الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد}

          ░20▒ (بَاب): بالتنوينِ، ويُحتملُ تركُه ({إِذْ تُصْعِدُونَ}): وفي بعضِ النُّسخِ: <باب قولِ الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ}> وهذه الآيةُ في سورة آلِ عمرانَ.
          قال البيضاويُّ: الظرفُ متعلقٌ بـ{صَرَفَكُمْ} أو بـ{يَبْتَلِيَكُمْ} أو بمقدَّرٍ كاذكرْ، والإصعادُ: الذهابُ والإبعادُ في الأرض، يقال: أُصعِدْنا مِنْ مكةَ إلى المدينةِ. انتهى.
          وقرأ الحسنُ: <تَصعَدون> بفتح التاءِ والعينِ، يعني: في الجبل، قال الزمخشريُّ: ويعضُدُ القراءةَ الأولى قراءةُ أُبيٍّ: <إذْ تُصْعِدون في الوادي> وقرأ أبو حيوة <تَصعَّدون> بفتحِ التاء والعينِ المشدَّدة، مِنْ تصعَّدَ في السلم.
          ({وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}): أي: ولا تعرجونَ على غيركِم لانهزامِكُم، وأصلُه: مِنْ ليِّ العنقِ في الالتفَاتِ، ثمَّ استُعمِلَ في تركِ التَّعريجِ، وقال البيضَاويُّ: لا يقفْ أحدٌ لأحدٍ ولا ينتظرُه، وقال الكلبيُّ: المرادُ بأحدٍ محمدٌ صلعم، وقرأت عائشةُ ♦: <على أُحُدٍ> بضمِّ الهمزة والحاء، يعني: الجبلَ المعروفَ، وقرأ الحسنُ: <تلُون> بضمِّ اللام، منقولاً مِن ضمةِ واوِ الفعل، وواوٌ واحدةٌ ضميرٌ، وقال الزمخشريُّ: وقُرئ <يُصْعِدون> و<يَلْوُون> بالتحتيَّة فيهما.
          وجملةُ: ({وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ}): حاليةٌ؛ كقولِهِ ╕: ((إليَّ عبادَ اللهِ، أنا رسولُ الله، مَنْ يَكِرُّ فله الجنَّةُ)) و{أُخْرَاكُمْ}: ساقتِكُم وجماعتِكُم المتأخِّرةِ، قال في ((الكشاف)): يقال: جئتُ في آخرِ الناس وأُخراهُم؛ كما تقولُ: في أوَّلِهم وأولاهُم، بتـأويلِ مقدمتِهِم وجماعتِهِم المتأخِّرةِ.
          ({فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ}): قال البيضَاويُّ: عُطِفَ على حرفِكُم ({لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا مَا أَصَابَكُمْ}): فقوله: {فَأَثَابَكُمْ} والمعنى: فجَازاكُم اللهُ مِنْ فشلِكُم وعصيانِكُم غمًّا متصلاً بغمٍّ من الاغتمامِ بالقتلِ والجرحِ وظفرِ المشركين والإرجافِ بقتلِ الرسولِ، أو فجازاكُم غمًّا بسببِ غمٍّ أذقتموهُ رسولَ الله صلعم بعصيانكُم له؛ لتتمرَّنوا على الصَّبر في الشَّدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على نفعٍ فائتٍ، ولا على ضرٍّ لاحقٍ، وقيل: {لا} مزيدة، والمعنى: لتأسفُوا على ما فاتَكُم من الظَّفرِ والغنيمةِ، وعلى ما أصابَكُم من الجرحِ والهزيمةِ عقوبةً لكم.
          وقيل: الضَّمير في {فَأَثَابَكُم} للرسولِ؛ أي: فآساكُم من الاغتمامِ، فاغتمَّ بما أُنزل عليكُم كما اغتمَمْتُم بما نزلَ عليه، ولم يثرِّبْكُم على عصيانِكُم تسليةً لكم؛ لئلَّا تحزنُوا على ما فاتَكُم من النَّصرِ، ولا على ما أصابَكُم من الهزيمةِ.
          وقال البغويُّ: وقيل: الغمُّ الأول: إشرافُ خالدِ بنِ الوليد عليهم بخيلِ المشركين، والغمُّ الثاني: إشرافُ أبي سفيانَ عليهم؛ وذلك أنَّ رسولَ الله صلعم يومئذٍ يدعُو الناسَ حتى انتهى إلى أصحابِ الصَّخرةِ، فلمَّا رأَوه وضعَ رجلٌ منهم نبلَهُ في قوسهِ فأرادَ أنْ يرميَه، فقال: أنا رسولُ الله، ففرحُوا حين وجدوا رسولَ الله صلعم، وفرحَ النبيُّ صلعم حينَ رآهُم لمنعٍ بهم، فأقبلوا يذكرونَ الفتحَ وما فاتهُم منه، ويذكرونَ أصحَابَهم الذين قُتلوا، فأقبلَ أبو سفيانَ وأصحابُه حتى وقفَ ببابِ الشُّعبِ، فلمَّا نظرَ المسلمونَ إليهم أهمَّهم ذلك، فظنُّوا أنهم يميلونَ عليهم فيقتُلونهم / ، فأنسَاهُم ما نالهم، فقال رسولُ الله صلعم: ليسَ لهم أنْ يعلوا، اللهمَّ إنْ تُقتَلَ هذه العصَابةُ لا تعبدُ في الأرضِ، ثمَّ ندبَ أصحابَه فرمَوهُم بالحجَارة حتى أنزلوهُم، وقيل: إنهم غمُّوا الرسولَ صلعم لمخالفَةِ أمرِهِ، فجازاهُم اللهُ بذلك الغمِّ غمَّ القتلِ والهزيمةِ.
          وقال القفَّالُ: عندِي أنَّ اللهَ تعالى ما أرادَ بقوله: {غَمّاً بِغَمٍّ} اثنين، وإنما أرادَ مواصلةَ الغمومِ وطُولها؛ أي: أنَّ اللهَ تعالى عاقبَكُم بغمُومٍ كثيرةٍ مثل قتلِ إخوانِكُم وأقاربِكُم، ونزولِ المشركين عليكُم؛ بحيثُ لم تأمنوا أنْ يهلكَ أكثرُكم.
          ({واللَّهُ خَبِيرٌ}): أي: عالمٌ ({بِمَا تَعْمَلُونَ}): أي: لا يخفَى عليه شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماء مِنْ أعمالِكُم وأحوالكُم وغيرِهما.
          وقال في ((الفتح)): وروى عبدُ بنُ حميدٍ من طريقِ مجاهدٍ قال: كان الغمُّ الأولُ حين سمعُوا الصَّوتَ أنَّ محمداً قُتِلَ، والثاني: لمَّا انحازوا إلى النبيِّ صلعم وصعدُوا في الجبلِ فتذَاكروا قتلَ مَنْ قُتِلَ منهم فاغتمُّوا، وسقطَ لأبي ذرٍّ قولُه: <ولا تلوون...إلخ> وقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ} إلى: {بِمَا تَعْمَلُونَ} ووقعَ في بعض النُّسخِ: <باب قول الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} إلى قولِه: {بِمَا تَعْمَلُونَ}>.
          ({تُصْعِدُونَ}): بضمِّ التاء الفوقيَّة، وسكونِ الصَّاد المهملةِ، وكسرِ العين، مضارعُ أَصعدَ المزيدُ (تَذْهَبُونَ): بفتح الفوقيَّةِ والهاءِ (أَصْعَدَ): بقطع الهمزةِ (وَصَعِدَ): بحذفها، وكسر العينِ ويجوز في لغةٍ قليلةٍ فتحها خلافاً لمنْ أنكره (فَوْقَ الْبَيْتِ): أي: أو المنبرِ ونحوِ ذلك مِن كلِّ مرتفعٍ.
          قال في ((الفتح)): سقطَ هذا التفسيرُ للمستمليِّ، وكأنَّه يشيرُ إلى التَّفرقةِ بين الثُّلاثي والرُّباعِي، فالثَّلاثيُّ بمعنى: ارتفعَ، والرُّباعيُّ بمعنى: ذهبَ، وقال بعضُ أهلِ اللغة: أصعدَ إذا ابتدأ السيرَ. انتهى.
          وقال في ((المصباح)): صَعِدَ في السُّلَّمِ والدَّرجةِ يَصعَدُ، مِنْ باب تعِبَ، صعوداً، وصعدْتُ السطحَ وإليه، وصعَّدْتُ في الجبل بالتثقيلِ: إذا علوتُه، وصعدْتُ في الجبل، من باب تعِب لغة قليلةٌ، وصعَّدْتُ في الوادِي تصعيداً إذا انحدرتُ منه، وأصعدتُ من بلدِ كذا إلى بلدِ كذا إصعاداً: إذا سافرَ من بلدٍ سفلى إلى بلدٍ عُليا، وقال أبو عَمرٍو: أصعَدَ في البلادِ إصعاداً: إذا ذهبَ أينما توجَّهَ، وصعِدَ _بالكسر_ وأصعدَ إصعاداً: إذا ارتقَى شرفاً.
          وقال في ((القاموس)): صعِدَ في السلم، كسمِعَ صعوداً، وصعَّدَ في الجبلِ وعليه تصعيداً، ولم يسمعْ صعدَ فيه. انتهى فتأمله.