الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان}

          ░19▒ (بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): أي: في سُورة آلِ عمران، سقطَ هذا كلُّه لأبي ذرٍّ، كذا في القسطلانيِّ كشيخِ الإسلامِ، فيكون الثَّابتُ له الآيةَ فقط، والأنسَبُ ثبوتُ الجميعِ، كما هو روايةُ غيرِه، ولفظُ الآية: ({إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}): هما جمعُ النبيِّ صلعم وأصحابُه وجمعُ أبي سفيانَ وبقيَّةُ قريشٍ الكفَّارُ، للقتالِ يوم أُحدٍ ({إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ}): أي: دعاهُم إلى الزلَّةِ؛ أي: المعصية ({بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}): بتركِ الرُّماةِ الموضعَ الذي عيَّنه لهم النبيُّ صلعم وأنْ لا يُفارقُوه، وذهابِهم للغنيمةِ.
          قال في ((الفتح)): اتَّفقَ أهلُ العلم بالنقلِ على أنَّ المرادَ به هنا يومُ أُحُدٍ، وغفلَ مَن قال: يوم بدرٍ؛ لأنَّه لم يول فيها أَحدٌ من المسلمين، نعم المرادُ بقولهِ تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41] يوم بدرٍ، ولا يلزمُ أنْ يكونَ حيث التقَى الجمعان يومَ بدرٍ. انتهى فـتأمَّله.
          وقال البيضاويُّ: يعني: إنَّ الذين انهزمُوا يومَ أُحُدٍ إنما كان السَّببُ في انهزامِهِم أنَّ الشَّيطانَ طلب منهم الزَّللَ فأطاعُوه واقترفوا ذنُوباً بتركِ المركز / والحرصِ على الغنيمةِ، أو الحياةِ لمخَالفةِ النبيِّ، فمُنعُوا التأييدَ وقوةَ القلبِ، وقيل: استزلالُ الشَّيطان تولِّيهم؛ وذلك بسببِ ذنوبٍ تقدَّمَتْ لهم فإنَّ المعاصِي يجرُّ بعضُها بعضاً كالطَّاعة، وقيل: استزلَّهم بذكرِ ذنوبٍ سلفَتْ منهم، وكرهُوا القتلَ قبلَ إخلاصِ التوبةِ والخروجِ من المظلمةِ. انتهى.
          وقال ابنُ التينِ: يقال: إنَّ الشَّيطانَ ذكَّرهم خطايَاهُم فكرِهُوا القتلَ قبلَ التَّوبةِ، ولم يكرهُوه معَاندةً ولا نفَاقاً، فعفَا الله عنهم.
          قال في ((الفتح)): ولم يتعيَّنْ ما قال فيحتملُ أن يكونُوا فروا جبناً ومحبَّةً في الحياةِ فتَابوا.
          ({وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}): أي: تجاوزَ عن ذُنوبهم لتوبتِهِم واعتذَارهِم، ثم علَّلَ ذلك بقوله: ({إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ}): أي: للذُّنوبِ ستارٌ للعيوبِ ({حَلِيمٌ}): لا يعاجلُ بعقوبةِ الذنبِ لعلَّه يتوبُ فيقبل توبَته {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25].
          تنبيه: قال في ((الفتح)): في قوله: ((انهزمَ الناسُ)) في الحديثِ العاشرِ السَّابق؛ أي: انهزمَ بعضُهم، أو أطلقَ ذلك باعتبارِ تفرقِهم، قال: والواقعُ أنهم صَاروا ثلاثَ فرقٍ:
          فرقةٌ استمرُّوا في الهزيمةِ إلى المدينةِ، فما رجعُوا حتى انفضَّ القتالُ وهم قليلٌ، وهم الَّذين نزلَ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران:155].
          وفرقةٌ صَاروا حيارَى لما سمعُوا أنَّ النبيَّ صلعم قُتلَ فصَار غايةُ الواحدِ منهم أنْ يذبَّ عن نفسهِ، أو يستمرَّ على بصيرتهِ في القتالِ إلى أنْ يُقتَلَ، وهم أكثرُ الصَّحابةِ.
          وفرقةٌ ثبتَتْ معَ النبيِّ صلعم، ثمَّ تراجعَ إليه القسمُ الثاني شيئاً فشيئاً لمَّا عرفُوا أنه حيٌّ كما مرَّ، قال: وبهذا يُجمعُ بين مختلفَ الأخبار في عدَّةِ مَن بقيَ مع النبيِّ صلعم، فعندَ محمَّدِ بنِ عائدٍ مِن مرسلِ المطلبِ بنِ حنطَبٍ: لم يبقَ معه سوى اثني عشرَ رجلاً، وعندَ ابنِ سعدٍ: ثبتَ معه سبعةٌ مِنَ الأنصَار وسبعةٌ مِنْ قريشٍ، وفي مسلمٍ: سبعةٌ من الأنصار ورجلين من قريشٍ: طلحة وسعد، وسردَ أسماءَهم الواقديُّ، وفي الطبريِّ أنَّه ◙ اجتمعَ إليه ثلاثون رجلاً.