شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه}

          ░23▒ بَابُ قَوْلِه تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:4]وَقَوْلِهِ تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:10]وَقَالَ ابْن عَبَّاس: بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ النَّبيِّ صلعم فَقَالَ لِأَخِيهِ: اعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذي يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {الْعَمَلُ الصَّالِحُ}[فاطر:10]يَرْفَعُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، يُقَالُ: {ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3]: الْمَلائِكَةُ تَعْرُجُ إليه.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قال: يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الْعَصْرِ وَصَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذين بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ). [خ¦7429]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَصْعَدُ إِلَيه إِلَّا الطَّيِّبُ) الحديث. [خ¦7430]
          وفيه: ابنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ). [خ¦7431]
          وفيه: أَبُو سَعِيد: (بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبيِّ صلعم مِنَ الْيَمَن بِذُهَيْبَةٍ في تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأنْصَارُ، وَقَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيَدَعُنَا، قَالَ: إنَّما أَتَأَلَّفُهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ لَهُ(1): يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللهَ، فَقَالَ: فَمَنْ يُطِيعُ اللهَ إِذَا أَنَا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأرْضِ لَا تَأْمَنُونِني(2)) الحديث. [خ¦7432]
          وفيه: أَبُو ذَرّ: (سَأَلْتُ النَّبيَّ صلعم عَنْ قَوْلِهِ(3): {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}[يس:38]قَالَ: مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ). [خ¦7433]
          غرضُه في هذا الباب ردُّ شبهة الجهميَّة المجسِّمة في تعلُّقِها بظاهر قولِه تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}[المعارج:3-4]، وقولِه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:10]، وما تضمَّنتْه أحاديث الباب مِن هذا المعنى، وقد تقدَّم الكلام في الرَّدِّ عليهم وهو أنَّ الدَّلائل الواضحة قد قامت على أنَّ الباري تعالى ليس بجسم ولا محتاجًا إلى مكان يحلُّه ويستقرُّ فيه لأنَّه تعالى قد كان ولا مكان وهو على ما كان ثم خلق المكان، فمحال كونه غنيًا عن المكان قبل خلقِه إيَّاه ثم يحتاج إليه بعد خلقِه له، هذا مستحيل، فلا حجَّة لهم في قولِه: {ذِي الْمَعَارِجِ} لأنَّه إنَّما أضاف المعارج إليه إضافة فعل، وقد كان ولا فعل له موجود، وقد قال ابن عباس في قولِه: {ذِي الْمَعَارِجِ} هو بمعنى: العلو والرِّفعة، وكذلك لا شبهة لهم في قولِه تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}[فاطر:10]، لأنَّ صعود الكلم إلىه تعالى(4) لا يقتضي كونَه في جهة العلو؛ إذ(5) الباري تعالى لا تحويه جهة إِذْ كان موجودًا ولا جهة، وإذا صحَّ ذلك وجب صرف هذا عن ظاهرِه وإجراؤُه على المجاز لبطلان إجرائِه على الحقيقة، فوجب أن يكون تأويل قولِه: {ذِي الْمَعَارِجِ} رفعتُه واعتلاؤُه على خليقتِه وتنزيهُه عن الكون في جهة لأنَّ في ذلك ما يوجب كونَه جسمًا تعالى الله عن ذلك، وأمَّا وصف الكلم(6) بالصُّعود إليه فمجاز أيضًا واتِّساع لأنَّ الكلم عرض والعرض لا يصح أن يفعل؛ لأنَّ مِن شرط الفاعل كونُه حيًا قادرًا عالمًا مريدًا، فوجب صرف الصُّعود المضاف إلى الكلم إلى الملائكة الصَّاعدين به.


[1] قوله: ((له)) ليس في المطبوع.
[2] كذا في (ز) وفي المطبوع:((ولا تأمنونني)) وهو الصواب. نسخ أخرى
[3] زاد في المطبوع: ((تعالى)).
[4] في المطبوع: ((إلى الله تعالى)).
[5] في المطبوع: ((لأنَّ))
[6] في المطبوع: ((الكلام)).