الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم}

          ░21م▒ (بَابٌ) بالتنوين، سقطَ لفظُ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ، وثبتَتْ الآيةُ للجميعِ، وهي في سورةِ آلِ عمرانَ ({لَيْسَ لَكَ}): أي: يا محمَّدُ، أو كلُّ مَنْ يصلحُ له الخطابُ ({مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}): أي: اعتراضٌ برفعِ {شيء} اسمُ ليسَ مؤخراً، و(لكَ) خبرُه مقدَّمٌ، و(مِنَ الأمرِ) بيانٌ لشيءٍ.
          ({أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}): عطفَ كما قال البيضاويُّ على {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أو على {لِيَقْطَعَ} و{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} معترضَةٌ، والمعنى: أنَّ اللهَ مالكُ أمرِهم فإمَّا أنْ يهلكَهُم أو يهزمَهم، أو يتوبَ عليهم إنْ أسلمُوا ({أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}): أي: إنْ أصرُّوا على الكفرِ، فليسَ لك مِن أمرهِم شيءٌ، أو مِن التوبةِ عليهم، أو مِنْ تعذيبِهم شيءٌ، وإنما أنت منذرُ عبدٍ مأمورٍ مبعُوثٍ لإنذارهِم ومجاهدتهِم.
          ({فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}): أي: فيستحقُّونَ التَّعذيبَ، و(أو) بمعنى: إلا؛ أي: ليسَ لك مِنْ أمرِهِم شيءٌ إلا أنْ يتوبَ عليهم فتسرَّ به، أو يعذِّبَهم فتتشفَّ منهم، قال البغويُّ: واختُلِفَ في سببِ نزولِ هذه الآية فقال قومٌ: نزلَتْ في أهلِ بئرِ معونة، وهم سبعونَ رجلاً من القراء، بعثهُم رسولُ الله إلى بئرِ معونةَ في صفر سنةَ أربعٍ من الهجرة، بعد أربعةِ أشهرٍ مِنْ أُحُدٍ ليُعلِّموا الناسَ القرآنَ والعلمَ، فتعرَّضَ لهم عامرُ بنُ الطُّفيلِ فقتلهم، فوجدَ عليهم رسولُ الله وقنتَ في الصَّلاة شهراً يدعو على قاتليهِم باللَّعنِ والسنين.
          وقال قومٌ: نزلتْ يوم أُحُدٍ لما روى مسلمٌ عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله كُسِرَتْ رباعيتُه يوم أُحُدٍ، وشُجَّ في رأسهِ، فجعلَ يسلتُ الدمَ عن وجههِ ويقول: ((كيف يفلحُ قومٌ شجُّوا نبيَهم وكسروا رباعيتَه وهو يدعو عليهم)) وقيل: همَّ أنْ يدعوَ عليهم بالاستئصَالِ، وقيل: لما رأى رسولُ الله ما فُعِلَ بأصحابهِ يوم أُحُدٍ من التَّمثيلِ بهم قال: ((لئن أنالنا اللهُ منهم لنفعلنَّ مثلَ ما فعلوا)) فأنزلَ اللهُ الآيةَ. انتهى ملخصاً.
          وقال في ((الفتح)): ذَكَرَ في البابِ شيئين، ويحتملُ أنْ تكونَ نزلَتْ / في الأمرين جميعاً فإنَّهما كانا في قصَّةٍ واحدةٍ، وقال العينيُّ: وقيل: سببُ نزولها أنَّه ◙ لعنَ قوماً من المنافقين، وقيل: لأنَّه ◙ سبَّ الذين انهزمُوا يوم أُحُدٍ وكان فيهم عثمانُ بنُ عفَّانَ، وقد عفَا الله عنهم، وقال في ((اللباب)): أكثرُ العلماء متَّفقونَ على أنَّها نزلَتْ في قصَّة أُحُدٍ، وقال القفَّالُ: وكلُّ هذه الأشياء حصلَتْ يوم أُحُدٍ فنزلَتْ الآيةُ عندَ الكلِّ. انتهى فليتأمَّل.
          وبالسند إلى المصنِّف قال:
          (قَالَ حُمَيْدٌ): أي: الطَّويلُ ممَّا وصلَه أحمدُ والترمذيُّ والنَّسائيُّ (وَثَابِتٌ): بالمثلثةِ أولُه والفوقيَّة آخره؛ أي: البناني ممَّا وصله مسلمٌ (عَنْ أَنَسٍ): أي: ابنِ مالكٍ، قال: (شُجَّ): بالشين المعجمةِ وتشديد الجيمِ، مبنيٌّ للمفعول (النَّبِيُّ): أي: وجهُهُ الشريفُ أو رأسُه (يَوْمَ أُحُدٍ): أي: في وقعتها (فَقَالَ): أي: النبيُّ (كَيْفَ يُفْلِحُ): بضمِّ التحتيَّةِ، وسكونِ الفاء، وكسرِ اللام (قَوْمٌ شَجُّوا): بتشديدِ الجيمِ (نَبِيَّهُمْ): أي: وهو يدعوهُم إلى الله تعالى (فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}): أي: هذه الآيةُ، ورواهُ ابنُ إسحاقَ عن أنسٍ بلفظ: كُسِرَتْ رباعيةُ النبيِّ يوم أُحُدٍ، وشُجَّ وجهُه، فجعل الدمُ يسيلُ على وجههِ، وجعلَ يمسحُ الدَّمَ وهو يقول: ((كيف يفلحُ قومٌ خضبُوا وجهَ نبيَّهم وهو يدعوهُم إلى ربِّهم؟)) فأنزلَ اللهُ الآيةَ.