شرح الجامع الصحيح لابن بطال

ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق

          ░27▒ بَابُ مَا جَاءَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيْرِهَما مِنَ الْمخْلُوقَاتِ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تعالى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ ╡ بِصِفَاتِهِ وَأَمْرِهِ وَقَولِه، وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُكَوَّنٌ مَخْلُوقٌ.
          فيه: ابنُ عَبَّاسٍ: (بِتُّ في بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، والنَّبيُّ صلعم عِنْدَهَا؛ لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلاةُ النَّبيِّ صلعم فَتَحَدَّثَ النَّبيُّ صلعم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ، قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَرَأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[آل عِمْرَان:190]إلى قَوْلِهِ: {لِأُولِي الأَلْبَابِ}) الحديث. [خ¦7452]
          غرضُه في هذا الباب أن يعرِّفك أنَّ السَّموات والأرض وما بينَهما كلُّ ذلك مخلوق لقيام دلائل الحدث بها مِن الآيات الشَّاهدات(1) مِن انتظام الحكمة واتِّصال المعيشة للخلق فيهما، وقام برهان العقل على أن لا خالق غير الله وبطل قول مَن يقول: إنَّ الطَّبائع خالقة للعالم(2)، وأنَّ الأفلاك السَّبعة هي الفاعلة، وأنَّ النُّور والظُّلمة خالقان، وقول مَن زعم أنَّ العرش هو الخالق.
          وفسدت جميع هذه الأقوال لقيام الدَّليل على حدوث ذلك كلِّه وافتقارِه إلى محدِث لاستحالة وجود محدَث لا محدِث له، كاستحالة وجود مضروب لا ضارب له، وكتاب الله تعالى شاهد لصحَّة(3) هذا، وهو قولُه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ}[فاطر:3]، فنفى خالقًا سواه، وقال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ}[الرعد:16]، وقال عقيب ذلك: {فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}[الرعد:16]، ثم قال لنبيِّه صلعم:{قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[الرعد:16]، ودلَّ على ذلك أيضًا بقولِه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ}[آل عِمْرَان:190].
          فاستدلَّ بآيات السَّموات والأرض على قدرة الله ╡ ووحدانيَّتِه فوجب أن يكون الخلَّاق العليم بجميع صفاتِه مِن القول(4) والأمر والفعل والسَّمع والبصر والتَّكوين للمخلوقات كلِّها خالقًا غير مخلوق الذَّات والصِّفات، وأنَّ القرآن صفة له غير مخلوق، ووجب أن يكون الخالق مخالفًا لسائر المخلوقات، ووجه خلافِه لها انتفاء قيام الحوادث عنه الدَّالة على حدث مَن تقوم به، ولزم أن يكون ما سواه مِن مخلوقاتِه الَّتي كانت عن قولِه وأمرِه وفعلِه وتكوينِه مخلوقات له، هذا موجب العقل.


[1] في المطبوع: ((المشاهدات)).
[2] في المطبوع: ((العالم))..
[3] في المطبوع: ((بصحة)).
[4] في المطبوع: ((الخلق)).