الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب غزوة الخندق

          ░29▒ (باب غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ): سقطَ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ، فغزوةُ مرفوعٌ، وسمِّيتْ بغزوة الخندقِ لحفرهِ فيها حولَ المدينة بأمرِهِ صلعم، وبإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ بعملهِ، كما ذكرَ ذلك أصحابُ المغازي منهم أبو معشرٍ قال: قال سلمانُ للنبيِّ صلعم: إنا كنَّا بفارسٍ إذا حوصرْنا خندقنا علينا، فأمرَ النبيُّ ◙ بحفرهِ حولَ المدينةِ، وحفر ╕ فيه بنفسِهِ ترغيباً للمسلمين، فسارَعوا إلى عملهِ حتى فرغُوا منه، قال ابنُ عقبةَ: أقامُوا في عمله قريباً من عشرين ليلةً، وقال الواقديُّ: أربعاً وعشرين، وقال النَّووي في ((الروضة)): خمسةَ عشرَ، وقال ابنُ القيِّم: شهراً.
          والخَنْدَقُ: بفتح الخاءِ المعجمة والدالِ المهملة، بينهما نونٌ ساكنةٌ أصليةٌ، معربُ كندة؛ أي: جورةٍ محفورةٍ.
          قال في ((القاموس)): الخَنْدَقُ كجَعْفرُ، حفير حول أسوارِ المدنِ، معرَّبٌ، ومحلة بجرجان، وبلدٌ ببابِ القاهرة، وحفير لسابورٍ ملك ببرية الكوفةِ. انتهى المراد منه.
          قال الطبريُّ والسُّهيليُّ: أولُ من حفرَ الخنادقَ بنو جهرِ بنِ أيرجٍ، وكان في زمنِ موسى ◙، وسببُ حفرهِ ما قاله ابنُ سعدٍ وغيرُه: لمَّا أَجْلى رسولُ الله صلعم بني النَّضيرِ سارُوا إلى خيبر، فخرجَ نفرٌ من أشرافِهِم إلى مكةَ، فألَّبُوا قريشاً ودعَوهُم إلى الخروجِ على رسولِ الله صلعم، وعاهدُوهُم على قتالِهِ، ثمَّ أتَوا غطفَانَ وبني سُليمٍ فجعلوا لغطفَانَ نصفَ تمرِ خيبرَ ففارقُوهُم على مثلِ ذلك، فتجمَّعتْ قريشٌ بمَنْ تبعهُم، وكانوا أربعةَآلافٍ يقودُهم أبو سفيانَ، ووافقَهُم بنو سليمٍ بمرِّ الظَّهران في سبعِمائةٍ يقودهم سفيانُ بنُ عبد شمسٍ، ومعهم بنو أسدٍ يقودهُم طليحةُ بنُ خويلدٍ، وخرجَتْ فزارةُ يقودهُم عيينةُ بنُ حصنٍ على ألفِ بعيرٍ، وخرجَتْ أشجعُ في أربعِمائةٍ يقودهُم مسعودُ بنُ رخيلة، وخرجتْ بنو مُرَّةَ في أربعِمائةٍ يقودهُم الحارثُ بنُ عوفٍ، فكان جميعُ مَن وافى الخندقَ منهم عشرةُ آلاف، وقيل: كانَ المشركون أربعةَ آلافٍ.
          وقال البيضاويُّ: كانوا زهاءَ اثني عشرَ ألفاً، وكبيرُ الجميعِ وأميرُهم أبو سفيانَ بنِ حربٍ، قال قتادةُ: وكانَ المسلمون ألفاً، وقال ابنُ إسحاقَ: ثلاثة الآفٍ.
          (وَهِيَ): أي: غزوةُ الخندقِ (الْأَحْزَابُ): بفتحِ الهمزةِ والزاي، وسكونِ الحاء المهملةِ، جمعُ حِزبٍ بكسرِ الحاءِ، الطَّائفة، ويُطلقُ على جندِ الرجلِ وأصحابهِ الذين على بابهِ؛ أي: تُسمَّى بالأحزابِ لاجتماعِ طوائفَ من المشركين فيها كمَا ذكرنا، وهي الَّتي أنزلَ اللهُ تعالى فيها من سورةِ الأحزابِ قولَه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] هي الملائكةُ.
          قال في ((الفتح)): ذكرَ موسى بنُ عقبةَ أنَّ مدَّةَ الحصَارِ كانت عشرين يوماً، ولم يكنْ بينهم قتالٌ إلا مُراماة بالنبلِ والحجارةِ، وأُصيب فيها سعدُ بنُ معاذٍ بسهمٍ، وكان سببَ موتِه كما سيأتي، قال: وذكر أهلُ المغازي سببَ رحيلِهِم، وأنَّ نعيمَ بنَ مسعودٍ الأشجعيَّ ألقَى بينهم الفتنةَ فاختلفُوا / ، وذلك بأمر النبيِّ صلعم له بذلك، ثم أرسلَ اللهُ عليهم الريحَ فتفرَّقوا، وكفى اللهُ المؤمنين القتالَ.
          وقال البيضاويُّ: رُوي أنَّه ◙ لمَّا سمعَ بإقبَالهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ، ثمَّ خرجَ إليهم في ثلاثة آلافٍ، والخندقُ بينه وبينهم، ومضَى على الفريقين قريبُ شهرٍ لا حربَ بينهم إلَّا الترامِي بالنَّبلِ والحجارةِ، حتى بعثَ اللهُ عليهم صباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأحصرَتْهُم وسفَّتِ الترابَ في وجوهِهم، وأطفأتْ نيرانَهم، وقلعَتْ خيامَهم، وماجَتِ الخيلُ بعضها في بعضٍ، وكبرت الملائكةُ في جوانبِ العكسرِ، فقال طليحةُ بنُ خويلد الأسدي: أمَّا محمَّدٌ فقد بدأَكُم بالسِّحر، فالنَّجاء النَّجاء، فانهزمُوا من غير قتالٍ.
          (قال مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ): بسكون القافِ (كَانَتْ): أي: غزوةُ الخندقِ المسمَّاةُ بالأحزاب أيضاً (فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ): أي: من الهجرةِ، وقال ابنُ إسحاقَ: كانت سنةَ خمسٍ، ولعلَّه جبرَ الكسرَ، قال في ((الفتح)): وبذلك جزمَ غيرُه من أهلِ المغازِي، ومالَ المصنِّفُ إلى قولِ ابنِ عقبةَ وقوَّاه بما أخرجَهُ أوَّل أحاديثَ البابِ، ثمَّ قال: وقد بيَّنَ البيهقيُّ سببَ هذا الاختلاف: وهو أنَّ جماعةً من السَّلفِ كانوا يعدُّون التَّاريخَ من المحرَّم الذي وقعَ بعد الهجرةِ، ويلقونَ الأشهرَ التي قبلَ ذلك إلى ربيعٍ الأوَّل، وعلى ذلك جرى يعقوبُ بنُ سفيانَ في ((تاريخه))، فذكر أنَّ غزوةَ بدرٍ الكبرى كانت في السَّنة الأولى، وأنَّ غزوةَ أُحُدٍ كانت في الثانية، وأنَّ الخندقَ كانت في الرابعة، وهذا صحيحٌ لكنه مخالفٌ لما عليه الجمهورُ من جعلِ التاريخِ من المحرم سنةَ الهجرةِ، وعلى ذلك تكون بدرٌ في الثانية، وأُحُدٌ في الثالثة، والخندقُ في الخامسةِ، وهو المعتمدُ. انتهى.
          وقال في ((التنقيح)): اعتذروا عن هذا الحديث بأنه محمولٌ على أنه كان يومَ أُحُدٍ ابن ثلاثةَ عشرةَ وأشهرٍ، فعبَّرَ عن ذلك بأربعَ عشرةَ، وكان في الخندق ابنَ خمسَ عشرةَ وأشهر، فعبَّرَ عنه بالخمسَ عشرةَ، وفي الحقيقة كان ابنَ ستةَ عشرَ.