابنُ كثيرٍ في ((تفسيره)): وكان الشُّهداءُ أقسامٌ منهم مَنْ تسرحُ أرواحُهم في الجنَّة، ومنهم مَن يكونُ على هذا النَّهرِ ببابِ الجنَّةِ، ويُحتملُ أنْ ينتهيَ سيرُهم إلى هذا النهرِ فيجتمعونَ هناك، ويُغدَى عليهم برزقِهِم ويراحُ. انتهى فتأمَّله.