الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب غزوة ذات الرقاع

          ░31▒ (بَابُ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ): سقطَ لفظُ: <باب> وحدَهُ لأبي ذَرٍّ، فـ((غزوة)) مرفوعٌ خبر لمحذوفٍ كـ((باب))، و((الرِّقاع)) بكسر الراء وتخفيف القاف فألف فعينٌ مهملة، وسيأتي وجهُ تسميتها غزوةً بذلك (وَهِيَ): أي: غزوةُ ذات الرِّقاعِ (غَزْوَةُ مُحَارِبِ خَصَفَةَ): بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء والتاء، علمٌ لـ((محارب)).
          قال في ((الفتح)): كذا فيه، وهو متابِعٌ لروايةٍ مذكورةٍ في أواخرِ الباب، وأضافَ: ((مُحارِب)) بضم الميم وكسر الراء إلى: ((خصفة))؛ أي: ابن قيسِ بن غيلان بن إلياسَ بن مضر، احترازاً عن محارب غير خصفةَ؛ لأنَّ محارباً في العربِ جماعةٌ: منهم محاربُ بن فهر بن مالكِ بن النَّضرِ بن كنانةَ بن خزيمةَ بن مدركةَ بن إلياسَ بن مضر، وهم بطنٌ من قريشٍ منهم حبيبُ بن سلمة.
          قال في ((الفتح)): ولم يحرِّرِ الكرمانيُّ هذا الموضعَ فإنَّهُ قال: محارب: قبيلةٌ من فهر، انتهى.
          وليس كذلك؛ لأنَّ محارب هذا لا يُنسبُ إلى فهر، بل إلى خصَفَة.
          وقوله: (مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ): بفتحِ المثلثة وسكونِ العين المهملةِ وفتحِ اللام، حالٌ من خَصَفة، وقوله: (مِنْ غَطَفَانَ): بفتحِ الغين المعجمةِ والطاء المهملةِ، حالٌ من سابقِهِ، وهو يقتضِي كما في ((الفتح)): أنَّ ثعلبة جدٌّ لمحاربٍ، قال: وليسَ كذلك، ووقعَ في روايةِ القابسِيِّ: خصَفَة بن ثعلبَةَ، قال: وهو أشدُّ في الوهمِ، والصَّوابُ ما وقع عندَ ابن إسحاقَ وغيرِهِ، وبني ثعلبةَ بواو العطف، فإنَّ غطفانَ هو ابنُ سعدِ بن قيس بن غيلانَ، فمحاربٌ وغطفانُ ابنا عمٍّ فكيف يكونُ الأعلى مَنسُوباً للأدنى.
          وسيأتي في البابِ من حديثِ جابرٍ على الصَّوابِ، ووقعَ في بعض النُّسخِ: <ابن غطفان> بدل: ((من غطفان)).
          قال في ((الفتح)): وفيه نظرٌ أيضاً، قال: والأولى ما عندَ ابن إسحاقَ وبني ثعلبةَ من غطفانَ، ثمَّ قال: وليسَ في جميعِ العربِ من يُنسَبُ لبني ثعلبةَ إلا هؤلاء، وفي بني أسد بنو ثعلبة بن ذروانَ بن أسدِ بن خزيمة، وهم قليلٌ، انتهى ما في ((الفتح)) / مفرَّقاً ملخَّصاً فتأمَّلهُ.
          (فَنَزَلَ): بفتحات؛ أي: النَّبيُّ صلعم، والفاءُ عاطفةٌ على مقدَّر (نَخْلًا): بفتح النون وسكون الخاء المعجمة، هو مكانٌ من المدينةِ على يومين منها بوادٍ يقالُ له: شَدْخٌ بفتح الشين وبالخاء المعجمة بينهما دالٌ مهملة ساكنة، وفي ذلك الوادِي طوائِفُ من قيس من بني فزارةَ وأشجَعْ وأنمار.
          تنبيه: ما ذكرَهُ المصنِّفُ من أنَّ غزوةَ ذات الرِّقاع هي غزوةُ محارب، هو ما عليه جمهورُ أهلِ المغازي، وجزمَ به ابنُ إسحاقَ وخالفَ فيه الواقديُّ فجعلهما غير، وتبعَهُ على ذلك القطبُ الحلبيُّ في ((شرح السيرة)) قالهُ في ((الفتح)).
          وأقولُ: لعلَّ الأولى اعتمادُ ما ذهبَ إليه الجمهورُ كالبُخاريِّ، فإنَّ الواقديَّ ضعِيفٌ.
          (وَهِيَ): أي: غزوةُ ذات الرِّقاع (بَعْدَ خَيْبَرَ): بفتح الخاء المعجمة؛ أي: بعد وقعَتِها (لِأَنَّ أَبَا مُوسَى): أي: الأشعريَّ (جَاءَ): أي: من الحبشَةِ سنةَ سبعٍ (بَعْدَ خَيْبَرَ): أي: وقد ثبُتَ أنَّهُ شهد غزوةَ ذاتِ الرِّقاع، فلزم أنَّهَا كانت بعد غزوة خيبرَ.
          قال في ((الفتح)): وهذا الاستدلالُ من المصنِّفِ صحيحٌ، وإن قال الحافظُ الدمياطيُّ: حديثُ أبي موسى مشكلٌ مع صحَّتِهِ، قال: وما ذهب أحدٌ من أهلِ السِّيرِ إلى أنَّها بعد خيبر، نعم في ((شرحِ مغلطاي)): أن أبا معشر قال: إنَّها كانت بعدَ الخندقِ وقريظةَ، قال: وهو من المعتَمدينَ في السِّيَرِ، وهو موافِقٌ لما نقلهُ المصنِّفُ عن أبي موسَى، فما في ((الصَّحيحِ)) أولى بالاعتمَادِ.
          قال في ((الفتح)): وقد ازدادَ قوَّةً بحديثِ أبي هريرةَ، وبحديثِ ابن عمرَ كما سيأتي، وقال أيضاً: وقد قيلَ إنَّ الغزوةَ التي شهدَهَا أبو موسى وسمِّيَتْ ذات الرِّقاعِ غيرُ غزوة ذات الرِّقاع التي وقعَتْ فيها صلاةُ الخوفِ؛ لأنَّ أبا موسى قال في روايتِهِ: إنَّهُم كانوا ستَّةَ أنفسٍ، والغزوةُ التي وقعت فيها صلاةُ الخوفِ كان المسلمونَ فيها أضعافَ ذلك.
          قال: والجوابُ عن ذلك أنَّ العَددَ الذي ذكرهُ أبو موسى محمُولٌ على من كانَ موافقاً له من الرَّامَّة لا أنَّهُ أرادَ جميعَ من كان فيها مع النَّبيِّ صلعم، واستدلَّ على التَّعدُّدِ أيضاً بقولِ أبي موسى: إنَّها سُمِّيت ذاتَ الرِّقاع لِمَا لفُّوا في أرجلهم من الخِرَق، وأهل المغازي ذكرُوا في تسمِيَتها بذاتِ الرِّقاعِ أموراً.
          ومنه قوله: وبالجملةِ فقد اتَّفقُوا على غيرِ السَّبب الذي ذكرَهُ أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعاً من اتِّحادِ الواقعةِ، قال: ورجَّحَ السُّهيليُّ السَّببَ الذي ذكرَهُ أبو موسى، وكذا النُّوويُّ، ثمَّ قال: ومما يدلُّ على التَّعدُّدِ أنَّهُ لم يتعرَّض أبو موسى في حديثِهِ إلى أنَّهُم صَلُّوا صلاةَ الخوف، ولا أنَّهُم لقوا عدواً، وإن كان لا يدلُّ ذلك على عدمِ الوُقُوع، انتهى ملخَّصاً فتأمَّلهُ.
          تنبيهٌ: اختلف كما في ((الفتح)): في غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ متى كانت؟ فعند ابنِ إسحاقَ: أنَّها كانت بعد بني النَّضيرِ وقبل الخندقِ سنةَ أربعَ، وقال ابنُ سعدٍ وابنُ حبَّان: كانت في المحرَّمِ / سنة خمس، وجزمَ أبو معشر: بأنَّها كانت بعد بني قريظةَ والخندق، وهو موافقٌ لصُنعِ المصنِّفِ.
          وتقدَّمَ أنَّ غزوةَ بني قُريظةَ كانت في ذِي القعدةِ سنة خمسٍ، فتكون ذات الرِّقاع في آخرِ السَّنةِ، أو أوَّل التي تليها، وقال في ((الفتح)): والذي ينبغِي الجَزمُ به أنَّها بعد غزَاتِها.