شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}

          ░53▒ بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]
          فيه: عُمَرَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ(1) يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ في حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلعم عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ الله صلعم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ في الصَّلاةِ، فَصَبرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ... فذكر الحديث إلى قولِه صلعم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ). [خ¦7550]
          قد تقدَّم ما للعلماء في هذا الحديث وتأويل السَّبعة الأحرف في كتاب فضائل القرآن، فأغنى عن إعادتِه والحمد لله(2).
          قال المُهَلَّب: ومعنى قولِه تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}[المزمل:20]ما تيسَّر على القلب حفظُه مِن آياتِه، وعلى اللسان مِن لغاتِه وإعراب حركاتِه، كما فسَّرَه النَّبي صلعم في هذا الحديث.
          ونذكر في هذا الموضع ما لم يمض في فضائل القرآن، إن قال قائل: إذا ثبت أنَّ القرآن أنزل على سبعة أحرف فكيف ساغ للقرَّاء تكثير الرِّوايات وقراءتهم بسبعين رواية وبأزيد مِن مائة؟
          قال المُهَلَّب: فالجواب: أنَّ عثمان ☺ لمَّا أمر بكتابة المصاحف الَّتي بعث بها إلى البلدان أخذ كلُّ إمام مِن أئمَّة القرَّاء في كلِّ أفق نسختَه، فما انفكَّ له مِن سوادِها وحروف مدادِها ممَّا وافق قراءتَه الَّتي كان يقرأ لم يمكنْه مفارقتَه لقيامِه مِن سواد الخط(3)، وأنَّه كان عنده فيه رواية إلى أحد مِن الصَّحابة، مع أنَّه لم تكن النُّسخ الَّتي بعث بها عثمان ☺ مضبوطة بشكل لا يمكن تعدِّيه، ولا تحقيق هجاء يعيِّن معانيه؛ إذ كانوا يسمحون في الهجاء بإسقاط الألف مِن كلمة لعلمِهم بها استخفافًا لكثرة تكرُّرها(4) كألف العالمين والمساكين، وكل ألف هي في المصحف ملحقة بالحمرة.
          وقال يزيد الرَّقَاشِي: كان في المصحف {كانوا}: كنوا، و{قالوا}: قلوا، فزدنا فيها ألفًا، يريد جماعة القرَّاء حين جمعهم الحجَّاج، وكذلك ما زادوا في الخطِّ وقد كان في المصحف: ▬ماء غير يسن↨ فردَّها الحجَّاج مع جماعة القرَّاء {آسن}[محمد:15]وفي الزُّخرف: ▬مَعَايِشَهُمْ↨ فردها {مَعِيْشَتَهُمْ}[الزخرف:22].
          فكلٌّ تأوَّل مِن(5) / ذلك الخط ما وافق قراءتَه كيفما كان مِن طريق الشَّكل وحركات الحروف ممَّا يبدِّل المعنى، وقد يجوز أن يكون ذلك مِن وَهْل الأقلام، ويدلُّ على ذلك استجلاب الحجَّاج مصحف أهل المدينة وردَّ مصاحف البصرة والكوفة إليه وإبقاء ما لا يغير معنى، وما له وجه جائز مِن وجوه ذلك المعنى وصار خط مصحف أهل المدينة سنَّة متَّبعة لا يجوز فيها التَّغيير؛ لأنَّها القراءة المنقولة سمعًا، وأنَّ السِّتَّ(6) المتروكة قطعًا لذريعة الاختلاف ما وافق منها المنفكَّ مِن سواد الخط لأهل الأمصار فتواطئوا عليها جُوِّز لهم تأويلُهم فيه بما وافق روايتَهم عن صحابي لخشية التحزُّب الَّذي منه هربوا، ولكثرة مَن اتَّبع القرَّاء في تلك الأمصار مِن العامة غير المأمونة عند منازعتِها، فهذا وجه تجويز العلماء أن يقرأ بخلاف أهل المدينة وبروايات كثيرة.
          وأمَّا ما ذكر مِن قراءة ابن مسعود فهذا تبديل كلمة بأخرى كقولِه: {صَيْحَةً وَاحِدَةً}[يس:29]، قرأها هو: ▬زقية واحدة↨ و {بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ}[الصافات:46]قرأها: ▬صفراء↨ فهذا تبديل اللِّفظ والمعنى، ولذلك أجمعت الأمة على ترك القراءة بها، ولو سمح في تبديل السَّواد لما بقي منه إلَّا الأقل، لكنَّ الله تعالى حفظ(7) علينا مِن تحكم المتأوِّلين وتسلُّط أيدي الكايدين(8) على تبديل حرف بحرام إلى حلال، وحلال بحرام، وكلمة عذاب برحمة، ورحمة بعذاب، ونهي بأمر، وأمر بنهي، وأمَّا سوى ذلك(9) ممَّا هو جائز في كلام العرب مِن نصب وخفض ورفع ممَّا لا يحيل معنى فلا(10) حرج فيه.
          وقد روى البغوي حديث محمَّد بن زياد حدَّثنا أبو شهاب الحنَّاط(11) حدثنا داوود بن أبي هند عن عَمْرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه قال: ((جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم عَلَى بَابِه، فَقَالَ بَعْضُهُم: إِنَّ اللهَ قَالَ فِي آيَةِ كَذَا كَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَقُلْ كَذَا. فَخَرَجَ رَسُولُ الله صلعم كَأنَّما فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ وَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ إنَّمَا ضَلَّتِ الأُمَمُ فِي مِثْلِ هَذَا، انْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا نُهِيْتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) فدلَّ هذا أنَّه لم يكن(12) في السَّبع الَّذي نزل بها القرآن ما يحيل الأمر والنهي عن مواضعِه، ولا يحيل الصِّفات عن مواضِعها لأنَّها مأمور باعتقادِها ومنهيٌّ عن قياسِها على المعاني؛ لأنَّه تعالى بَرِيْءٌ مِن الأشباه والأنداد، وبقيت حركات الإعراب مستعملة لما انفك مِن سواد الخطِّ في المجتمع عليه، و على هذا استقرَّ أمر القراءات عند العلماء.


[1] في (ز): ((حكيم بن هشام)) والصواب المثبت.
[2] في المطبوع: ((وقد تقدم في فضائل القرآن)).
[3] في المطبوع: ((الحفظة)).
[4] في المطبوع: ((تكرر هذا)).
[5] نهاية السقط في (ص).
[6] في المطبوع: ((الستة)).
[7] في المطبوع: ((حفظه)).
[8] في (ص): ((الكاتبين)).
[9] في (ص) والمطبوع: ((وإنَّما هو ذلك)).
[10] في المطبوع: ((ولا)).
[11] في المطبوع ((ابن شهاب الخياط)) وهو تصحيف.
[12] في (ص): ((لم يك)).