شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء}

          ░31▒ بَابُ فِي الْمَشِيئَةِ وَالإِرَادَةِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}[آل عِمْرَان:26]، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الإنسان:30]، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الكهف:23-24]{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. قَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ(1): نَزَلَتْ في أبي طَالِبٍ.
          معنى هذا الباب إثبات المشيئة والإرادة لله ╡، وأنَّ مشيئتَه وإرادتَه ورحمتَه وغضبَه وسخطَه وكراهتَه(2) كلُّ ذلك بمعنًى واحد أسماء مترادفة هي راجعة كلُّها إلى معنى الإرادة، كما يسمَّى الشَّيء الواحد بأسماء كثيرة، وإرادتُه تعالى(3) صفة مِن صفات ذاتِه خلافًا لمَن يقول مِن المعتزلة أنَّها مخلوقة مِن أوصاف أفعالِه، وقولُهم فاسد لأنَّهم إذا أثبتوه تعالى مريدًا وزعموا أنَّ إرادتَه محدَثة لم تخل مِن أن يحدِثها في نفسِه أو في غيرِه، أو لا في نفسِه ولا في غيرِه، وهذا الَّذي ذهبوا إليه، فيستحيل إحداثُه لها في نفسِه؛ لأنَّه لو أحدثَها في نفسِه لم يخل منها ومِن ضدِّها على سبيل التَّعاقب، ولا يجوز تعاقب الحوادث على الله تعالى لقيام الدَّليل على قدمِه قبلَها، ويستحيل أن يحدِثَها في غيرِه لأنَّه لو أحدثَها في غيرِه لوجب أن يكون ذلك الغير مريدًا بها دونَه تعالى، وبطل(4) كونه تعالى مريدًا بإرادة أحدثَها في غيرِه كما يبطل كونُه عالمًا بعلم يحدثُه فيه، أو قادرًا بقدرة يحدثُها فيه لأنَّ قياس ذلك كلُّه واحد، ومِن شرط المريد وحقيقتِه أن تكون الإرادة موجودةً فيه دون مَن سواه، ويستحيل إحداثُه لها لا في نفسِه ولا في غيرِه لأنَّ ذلك يوجب قيامَها بنفسِها واحتمالَها للصِّفات وأضدادِها، ولو صحَّ ذلك لم تكن إرادتُه له أولى أن تكون لغيرِه، وإذا فسدت هذه الأقسام الثَّلاث ثبت كون(5) الإرادة قديمةً قائمةً به ╡ لأجل قيامِها به وصحَّ كونُه مريدًا، ووجب تعلُّقها بكلِّ ما يصحُّ كونُه مرادًا له تعالى، وهذه المسألة مبنيَّة على صحَّة القول بكونِه تعالى خالقًا لأفعال العباد، وأنَّهم لا يفعلون إلَّا ما يشاء، وقد دلَّ الله على ذلك بقولِه تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الإنسان:30]، وما تلاه مِن الآيات، وبقولِه: {وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:253]فنصَّ الله تعالى على أنَّه لو شاء الله(6) أن لا يقتتلوا لما اقتتلوا، فدلَّ أنَّه تعالى شاء ما شاؤوه مِن اقتتالِهم، وأنَّه لو لم يشأ اقتتالَهم لم يشاؤوه ولا كان موجودًا، ثم أكَّد ذلك بقولِه تعالى: {وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أنَّه فعل اقتتالَهم الواقع منهم لكونه شائيًا له، وإذا كان شائيًا لاقتتالِهم وفاعلًا له وجب كونه شائيًا لمشيئتِهم وفاعلًا لها، فثبت بهذه الآية أنَّه لا كسب للعباد طاعة أومعصية(7) إلَّا وهو فعل له ومراد له ╡، وإن لم يردْه منهم لم يصحَّ وقوعُه، وما أراده منهم فواجب وقوعهُ، إذ هو المتولِّي إيجادَه والمُقْدِر لخلقِه على اكتسابِه، بخلاف قول القدريَّة أنَّه مريد للطَّاعة مِن عباده وغير مريد للمعصية، وقد بان بهذا فساد قولِهم مِن(8) أنَّ أفعال العباد خلق لله تعالى في هذا الباب وغيرِه.
          بَابُ: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]
          فيه: أَنَسٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا دَعَوْتُمُ اللهَ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنْ شِئْتَ أَعْطِنِي(9)، فَإِنَّ اللهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ). [خ¦7464]
          وفيه: عَلِيٌّ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ ابِنْتَه، فَقَالَ لَهُما: أَلَا تُصَلُّونَ؟ قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلتُ(10): يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّما أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا) الحديث. [خ¦7465]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتِ اعْتَدَلَتْ، وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِر كَالأَرْزَةِ صَمَّاءًُ مُعْتَدِلَةًٌ حَتَّى يَقْصِمَهَا اللهُ إِذَا شَاءَ). [خ¦7466]
          وفيه: ابنُ عُمَرَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إنَّما بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ، كَمَا بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) وذكر الحديث إلى قولِه: (فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ). [خ¦7467]
          وفيه: عُبَادَةُ، قَالَ: (بَايَعْتُ النَّبيَّ صلعم فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلا تَقْتُلُوا(11)، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ على اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ فَذَلِكَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ). [خ¦7468]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً، فَقَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِي، فَلْتَحْمِلْنَ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، وَلْتَلِدْنَ(12) فَارِسًا يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ، فَطَافَ على نِسَائِهِ، فَمَا وَلَدَتْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ شِقَّ غُلامٍ، قَالَ نَبِيُّ اللهِ: (ولَو اسْتَثْنَى لَحَمَلَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ، فَوَلَدَتْ فَارِسًا يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللهِ). [خ¦7469]
          وفيه ابنُ عبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ) الحديث.
          وفيه: أَبُو قَتَادَةَ (حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاةِ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ) الحديث. [خ¦7471]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ... وذكر الحديث إلى قول النَّبيِّ صلعم: لَا تُخَيِّرُونِي على مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ). [خ¦7472]
          وفيه: أَنَسٌ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ، فَيَجِدُ الْمَلائِكَةَ يَحْرُسُونَهَا، فَلا يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلَا الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللهُ). [خ¦7473]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيدُ إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ أَخْتَبِئ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ). [خ¦7474]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي على قَلِيبٍ، فَنَزَعْتُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَنْزِعَ) الحديث. [خ¦7475]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (كَانَ النَّبيُّ صلعم إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ، أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ، قَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ولَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ). [خ¦7476]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ حَدَّثَهُ بِحَدِيثِ الخَضِرِ مَعَ مُوسَى... إلى قولِهِ: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}[الكهف:63]الحديث. [خ¦7477]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (نَنْزِلُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ، يُرِيدُ الْمُحَصَّبَ). [خ¦7479]
          وفيه: عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ: (حَاصَرَ النَّبيُّ صلعم أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَفْتَحْهَا، فَقَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللهُ) وذكر الحديث. [خ¦7480]
          معنى هذا الباب كمعنى الَّذي قبلَه في إثبات الإرادة لله تعالى والمشيئة، وأنَّ العباد لا يريدون شيئًا إلَّا وقد سبقت إرادة الله تعالى له، وأنَّه خالق لأعمالِهم: طاعة كانت أو معصية، وأمَّا تعلُّقهم بقولِه تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]في أنَّه لا يرد المعصية فليس على العموم، وإنَّما هو خاص فيمَن ذكر، ولم يكلِّفْه ما لا يطيق.
          قيل: هذا مِن المؤمنين(13) المفترض عليهم الصِّيام، ومَن هداه الله ╡ إلى دينِه فقد يسَّره وأراد به اليُسر، فكأنَّ المعنى: يريد الله بكم اليسر الَّذي هو التخيير بين صومكم في السَّفر وإفطاركم فيه بشرط قضاء ما أفطرتموه مِن أيام أخر، ولا يريد بكم العسر الَّذي هو إلزامكم الصَّوم في السَّفر على كلِّ حال، فبان مِن نفس الآية أنَّ الله تعالى رفع هذا العسر عنا ولم يرد وقوعَه بنا، إذ لم يلزمنا الصِّيام في السَّفر على كلِّ حال، ورحمةً منه ورأفةً بنا، فسقط تعلُّقهم بالآية، وكذلك تأويل قولِه تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7]هو على الخصوص في المؤمنين الَّذين أراد منهم الإيمان، فكان ما أراده مِن ذلك، ولم يرد منهم الكفر فلم يكن، فلا تعلُّق لهم في هذه الآية أيضًا.
          فإن قيل: قد تقدَّم مِن قولكم أنَّ الله تعالى خالق لأعمال العباد، فما وجه إضافة فتى موسى ♂ نسيان الحوت إلى نفسِه مرةً، وإلى الشَّيطان أخرى.
          فالجواب: أنَّ فتى موسى نبي وخادم نبي، وقد تقدَّم مِن قول موسى أنَّ أفعالَه مخلوقة لله تعالى في قولِه(14): {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء}[الأعراف:155]، فثبت أنَّ إضافة النِّسيان إلى نفسِه لأجل قيامِه(15)، لا أنَّه مخترع له، والعرب تضيف الفعل إلى مَن وُجد به(16) وإن لم يكن مخترعًا له، وقد نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة، وكذلك إضافتُه النِّسيان إلى الشَّيطان، فليس على معنى أنَّ الشَّيطان فاعل لنسيانِه، وإنَّما تأويلُه أنَّ الشَّيطان وسوس(17) إليَّ حتى نسيت الحوت لأنَّ فتى موسى إذ لم يمكنْه أن يفعل نسيانَه القائم به كان الشَّيطان أبعد مِن أن يفعل فيه نسيانًا، وكانت إضافتُه إليه على سبيل المجاز والاتِّساع.
          قال المُهَلَّب: وقولُه ╕: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ، إِنْ شِئْتَ أَعْطِنِي(18)) فمعناه والله أعلم أنَّ سؤالَه الله ╡ على شرط المشيئة يوهم أنَّ إعطاءَه عز وجهُه يمكن على غير مشيئتِه، وليس بعد المشيئة وجه إلَّا الإكراه، والله لا مكره له كما قال ╕، والعبارة الموهمة في صفات الله تعالى غير جائزة عند أهل السُّنَّة؛ لما في ذلك مِن الزَّيغ بأقلِّ توهُّم يقع في نفس السَّامع لتلك العبارة، ثم إنَّ حقيقة السُّؤال مِن الله تعالى هو أن يكون السَّائل محتاجًا إلى الله تعالى فيما سأل، محقِّقًا في سؤالِه، ومتى طلب بشرط لم يحقِّق الطَّلب؛ فلذلك أمرَه النَّبيُّ صلعم بالعزم في طلب الحاجة.
          وأمَّا قول عليٍّ: (إِنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا) ففيه أنَّ إرادة العبد للعمل ولتركِه لا يكون إلا عن إرادة الله تعالى ومشيئتِه، بخلاف قول القدريَّة أنَّ للإنسان إرادةً ومشيئةً دون إرادة الله تعالى، وقد تقدم أنَّ ذلك كلَّه مِن عمل العبد مخلوق لله تعالى، مراد له على حسب ما أراد مِن طاعة أو معصية، ومعنى قولِه صلعم: (المُؤْمِنُ كَخَامَةِ الزَّرْعِ) في هذا الباب أنَّ المؤمن يألم في الدنيا بما يبتليه الله تعالى به مِن الأمراض الَّتي يمتحنُه بها، فييسِّره للصَّبر عليها والرِّضا بحكم ربِّه واختيارِه له ليفرح بثواب ذلك في الآخرة، والكافر كلما صحَّ في الدنيا وسلم مِن آفاتِها كان موتُه أشدَّ عذابًا عليه، وأعظم ألمًا في مفارقة الدنيا، فثبت أنَّ الله تعالى قد أراد بالمؤمن بكلِّ عسر يسرًا، وأراد بكلِّ ما آتاه الكافر مِن اليُسر عسرًا، وقد تقدَّم كلامٌ في معنى هذا الحديث(19) في أوَّل كتاب المرضى.
          وقولُه: (فَذَلِكَ فَضْلِي أُوْتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) فهو(20) بيِّن في أنَّ الإرادة هي المشيئة على ما تقدَّم بيانُه، إذ التفضُّل(21) عطاءُ مَن له أن يتفضَّل به، وله ألَّا يتفضل، وليس مَن كان عليه حقٌّ فأدَّاه أو فعل ما عليه فعله يسمَّى متفضلًا، وإنَّما هو مِن باب الأداء والوفاء بحق ما لزمَه.
          وقولُه: (فَلَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَاتَلُوا فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ) فوجهُه أنَّه لمَّا نسي أن يرد الأمر لله ╡ الخلاق(22) العليم، ويجعل المشيئة إليه كما شرط في كتابِه، إذ يقول: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الإنسان:30]، وقولُه تعالى(23):{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الكهف:23-24]فأشبَه قولَه: (لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ) قولَ مَن جعل لنفسِه الحول والقوَّة، فحرَمَه الله تعالى مرادَه وما أمَّلَه.
          وأمَّا قولُه للأعرابي: (لَا بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ) فإنَّما أراد تأنيسَه مِن مرضِه بأنَّ الله تعالى يكفِّر ذنوبَه ويقيلُه ويؤخِّر وفاتَه، فوقع الاستثناء على ما رجا له مِن الإقالة والفرج لأنَّ المرض معلوم أنَّه كفَّارة للذُّنوب، وإن كان الاستثناء قد يكون بمعنى رد المشيئة إلى الله تعالى، وفي جواب الأعرابي ما يدلُّ على ما قلناه، وهو قولُه:(بَلْ(24) حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ القُبُورَ) أي ليس كما رجوتَ مِن الإقالة.
          وقولُه صلعم: (فَنَعَمْ إِذًا) دليل على أنَّ قولَه: (لَا بَأْسَ عَلَيكَ) أنَّه على طريق الرَّجاء لا على طريق الخبر عن الغيب، وكذلك قولُه: (إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ).
          وحديث عُبَاْدَة وحديث أبي هريرة في قصَّة موسى ╕، وقولُه صلعم: (لَا أَدْرِيْ أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ مِمَّن اسْتَثْنَى اللهُ) فيها كلُّها إثبات المشيئة لله ╡، وفيه فضيلة موسى ╕ لأنَّ الأمَّة أجمعت على أنَّ النَّبيَّ صلعم أفضل البشر، فإن كان لم يصعق موسى حين صعق الناس ففيه مِن الفقه أنَّ المفضول قد يكون فيه فضيلة خاصة لا تكون في الفاضل.
          واستثناء النَّبيِّ صلعم في دخول الدَّجَّال والطَّاعون المدينة هو مِن باب التأدُّب لا على الشَّكِّ الَّذي لا يجوز على الله تعالى ووجهِ التَّحريض على سكنى المدينة لأمَّته؛ ليحترسوا بها مِن الفتنة في الدِّين لأنَّ المدينة أصل دينِه فلم يسلِّط الله على سكَّانها المعتصمين بها فتنة الدَّجَّال، ولا الطَّاعون لاعتصام سكَّانها بها مِن الفتنة الكبرى، وهي الكفر المستأصل عقوبته، فكذلك لا يستأصلُهم بالموت بالطَّاعون الَّذي كان مِن عقوبات بني إسرائيل.
          وأمَّا قولُه في الصِّدِّيق أَنَّهُ ((نَزَعَ مِنَ البِئْرِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَنْزَعَ)) فهذا استثناء صحيح، وأنَّ حركات العباد لا تكون إلَّا عن مشيئة الله تعالى وإرادتِه، وكذلك قولُه: (وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ) أيَّ أنَّ الإنسان لا يتكلَّم إلَّا بمشيئة الله المحرِّك للسانِه، والمقلِّب لقلبِه، وكذلك قولُه: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ) فاستثنى فيما يستقبل مِن الأفعال، كما أمرَه الله تعالى بردِّ الحول والقوَّة إليه في قولِه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ}[الكهف:23-24].


[1] زاد في المطبوع: ((عن أبيه)).
[2] في المطبوع: ((وكراهيته)).
[3] زاد في المطبوع: ((هي)).
[4] في المطبوع: ((فبطل)).
[5] في المطبوع: ((وجب أن)).
[6] قوله: ((الله)) ليس في المطبوع.
[7] في المطبوع: ((ومعصية)).
[8] في المطبوع: ((بان فساد هذا من قولهم)).
[9] في المطبوع: ((فأعطني)).
[10] في المطبوع: ((فقال علي)).
[11] زاد في المطبوع: ((النفس)).
[12] في المطبوع: ((وليلدن)).
[13] في المطبوع: ((مثل هذا للمؤمنين)).
[14] قوله: ((في قوله)) ليس في المطبوع.
[15] زاد في المطبوع: ((به)). نسخ أخرى
[16] في المطبوع: ((منه)).
[17] في المطبوع: ((أنه وسوس)).
[18] في المطبوع: ((فأعطني)).
[19] قوله: ((كلام في معنى هذا الحديث)) ليس في المطبوع.
[20] في المطبوع: ((فذلك)).
[21] في المطبوع: ((الفضل)).
[22] في المطبوع: ((الخالق)).
[23] قوله: ((وقوله تعالى)) ليس في المطبوع.
[24] قوله: ((بل)) ليس في المطبوع.