شرح الجامع الصحيح لابن بطال

قول الله تعالى: {وكان الله سميعًا بصيرًا}

          ░9▒ بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:134]وَقَالَتْ عَائِشَةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية[المجادلة:1].
          فيه: أَبُو مُوسَى: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلعم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ: ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا) الحديث. [خ¦7386]
          وفيه: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ: (أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلعم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). [خ¦7387] [خ¦7388]
          وفيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ جِبْرِيلَ نَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ). [خ¦7389]
          غرضُه في هذا الباب أن يردَّ على مَن يقول: إنَّ معنى ((سَمِيْعٌ بَصِيْرٌ)) معنى عليم لا غير لأنَّ كونَه كذلك يوجب مساواتِه تعالى للأعمى والأصمِّ الَّذي يعلم أنَّ السَّماء خضراء ولا يراها، وأنَّ في العالم أصواتًا ولا يسمعُها ولا شكَّ أنَّ مَن سمع الصَّوت وعلمَه ورأى خضرة السَّماء وعلمَها أَدْخَلُ في صفات الكمال ممَّن انفرد بإحدى هاتين الصِّفتين، وإذا استحال كونُ(1) أحدنا ممَّن لا آفة به أكمل صفة مِن خالقِه وجب كونُه تعالى (سَمِيْعًا بَصِيْرًا) مفيدًا أمرًا زائدًا على ما يفيد(2) كونُه عليمًا.
          ثم نرجع إلى ما تضمَّنه كونُه سميعًا بصيرًا، فنقول: هما متضمِّنان(3) لسمع وبصر بهما كان سميعًا بصيرًا كما تضمَّن كونُه عالمًا علمًا لأجلِه كان عالمًا، وكما أنَّه لا خلاف بين إثباتِه عالمًا وبين إثباتِه ذا علم، وأنَّ(4) من نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، وهذا مذهب أهل السنَّة والحق.
          ومعنى قول عائشة: (الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ) أدرك سمعُه الأصوات، لا أنَّه اتَّسع سمعُه لها لأنَّ الموصوف بالسَّعة يصحُّ وصفُه بالضِّيق بدلًا منه والوصفان جميعًا مِن صفات الأجسام، وإذا استحال وصفُه بما يؤدِّي إلى القول بكونِه تعالى جسمًا، وجب صرف قولِها عن ظاهرِه إلى ما اقتضاه صحَّته للدّليل(5)، ومعنى قولِه صلعم: (فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا). نفى الآفة المانعة مِن السَّمع، ونفى الجهل المانع مِن العلم، وفي هذا القول مِنه صلعم دليل على أنَّه لم يزل سميعًا بصيرًا عالمًا، ولا تصحُّ أضداد هذه الصِّفات عليه ╡.
          وقوله: (قَرِيْبًا) إخبار عن كونِه عالمًا بجميع المعلومات لا يعزب عنه شيء، ولم يُرِدْ بوصفِه بالقرب قرب المسافة لأنَّ الله تعالى لا يصحُّ وصفُه بالحلول في الأماكن لأنَّ ذلك مِن صفات الأجسام، والدَّليل على ذلك قولُه تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}[المجادلة:7]إلى آخر(6) الآية معناه: إلَّا هو عالم بهم وبجميع أحوالِهم ما يسرُّونَه وما يظهرونَه، ومعنى حديث أبي بكر في هذا الباب هو أن دعاءَه الله تعالى بما علَّمَه النَّبيُّ صلعم يقتضي اعتقاد كونِه سميعًا لدعائِه ومجازيًا له عليه.


[1] في المطبوع: ((كونه)).
[2] في المطبوع:((يفيده)).
[3] في المطبوع:((متضمنتان)).
[4] في المطبوع:((فإن)).
[5] في المطبوع:((ما اقتضى صحته الدليل)).
[6] قوله: ((إلى آخر)) ليس في المطبوع.