الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب غزوة الفتح وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة

          ░46▒ (بَابُ غَزْوَةِ الفَتْحِ) / أي: فتح مكَّةَ شرَّفَها الله تعالى، وهو المرادُ من قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] على أشهَرِ الأقوالِ، وكذا المرادُ من قولِهِ تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة:29] على أحدِ قولين أيضاً، وسقطَ لفظ: <باب> وحده لأبي ذَرٍّ وابنِ عساكرَ.
          وقال في ((الفتح)): وسقطَ لفظ: <باب> من نسخةِ الصَّغَّاني، قال: وكان سببُ ذلك أنَّ قريشاً نقضوا العهدَ الذي وقعَ بالحديبيةِ، وبلغَ ذلك النَّبيَّ صلعم فغزاهم، قال ابنُ إسحاق: حدَّثني الزُّهريُّ عن عروة عن المسورِ بن مخرمةَ قال: كان في الشَّرطِ من أحبَّ أن يدخُلَ في عقدِ رسولِ الله ◙ وعهدِهِ فليدخل، ومن أحبَّ أن يدخل في عقدِ قريش وعهدِهِم فليدخُلْ، فدخلَ بنو بكرٍ؛ أي: ابن عبد مناةَ بن كنانة في عهدِ قريشٍ، ودخلت خزاعةُ في عهد رسولِ الله صلعم، وكان بين بني بكرٍ وخزاعة حروبٌ وقتلى في الجاهليَّةِ، فتشاغلوا عن ذلك لمَّا ظهر الإسلامُ، فلمَّا كانت الهدنةُ خرجَ نوفلُ بن معاويةَ الدَّيلي من بني بكرٍ في بني الدِّيل حتى بيَّتَ خزاعة على ماءٍ لهم يقالُ له: الوتير، فأصابَ منهم رجلاً يقال له: منبِّه، واستيقظت لهم خزاعةُ فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحَرَمَ، ولم يتركوا القتالَ، وأمدَّتْ قريشٌ بني بكر بالسِّلاحِ، وقاتل بعضهم بعضاً ليلاً في خفيةٍ، فلما انقضت الحربُ خرج عَمرو بن سالم الخزاعيُّ؛ أي: في أربعين راكباً من خُزاعةَ حتى قَدِمَ على رسولِ الله ◙، وهو جالسٌ في المسجدِ فقال:
يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداً                     حِلْفَ أَبِيْنَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّدَا                     وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَداً
إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا                     وَنَقَضُوا مِيْثَاقَكَ المُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بالوَتِيْرِ هُجَّداً                     وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّداً
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَداً                     وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَداً
          فقال له رسُولُ الله صلعم: ((نُصِرْتَ يا عَمْرُو بن سالمٍ)) وكان ذلك مما هاجَ فتح مكَّةَ، وأخرجهُ الطَّبرانيُّ أيضاً من حديثِ ميمونةَ بنتِ الحارث مطولاً، وفيه: سمعتُ رسولَ الله صلعم يقولُ ليلاً، وهو في متوضَّأتهِ: ((نُصِرتَ نُصِرتَ)) فسألتُهُ، فقال: ((هذا راجِزُ بني كَعبٍ يستَصرِخُنِي)) وزعم أنَّ قريشاً أعانَتْ عليهم بني بكرٍ، قالت: فأقمنا ثلاثاً، ثمَّ صلَّى الصُّبحَ بالنَّاسِ، ثمَّ سمعْتُ الراجز ينشدُهُ.
          وقوله: (وَمَا بَعَثَ بِهِ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ) معطوفٌ على: ((غزوة)) بتقدير مضافٍ؛ أي: وبيانُ الذي... إلخ، ويصحُّ جعل: ((ما)) نكرةً موصوفةً أو مصدريَّةً، قال في ((الفتح)): وسقطَ لفظُ: ((به)) من بعضِ النُّسخِ؛ أي: بعزمِ النَّبيِّ صلعم على المسيرِ (إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمْ بِغَزْوِ النَّبِيِّ صلعم) أي: لهم أو إيَّاهم، وثبت في بعض النُّسخِ، و((حاطِب)) بالحاء وكسر الطاء المهملتين، و((بَلْتَعة)) بفتح الموحدة والفوقية بينهما لام ساكنة، وقيل: آخره عينٌ مهملة، واسمه: عَمرو بن عُميرٍ سلمة اللخميُّ، شهد بدراً، ومات سنة ثلاثين بالمدينة، وهو ابنُ ثنتين وستين سنة، وصلَّى عليه عثمانُ بن عفان / ☺، وبعثَهُ النبيُّ ◙ بكتابٍ إلى المقوقسِ في المحرَّمِ سنة ستٍّ بعد الحديبية، فأقام عنده خمسَةَ أيَّام، ورجع بهديةٍ، منها ماريا أمُّ إبراهيم، وأختها سيرين.
          ثمَّ بعثَهُ الصِّدِّيق أيضاً إلى المقوقسِ فصالحهم إلى أن دخلَ عَمرو بن العاص فنقضَ الصلحَ وقاتلهم وافتتح مصرَ سنة عشرين، وكان حاطبُ تاجراً يبيع الطعامَ، ولما مات خلَّفَ أربعة آلاف دينار ودراهم، وغير ذلك، وروى حاطبٌ عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: ((من رآنِي بعد موتِي، فكأنَّما رَآنِي في حيَاتِي، ومن ماتَ في أحدِ الحَرَمين بُعِثَ في الآمنينَ يوم القيامةِ)).
          وصورةُ الكتابِ كما في ((الفتح)) و((العمدة)): أما بعدُ، يا معشرَ قريشٍ فإنَّ رسولَ الله صلعم جاءكم بجيشٍ كالليل يسيرُ كالسَّيلِ، فوالله لو جاءَكُم وحدَهُ نصره اللهُ عليكم، وأنجزَ له وعدَهُ، فانظروا لأنفسِكُم، والسَّلامُ، وزاد في ((الفتح)): ورواهُ الواقديُّ بسندٍ مرسلٍ بلفظ: إنَّ رسولَ الله أذَّنَ في الناس بالغزوِ، ولا أُراه يريدُ غيرَكُم، وقد أحببْتُ أن يكون لي عندكم يدٌ.
          وفي ((الفتح)) نقلاً عن ابن إسحاقَ: قال عروةُ: لما أجمعَ رسُولُ الله صلعم المسيرَ إلى مكة كتبَ حاطبُ بن أبي بلتعةَ إلى قريشٍ يخبرهم بذلك، ثم أعطاه امرأةً من مزينةَ، وقال: وفي مرسلِ أبي سلمةَ عند ابنِ أبي شيبةَ: ثمَّ قال النَّبيُّ صلعم لعائشةَ: ((جهِّزينِي ولا تُعلِمِي بذلك أحداً)) فدخل عليها أبو بكرٍ فأنكرَ بعض شأنها، فقال: ما هذا؟ فذكرتْ له، فقال: واللهِ ما انقضَتِ الهدنةُ بيننا، فذكر ذلك للنَّبيِّ صلعم فذكر له أنَّهم أوَّلُ من غدرَ ثمَّ أمرَ بالطَّرقِ فحبست، فعميَ على أهلِ مكَّةَ لا يأتيهم خبر.